ملاحظة قبل الدخول في الصراع

قال الناقد (د. العظم) في الصفحة (83) من كتابه : “قبل أن أدخل في صلب الموضوع أريد أن يتضح للجميع بأن بحثي يدور في إطار معين ، لا يجوز الابتعاد عنه على الإطلاق ، ألا وهو إطار التفكير المثيولوجي – الديني الناتج عن خيال الإنسان الأسطوري وملكاته الخرافية – إنني لا أريد معالجة قصة إبليس باعتبارها موضوعاً يدخل نطاق الإيمان الديني الصرف ، ولا أريد أن أتكلم عنه باعتباره كائناً موجوداً حقيقياً ، وإنما أريد دراسة شخصيته باعتبارها شخصية ميثولوجية أبدعتها ملكة الإنسان الخرافية وطوَّرها وضخمها خياله الخصب”.

فلا يغترَّ القارئ ببعض أقواله الدينية في صلب الموضوع ، لأنه مضطر إلى إيرادها لدراسة القصة من خلالها ، على اعتبارها واعتبار كل ما يتصل بها خرافة من الخرافات وأسطورة من وضع الإنسان .

كتب (د. العظم) في كتابه “نقد الفكر الديني” فصلاً خاصاً بعنوان : “مأساة إبليس” ، وكان هذا الفصل محاضرة ألقاها .

زعم فيما كتب أن قصة إبليس أسطورة خيالية من الأساطير الدينية ، مثلها كمثل الأساطير الخيالية التي تنتهي بمأساة درامية ، وإبليس بطل هذه المسألة قديس بحسب تفسيراته التي اعتمد فيها على آرائه الشخصية ، وعلى آراء باطنية شاذة اعتمدت على المذهب الجبري في موضوع القضاء والقدر ، وهو مذهب مرفوض كما علمنا ، وما اشتمل هذا المذهب عليه من أفكار لا يمثل العقيدة الإسلامية الصحيحة ، لذلك فإن جميع ما بناه على هذا الأساس من تفسيرات ومفاهيم وأسئلة وإشكالات ساقط مردود ، باعتبار أن الأساس الذي بنى عليه أساس مرفوض دينياً ، وما بني على فاسد فهو فاسد .

ولم يكتفِ باعتبار قصة إبليس الواردة في القرآن قصة أسطورية ، بل هو يعتبر سائر القصص الدينية الصحيحة من قبل القصص الأسطورية ، فقصة إبراهيم وأمر الله له بذبح ولده أسطورة مأساة درامية خيالية في نظره ، وقصة أيوب وبلائه أسطورة مأساة ،وهكذا ، ولكن أعظم بطل ذي قصة مأساوية في نظره هو إبليس ، لأنه تحدى الموقف المأساوي ببطولة .

من الطبيعي أن ينكر القصص الدينية بعد أن أنكر وجود الله ، وأنكر الشرائع السماوية كلها ، وأنكر القرآن وصحة نسبته إلى الله جلَّ وعلا .

إن العقيدة الإسلامية بكل أركانها وفروعها مبنية على أصل واحد هو الإيمان بالله ، فمن اجتث من فكره وقلبه ووجدانه هذا الأصل فكل كلامه في الفروع كلام جدلي محض لا أساس له ، ولا بد أن تكون مناقشته فيه متسمة بالمغالطات والأكاذيب والمشاغبات والعمل على طي الحقائق وكتمانها ، والاقتصار على الجوانب التي تفيده في المعركة الجدلية ، مثله في ذلك مثل المصارع الذي يصنع بيده وعلى وفق هواه دميةً لخصمه ، ثم يدخل معها إلى حلبة الصراع على أنها هي خصمه الحقيقي ، ويصارعها كما يشاء ، ويلعب بها كما يشاء ، ثم يظهر انتصاره عليها . أو كمثل المصارع الذي يستخدم بعض المرتزقة من المصارعين ، ويطلب منه أن يلبس قناع خصمه الحقيقي ، وينزل بدل الخصم في حلبة المصارعة ، على أن يصارع مصارعة ضعيفة ، ينهزم في أعقابها عند حلول الزمان المعلوم ، ووفق صورة مرسومة متفق عليها سابقاً .

