المسألة:

قوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾(1)، ألا تدلّ هذه الآية المباركة على اختصاص الدين الإسلامي بالجزيرة العربيّة؟

 

ليس في الآية ما يدل على الإختصاص:

ليس في الآية المباركة دلالة على الاختصاص، وذلك لأنَّ مفادها أنَّ القرآن نزل ليُنذر أمَّ القرى وهي مكّة ومن حولها، وهي قضيّة إثباتيّة، والقضيّة الإثباتيّة تتصدّى لإثبات مفادها ولا تقتضي نفي ما سواه.

فإذا قيل: “إنَّ لزيد دارًا” فليس معنى ذلك انّه ليس له غيرها، غايته أنَّ مورد اهتمام المتكلّم حين الخطاب كان هو إثبات أنَّ لزيدٍ دارًا ولهذا اقتصر على بيان ذلك، فإثبات أنَّ لزيد دارًا لا ينفي أنَّ له دارًا أخرى ودارًا ثالثة. نعم لو اشتمل الكلام على ما يقتضي الحصر كما لو استُعملت فيه أدوات الحصر لكان في إثبات الشيء دلالة على نفي غيره، أمّا لو تجرّد الكلام من أدوات الحصر ولم يكن ثمّة قرينة على إرادة الحصر والاختصاص، فمحضُ إثبات شيءٍ لشيء لا ينفي ثبوت شيء آخر لذلك الشيء.

 وهذا هو ما عليه الآية المباركة إذ أنَّها أفادت أنَّ القرآن نزل ليُنذر أمّ القرى ومن حولها. وهذا لا يقتضي أنّه لم ينزل لإنذار آخرين غير مَن هم في أمّ القرى وما حولها.

 وبذلك لا تكون هذه الآية المباركة منافية لمثل قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ…﴾(2) وقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا…﴾(3) وقوله تعالى: ﴿هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ…﴾(4) وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا…﴾(5) وقوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾(6) وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾(7) وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾(8) وقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(9) وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾(10)، وآيات أخرى كثيرة صريحة في عالميّة الرسالة الإسلاميّة.

 سياق الآية يؤكد على عدم الاختصاص:

ثمَّ أنَّ الآية المباركة وقعت في سياقٍ يُؤكد عدم إرادتها للحصر، فقد سبق هذه الآية المباركة حديث عن الأنبياء ثمَّ أفاد الله تعالى بقوله: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾(11) فما سبق هذه الآية بآية واحدة هو التصريح بأنَّ رسالة النبيّ محمّد (ص) رسالةٌ للعالمين ثمَّ وصَّفت الآية التي بعدها الكتاب الذي أُنزل على موسى بأنّه هدًى للناس فقالت: ﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ…﴾(12) وبعدئذٍ تصدّت الآية التي تلتها لتوصيف القرآن بأنّه مبارك ومصدّقُ الذي بين يديه، فهو إذن يستهدف الغايةَ التي من أجلها أُنزلت التوراة والذي وصفه القرآن في الآية التي سبقت هذه الآية بأنّه نور وهدًى للناس.

 الخلاصة:

والمتحصّل أنّ الآية لما كانت واقعة في هذا السياق وقد سبقها تصريح بأنَّ رسالة النبي (ص) جاءت لتكون ذكرًا للعالمين، وقد لحقت هذه الآيات كما سبقتها نزولاً وفي مكّة الشريفة آياتٌ كثيرة صرّحت بأنَّ القرآن أُنزل لينذر مَن كان حيًّا وأنّه ذكرى للعالمين وانّه بلاغٌ للناس وأنَّ رسول الله (ص) رحمة للعالمين وأنّه بُعث كافّة للنّاس بشيرًا ونذيرًا. فحيث أنَّ الأمر كان كذلك فإنَّه لا يصح استظهار الحصر من مفاد الآية خصوصًا وأنَّها -كما قلنا- صِيغت على نهج القضايا الإثباتيّة والتي لا يَفهم منها أهلُ المحاورة على اختلاف لغاتهم سوى التصدِّي لإثبات شيءٍ لشيء دون أن يكون ذلك مقتضيًا لإفادة نفي غيره عن ذلك الشيء. 