وما أكثر هؤلاء المقنعين من الذين يتظاهرون بالدفاع عن الدين ، ويصارعون أعداءه بضعف ظاهر ، ثم ينكشفون بعد محاولات باردات ، لا يستخدمون فيها أية قوة من القوى الدينية الصحيحة ، ويقبعون أخيراً في الزوايا مهملين ، ويبقى أعداء الدين في الحلبة بعدهم يجولون .

وبعض هؤلاء يقدمون ما يلزم من حركات ليستخدمها الطرف المقابل الذي رسم له النجاح مقدماً ، وليقوم بحركات بهلوانية تعجب الناظرين ، وتلفت إليه الانتباه كله ، وتصوِّره في نفوس المشاهدين بصورة البطل المصارع الذي لا يُغلب .

ولقد غدت هذه اللعبة الخداعية لعبة مكشوفة لدى الجماهير ، في حلبات الرياضة البدنية ، وفي حلبات السياسة ، وفي حلبات المذاهب الفكرية المختلفة ، وفي حلبات المعارك الحربية أيضاً ، وهي في حلبات الصراع ضد الدين كثيرة جداً ، ومتعددة الوجوه والصور والأشكال ، ومختلفة السمات والملامح .

ومن عجيب أمر (د. العظم) أنه أقام من نفسه عارضاً للصورة الإسلامية كما يهوى ، ومدعياً على الإسلام وفق الصورة التي رسمها هو ، ومحامياً عنه كما يشتهي ، ومحامياً ضده كما يريد ، وقاضياً مشاركاً في دراسة الدعوى ، وأخيراً جعل من نفسه حاكماً لا يقبل حكمه الاستئناف ولا التمييز ، وهو قبل كل ذلك الخصم الذي يدبر المكايد ، ويصنع الأكاذيب ، ويلفق الحيل لهدم الإسلام هدماً كلياً ، ولا يألوا جهداً في توجيه أي حرب ضده وضد المسلمين ، خدمة للماركسي ، ومن ورائها اليهودية العالمية .

وحينما يستشهد بأقوال بعض المسلمين فإنه لا يستشهد إلا بالأقوال الشاذة والآراء المنحرفة ، ويتصيدها تصيداً من ضمن الآراء الصحيحة السليمة ، ويقدمها على أنها هي وحدها الممثلة للفكرة الإسلامية في موضوع البحث الذي يناقضه ، ويطوي ما عداها من الآراء والمفاهيم ، أو يشير إليها إشارة خفيفة دون بيان ، وعلى طريقته التي عرفناها فيه يغالط في الحقائق ، فيعمم الخاص، أو يخصص العام من عنده ، أو يكذب في النسبة ، أو يؤول من عنده تأويلاً فاسداً ، أو يحرف في المراد من المعاني ، إلى غير ذلك من أصول المغالطات .

نقل شطحات الحلاج الشاذة القائمة على العقيدة الجبرية ، وعلى التفسيرات الباطنية ، والتعبيرات الرمزية ، واعتبرها هي الممثلة للفكرة الإسلامية في موضوع إبليس وقصته ، مع أن هذه الأقوال مخالفة للنصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية مخالفة صريحة ، ولا تحتمل هذه النصوص تلك المعاني الباطنية الشاذة ، لا في أسلوبها العربي ، ولا في دلالتها الفلسفية ، وما هي إلا تحريف في الدين بآراء فلسفية لاهوتية دخيلة على الفكر الإسلامي .

واعتمد آراء عز الدين المقدسي في كتابه “تفليس إبليس” لأنها في مضمونها تتضامن مع الشطحات الحلاجية الباطنية ، الجانحة عن المفاهيم القرآنية ، بالآراء الدخيلة على الفكر الإسلامي ، والتي أفسدت بعبثها نقاء الحقيقة الدينية الظاهرة من النصوص الإسلامية ، وهي الحقيقة التي فهمها أصحاب رسول الله  والعلماء والأعلام من بعدهم ، ثم دخلت من بعد ذلك المذاهب المشبوهة في غاياتها ، فأفسدت ما أفسدت . وتتابع المضللون من بعدهم يعتمدون أقوالهم ويبنون عليها لمحاربة الإسلام والمسلمين .

لكن الله يحمي دينه من المخربين من داخل الصفوف ، والمحاربين من خارجها، ويحق الله الحق ويبطل الباطل ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .

إبليس في الفكر الإسلامي

إبليس هو واحد من الجن ، والجن مخلوقات غير الملائكة ، وهما جميعاً غير الإنس ، ولكل صنف من هذه المخلوقات خصائص وسمات . فالملائكة خلقهم الله من نور ، والجن خلقهم الله من مارج من نار (أي: من أخلاط من النار) ، والإنس خلقهم الله من طين كما هو معلوم (أي: من عناصر مختلفة من الأرض ترابها ومعادنها ومائها).

وقد دل على هذه الفوارق في عناصر التكوين ما رواه مسلم عن عائشة ، عن الرسول  أنه قال : “خُلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم”.

وقد أثبت القرآن الفرق بين عنصري الإنس والجن وفق الصورة نفسها التي وردت في هذا الحديث ، فقال الله تعالى في سورة (الرحمن/55 مصحف/97 نزول):

{خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ * وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}

وفي احتجاج إبليس إذ رفض أمر الله له بأن يسجد لآدم قال فيما يحكيه الله عنه في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول):

{أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}

والملائكة مخلوقون قبل الإنسان ، بدليل أن الله عرض على الملائكة قبل خلق آدم قضاءه بأنه خالق بشراً من الطين .

والجن أيضاً مخلوقون قبل الإنسان ، بدليل قول الله تعالى في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ منْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ }

الصلصال: هو الطين اليابس الذي يصلصل إذا نقرته .

والحمأ : هو الطين الأسود المتغير .

والمسنون: هو المصور .

فهذه الحقائق المستفادة من النصوص الإسلامية توضح تماماً اختلاف العناصر التكوينية بين الكائنات الثلاثة : (الملائكة – الجن – الإنس) ، وتوضح أن الملائكة والجن مخلوقون قبل الإنسان .

وإبليس هو من الجن لا من الملائكة على خلاف ما زعم (د. العظم) ، وزعم أن الملائكة ليسوا بمنجاة من الغواية ، كما أراد أن يفهم من النصوص الإسلامية ، وإن كان هو بالأساس لا يؤمن بوجود الملائكة ولا بوجود الجن أصلاً ، والدليل على أن إبليس من الجن لا من الملائكة قول الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول):

{وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ..}.

فهذا يوضح لنا أن عنصره كان من عنصر الجن لا من عنصر الملائكة ، يضاف إليه ما ثبت في النصوص من أنه مخلوق من مارج من نار ، أما الملائكة فهم مخلوقون من نور .

إذن فقد كان إبليس بين الملائكة عنصراً دخيلاً ، وقد كشفه الامتحان ، والذي سمح له بأن يدخل بين صفوف الملائكة وجود التشابه الصوري ، والمشاركة في بعض الخصائص بين الجن والملائكة ، حتى كان إبليس يعبد مثل عبادة الملائكة ويخالطهم في بعض أعمالهم ، وهذا ما يظهر من تفسير دخوله في عموم أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، ويحتمل أن يكون الأمر بالأساس موجهاً للملائكة والجن معاً بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر ، والله أعلم بالحقيقة ، لكن كون إبليس من عنصر الجن لا من الملائكة أمر محقق بصريح النص الذي لا يحتمل التأويل .