فلو خاطب أحدٌ جمعًا وقال لهم: (لقد بُعثتُ لكم) فإنَّ أحدًا لا يفهم من هذا الخطاب انّه لم يُبعث لغيرهم، ولذلك لو أفاد المتكلّم بعد ذلك انّه بُعث لغيرهم أيضًا أو كان له خطاب سابق أفاد انّه بُعث لغيرهم فإنَّه لا يصح وصف هذا المتكلّم بأنَّه قد ناقض كلامه.

وبما ذكرناه يتضّح الجواب عن آية أخرى وردت في سورة الشورى وهي قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ…﴾(13)، فإنَّ مثل هذه الآية لا تنافي ما أفادته الآيات الكثيرة من التصريح بأنَّ القرآن الكريم نزل من عند الله تعالى ليكون ذكرى للعالمين وأنَّ نبي الإسلام بُعث كافّة للناس.

وجه التنصيص على ﴿أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾:

وأما وجه التنصيص على ﴿أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ في الآيتين فهو لغرض التعبير عن أنَّ أم القرى ومن حولها هي منطلق الدعوة الإسلاميّة، وفيهم بدأ الرسول (ص) دعوته فيكون مساق الآيتين هي مساق قوله تعالى على لسان عيسى (ع) مخاطبًا بني إسرائيل: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ…﴾(14)وكذلك ما ورد في توصيف عيسى في سورة آل عمران: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولاً إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ…﴾(15) وكذلك ما ورد في سورة غافر: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾(16) فإنَّ مثل هذه الآيات المباركة لا تقتضي استظهار اختصاص رسالة عيسى وموسى ببني إسرائيل، إذ لا دلالة لها على أكثر من أنَّ عيسى وموسى قد بُعثا لبني إسرائيل أمّا أنهما لم يبعثا لغيرهم فهذا ما لم تتصدَ هذه الآيات لنفيه أو إثباته، ولذلك لا تكون هذه الآيات منافية لما دلّ على عموم الرسالة التي بُعثا بها. 

فالتنصيص على بني إسرائيل في مثل هذه الآيات كان لغرض التعبير عن أنّهم كانوا منطلقًا لدعوة النبيَين الكريمَين (ع) وكذلك فإنَّ التنصيص على أمّ القرى ومن حولها كان لغرض التعبير عن أنَّها كانت منطلقًا لدعوة النبي الكريم (ص) فهم من حظي بهذا الشرف، فكان النبيّ محمّد (ص) منهم ونزل القرآن بلغتهم. فكما أنَّ نزول التوراة والإنجيل بلغة بني إسرائيل وانطلاق دعوة النبيَينِ الكريمَين منهم لم يكن عائقًا عن عالميّة الديانتين فلتكن لغة القرآن وانطلاقه من أمّ القرى كذلك.

ثمَّ إنَّ هنا جوابًا آخر ذكره جمع من المفسرّين(17) وهو أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾(18) هو شرق الأرض وغربها، فلأنَّ مكّة في الاعتبار الإسلامي مركز الأرض فما حولها هو عموم الأرض، ويمكن تأييد ذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾(19) فمكة هي مركز الهداية العالمية بمقتضى هذه الآية المباركة. فليس المقصود بناءً على ذلك من قوله: ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ هو خصوص الجزيرة العربية حتى يُقال: أنَّ الدعوة الإسلامية مختصّة بمَن هم في جزيرة العرب.


المجيب: الشيخ محمد الصنقور

1– سورة الأنعام آية رقم 92.

2– سورة الأنعام آية رقم 19.

3– سورة يس آية رقم 69-70.

4– سورة إبراهيم آية رقم 52.

5– سورة سبأ آية رقم 28.

6– سورة الأنعام آية رقم 90.

7– سورة يوسف آية رقم 104.

8– سورة الأنبياء آية رقم 107.

9– سورة الفرقان آية رقم 1.

10– سورة الصف آية رقم 9.

11– سورة الأنعام آية رقم 90.

12– سورة الأنعام آية رقم 91.

13– سورة الشورى آية رقم 7.

14– سورة الصف آية رقم 6.

15– سورة آل عمران آية رقم 48-49.

16– سورة غافر آية رقم 53.

17– تفسير مجمع البيان- الشيخ الطبرسي- ج4 ص110، التبيان- الشيخ الطوسي- ج4 ص200، جامع البيان- إبن جرير الطبري- ج7 ص352، معاني القرآن- النحاس- ج2 ص457.

18– سورة الأنعام آية رقم 92.

 

19– سورة آل عمران آية رقم 96.