ويؤكد هذه الحقيقة ظهور المعصية منه بعد الامتحان ، وذلك لأن الملائكة من خصائصهم التكوينية أنهم لا يعصون لله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وقد دلت على هذه الحقيقة نصوص قرآنية كثيرة ، منها قول الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول):

{وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}.

ووصفهم الله بقوله أيضاً في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول):

{لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}

وظاهر أن إبليس قد استكبر على طاعة الله إذ أمره الله بالسجود لآدم ، ولم يعمل بأمره تعالى ، فهو عنصر مغاير لعنصر الملائكة ، له إرادة حرة ، ودوافع نفسية تدفعه إلى المعصية ، ولديه شروط التكليف كاملة .

ولكن (د. العظم) غالَطَ في هذه الحقائق وتلاعب بمفاهيم النصوص كما راق له ، ليبني بناءاته الفاسدة على الصورة التزييفية التي صنعها .

وبيان هذه الحقائق أخذاً من صريح النصوص سقط ادعاؤه الفاسد أن النصوص تفيد أن إبليس ملك من الملائكة ، وقد عصى لأن الملائكة عرضة لفعل الخير والشر والهداية والغواية كالإنسان .

وإذ عصى إبليس وهو من الجن فليس معنى ذلك أن الجن كلهم عصاة ، بل هم كالإنس ، بعضهم مؤمنون مطيعون ، وبعضهم عصاة ، وبعضهم كافرون ، ومردة كفار الجن هم الشياطين وهم ذرية إبليس جنوده .

ولما عصى إبليس ربه وأصر على عصيانه ولم يتب إلى بارئه ، وإنما جادل وعاند فطرده الله من رحمته ، تحدى فآلى على نفسه أن يغوي الإنسان ، وأن يتخذ جنوداً من الجن للإغواء ، بعد أن أخذ من ربه وعداً بأن ينظره إلى يوم الدين ، فقال الله له : إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ، أي : إلى يوم إنها ظروف هذه الحياة الدنيا لا إلى يوم الدين .

وفي الناس شياطين أيضاً ، والشياطين من الناس هم الكفرة بالله ، الذين يقومون بوظيفة إغواء الناس وصدهم عن سبيل الله ، فهم مردة كفار الإنس ، وهم شياطين الجن يتولى بعضهم بعضاً ، وينصر بعضهم بعضاً ، ويكمل بعضهم بعضاً ، في أعمال الإفساد والوسوسة والتضليل ، قال الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}

وقد ذكرني هذا بالنقاد (د. العظم) ، إذ دافع عن إبليس بما لم يدافع به إبليس عن نفسه بين يدي ربه ، فتمم له بعد أن نفذ فيه حكم الطرد من رحمة الله بنود الدفاع التي كان قد نسيها وهو بين يدي المحاكمة الربانية ، وما أظن أن المحاكمة ستستأنف ، لورود حيثيات جديدة تنبَّه إليها (د. العظم) ولم يكن قد تبنَّه إليها المدَّعى عليه إبليس يوم رفض السجود لآدم .

لقد تلاعب “سيادته” بمضامين القصة ، وهو غير مؤمن بها أصلاً ، ليشوش على المؤمنين مفاهيمهم وعقائدهم .

إن إبليس مؤمن بربه ، إلا أنه عاصٍ معاند متمرد ، مستكبر على أمر به ، وبذلك كَفَرَ كُفْرَ تمرد على الطاعة ، ثم لما طُرد من الرحمة تصدى لإغواء الناس وإفسادهم .

أما “سيادته” فهو يحمل كل هذه الصفات مضافاً إليها الجحود بالله والكفر به وإنكار وجوده أصلاً ، فهو بهذا أكثر إيغالاً في الكفر ، وأكثر عناداً وتمرداً ، وأقدر على المجادلة بالباطل .

وصدق الله العظيم . لقد وصف الإنسان بقوله في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول):

{…وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}.

قال (د. العظم) في الصفحة (91) من كتابه:

“برَّر إبليس رفضه السجود لآدم تبريراً منطقياً واضحاً إذ قال : (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) “.

ومن العجيب أن يؤمن “سيادته” وهو ماركسي المذهب بالفوارق العنصرية ، فيرى أن من كان أصل تكوينه من النار هو أشرف وأكمل تكويناً عنصرياً ممن كان أصل تكوينه من الطين .

لو قال هذا الكلام واحد من المصابين بداء الكبر الطبقي العنصري الأرستقراطيين لكان كلامه منسجماً مع مذهبه ، أما أن يقوله ماركسي يحارب الأرستقراطية والكبر الطبقي العنصري فهو شيء عجيب ، لكن ما دام مثل هذا الكلام يخدم قضية الإلحاد فلا مانع لديه من أن يتبناه ويجعله أصلاً منطقياً ، ويدافع به عن إبليس ؛ ويجعل حجته فيه حجة منطقية ، ويسهب في شرحها وتأييدها ، فيقول في دفاعه عنه:

“عن إمعان النظر بحجة إبليس الأولى التي تتألف من مفاضلته بين جوهره (النار) وبين جوهر آدم (الصلصال) نجد أنها لم تكن استكباراً وفخاراً ، بقدر ما كانت استذكاراً لحقيقة أساسية شاءها الله وأوجدها على ما هي عليه . وهذه الحقيقة هي أن الله لم يخلق الطبائع على درجة واحدة من السمو والكمال إنما ميَّز بينها ، ليس من حيث خصائصها الطبيعية والمادية فحسب بل من حيث درجات كمالها ورفعتها أيضاً . وبناءً عليه ففي إمكاننا أن نصنِّف الكائنات والأنواع في نظام تقديري معيَّن يبدأ بالكمال المطلق ذاته ، ثم يتدرج بالأنواع كلٌّ حسب درج كماله التي أسبغها الله عليه ، إلى أن نقترب من العدم باعتباره الحد الذي نقف عنده ، ولا ريب أن النار بطبيعتها وجوهرها تحتل مرتبة أسمى وأرفع في هذا الترتيب من المرتبة التي يحتلها الصلصال .بعبارة أخرى تنطوي مفاضلة إبليس بين جوهره وبين جوهر آدم على نظرة فلسفية معينة لنظام الكون وترتيب الطبائع وفقاً لدرجات الكمال التي تتصف بها . لذلك كان إبليس على حق في جوابه ، لأن الخالق جعل الأشياء على ما هي عليه من درجات الكمال والسموّ ، وأمر السجود لآدم يشكل مخالفة صريحة لهذا النظام وخروجاً على الترتيب الذي شاءه الله وأوجده . فإذا كان جوهر إبليس أرفع في سلم الكمالات من جوهر آدم فلن تستطيع النار عندئذٍ أن تذل للصلصال إلا بالسير في اتجاه مضاد لطبيعتها ومنافٍ لدرجة الكمال التي أسبغها الله عليها ، وهذا أمر محال ما لم يطرأ تحول جذري على المشيئة الإلهية فتغير ترتيب الطبائع عما كانت عليه منذ أن أوجدها الله “.

هذه الحجة الإبليسية التي شرحها (د. العظم) منقوضة من عدة وجوه واقعية وفلسفية ، وليس لها سند إلا الكبر العنصري .

أولاً: من أين له بأن يحكم حكماً قاطعاً للنار المتلفة المحرقة بأنها أرفع عنصراً من الماء والتراب المنبتين المخصبين اللذين فيهما الخير الكثير ، وهما مادة لحياة فيها كمال عجيب ، وهما وفق نظرية النشوء والارتقاء التي يعتقدها اتباعاً للداروينية يقعان في درجة أرقى وأرفع من الدرجة التي تحتلها النار ، لأن الأرض كانت ناراً فبردت صارت على ما هي عليه بعد أن مرت بدرجات ارتقائية متعددة ، فكان منها الحيوان ثم كان منها الإنسان .

فأين منزلة النار من التراب على هذا وفق مذهبه؟

ثانياً: هل العبر بأصل العنصر ، أم العبرة بما نتج عنه وخلق منه وظهر فيه؟

أهان على سيادته أن يهدم كل مذهبه الديمقراطي لأن ذلك يخدم في نظره معارضة الدين فيما جاء فيه من مفاهيم وحقائق ، فأخذ يؤيد الأرستقراطية الطبقية العنصرية؟

هذا مع أن الإنسان بعد تكوينه من الطين ظهر أنه أسمى في خصائصه العلمية الاستنباطية من الجن المخلوقين من النار ، فهو بعد التكوين أكمل وأسمى مرتبة من الجن ، بتكوين الله .

حتى الآن ظهر لنا أن “سيادته” قد ناقض نفسه مرتين في قضية واحدة ، ليدافع عن موقف إبليس ، ويدعم رفضه أن يسجد كما أمره الله .

في المرة الأولى : ناقض نفسه في نظرية النشوء والارتقاء التي يعتقدها .

وفي المرة الثانية :ناقض نفسه في المذهب الديمقراطي الذي يتبعه .

ثالثاً: لو كان سجود إبليس لآدم أمراً منافياً لطبيعته المخلوقة من النار لكانت الملائكة بذلك أحرى منه ، لأنهم مخلوقون من عنصر هو أرفع من الطين من النار ، ألا وهو عنصر النور ، ومع ذلك فإنهم قد سجدوا كلهم أجمعون ولم يعصِ الله منهم أحد ، فظهر أن إبليس لم يكن له عذر مقبول في رفض السجود ، وأن هذا السجود ، ما كان ليضاد طبيعته التي فطره الله عليها .

رابعاً: حينما رفض إبليس أن يسجد لآدم إنما رفض أمر التكليف الرباني له ، وأمر التكليف في مجال الامتحان لا بد أن يشتمل على عنصر مخالفة للنفس ، واجتياز عقبة من عقباتها ، وإلا لم يكن تكليفاً كاشفاً للطاعة أو للمعصية لدى الإرادة الحرة ، ولو كان التكليف موافقاً لأهواء النفس وشهواتها لما كان في الحقيقة امتحاناً للإرادة بين طريقي الطاعة والمعصية . وهذه العقبة في إبليس كانت كبر نفسه ، فعلَّته الحقيقية هي مرض الكبر العنصري الطبقي الأرستراطي ، وحين امتحن في مجال هذه العقبة النفسية سقط في الامتحان ، ثم أصرَّ ولم يتراجع .

وها ما دمغه الله به في قوله له كما جاء في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول):

{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ}.

فكانت عقوبة التكبر الذي تكبره صَغاراً وذلةَّ ، ولم يدافع إبليس عن نفسه بأنه لم يتكبر ، أو بأن السجود كان منافياً لطبيعته التي فطره الله عليها ، وإنما أصرَّ وعاند .

وأوضح الله أيضاً عنصر استكبار إبليس وعناده في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ}

وأوضح الله عناصر محاكمته لإبليس في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول):

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِني خَالِقٌ بَشَراً من طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ ٱلْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ * قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ منْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدينِ}

فهذه النصوص كلها تحقق أن علة رفض إبليس السجود إنما كان عنصر الاستكبار في نفسه .

فمن أين للنقاد (د. العظم) أن يزعم أن هذا الرفض لم يكن استكباراً وفخاراً بقدر ما كان استذكاراً لحقيقة أساسية شاءها الله وأوجدها على ما هي عليه ، مادام يحلل القصة من نصوصها تحليلاً لغوياً وهو لا يؤمن بها أساسً ، كما لا يؤمن بأية حقيقة دينية؟

ولدى المقارنة بين الامتحان الذي أجراه الله لإبليس ، والامتحان الآخر الذي أجراه الله لآدم ، نلاحظ أن ابتلاء إبليس قد كان في مخالفة جرثومة الكبر في نفسه فسقط في الامتحان بعد أن كان قائماً بالطاعات التي لا تصادم هوى في نفسه ثم أصر على الاستكبار والعناد والتمرد ، أما ابتلاء آدم فقد كان في مخالفة جرثومة الشهوة في نفسه فسقط في المعصية ، فعوقب ، ولكنه لم يصر ولم يعاند ، بل رجع وأناب ، واستغفر الله وتاب ، ففتح الله له باب القبول ونجح في الدور التكميلي .

وحين نمنع النظر في العناصر الحقيقية التي تقتضي تفضيل بعض الكائنات على بعض ، فلا بد أن نلاحظ أن الله قد فضل الإنسان المخلوق من الطين على الجن المخلوقين من النار ، بما وهبه من خصائص عملية استنباطية ، ليست موجودة لدى الجن ، ويرى كثير من الباحثين أن الله فضله بهذه الخصائص على الملائكة أيضاً ، بدليل أن الله أمر الملائكة بالسجود له ، وبدليل أن الله علَّم آدم الأسماء كلها في حين أن الملائكة أعلنوا عجزهم فقالوا : {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}.

وبعد أن درسنا الخصائص الإنسانية وعرفناها تبين لنا أن الإنسان قادر على إدراك الأشياء الغائبة عنه ، عن طريق الاستنباط من سماتها وآثارها القريبة أو البعيدة ، فهو يستطيع بالتأمل والاستنتاج أن يدرك بعقله ما لا يدركه بحواسه إدراكاً مباشراً .

فلعل هذا هو ما امتاز به آدم أبو البشر على الملائكة الذين أعلنوا أنهم لا يعلمون إلا ما يعلمهم الله إياه بطريق مباشر ، أما أن يعلموا سمات الأشياء وخصائصها عن طريق الاستنباط العقلي فهذا أمر لا يملكونه ، ولما وضع الله آدم موضع الامتحان أظهر براعته بهذا الشأن ، وبذلك ظهرت للملائكة حكمة الله الجليلة في خلق الإنسان وإبداعه .

وقد يشهد لهذا قول الله تعالى في سورة (التين/95 مصحف/28 نزول):

{لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}

فهذا النص يشعر بامتياز الإنسان على سائر ما خلق الله وسائر من خلق الله بأنه مخلوق في أحسن تقويم .

ولا ينقص هذا الامتياز كون الملائكة والجن أقدر من الإنسان في كثير من الأعمال الجسدية المباشرة ، بحسب تصورنا للملائكة والجن المقتبس من دلالات النصوص الدينية ، لأننا حينما نلاحظ الجوانب الفكرية والنفسية للإنسان يظهر لنا أن الإنسان باستطاعته أن يستخدم كل الطاقات الكامنة في الكون بالبحث عن سماتها وخصائصها ، والحيلة في النفاذ إليها وتسخيرها تسخيراً هائلاً ضمن أغراضه ومصالحه ، وهذا ما تعجز عنه الجن والملائكة ، وهو يدل فعلاً على أن الإنسان مخلوق في أحسن تقويم .

ولكن هذا الإنسان المخلوق في أحسن تقويم سيهبط إلى أسفل سافلين إذا كفر بربه وجحد جحوده أو أشرك به أحداً ، وذلك إذ وجَّه ما لديه من قدرة استنباط وبحث لمعرفة خصائص الطبيعة وكوامنها ، ثم أقام بينه وبين الحقيقة الكبرى حقيقة وجود الله سداً من الجحود والعناد والكبر ، فراراً من طاعة الله وعبادته ، وتطاولاً إلى مقام الألوهية إذ تنزع نفسه إلى تأليه ذاته ، صرح بذلك أو لم يصرح ، وأخلاقيته هذه هي التي ترده إلى أسفل سافلين ، بعد أن كان في أحسن تقويم .

وينجو من هذا الردّ الشائن المهين الذين آمنوا بربهم وبما جاءهم من لدنه ، وعملوا الصالحات في حياتهم ، فهؤلاء يحافظون على بعض مستويات الامتياز الذي وهبوه في أصل الخلق ، ومن هؤلاء من يحافظ على المستوى الرفيع ، فيبقى أفضل من الملائكة ، ومنهم من ينزل عنه على قدر معاصيه وتقصيراته ، ولذلك قال الله تعالى في سورة (التين/95 مصحف/28 نزول):

{لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}

أي : فلهم أجر غير مقطوع .

فدلائل النصوص تؤكد أن أمر الله للملائكة بالسجود لآدم أمر منسجم مع منطق الأفضلية ، على أنه لو لم يكن آدم قد فضَّله الله بأية ميزة ، ثم أمر الملائكة بالسجود له ، لكان عليهم أن يسجدوا امتثالاً وطاعة للأمر الإلهي ، لا عبادة لآدم ، ويكون آدم قبلة سجودهم ، كما أن أمكنة خاصة من الأرض هي قبلة العابدين ، حينما يتوجهون لله بالصلاة ، توحيداً للجهة وتوحيداً لصفوف المؤمنين .

وباستطاعتنا أن نلتمس حكمة أخرى لهذا الأمر بالسجود لآدم ، إذ نستعرض قصة خلق آدم كما قصها الله علينا .

تشتمل هذه القصة على عرض سابق من الله للملائكة بأنه سيخلق بشراً ، وعلَّم الملائكة بأن هذا المخلوق الجديد سيزوَّد بخصائص نفسية وإرادية وفكرية تجعله يفسد في الأرض ويسفك الدماء ويعصي الله تعالى ، فوجَّهوا إلى الله تساؤلاً فيه رائحة الاعتراض على حكمة الله في الخلق ، فكان الجواب الأولى لهم يتضمن أن الله يعلم ما لا يعلمون ، وكان الجواب الثاني لهم جواباً تطبيقياً عملياً ، إذ ميَّز الله آدم بعلم الأسماء كلها ، أي : بمعرفة سمات الأشياء وخصائصها واستنباط ما في بواطنها ، وهذا أمر أعلن الملائكة عجزهم عنه ، وكان لا بد من تكفير على التساؤل الذي بدت منه رائحة الاعتراض على حكمة الله في الخلق ، فأمر الله الملائكة بالسجود لهذا المخلوق نفسه الذي تساءلوا عن الحكمة من خلقه ، فسجدوا له ، وكفَّروا بسجودهم هذا عن سابق تساؤلهم ، ولم يكن أي سجود آخر دليلاً على الإذعان والتكفير في هذا الموضوع بالذات ، لأن الملائكة ساجدون لله ، عابدون له ، مسبِّحون بحمده ، مقدسون له دائماً ، فلو قال لهم اسجدوا لي لكان أمراً بتحصيل الحاصل الذي لم ينقطعوا ولن ينقطعوا عنه ،وكان هذا الأمر نفسه اختباراً لإبليس وكشفاً لهويته الحقيقية ، إذ لم يكن عنصراً نورانياً ملائكياً ، وإنما كان نارياً جنياً وكان بين الملائكة دخيلاً ولم يكن فيهم عنصراً أصيلاً.

وبهذا البيان يتضح لنا مبلغ التحويرات والمغالطات والمفاهيم الفاسدة التي قدمها الناقد (د. العظم).

قال الناقد (د. العظم) في الصفحة (90) من كتابه:

“1- لا شك أن إبليس خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم ، غير أنه كان منسجماً كل الانسجام مع المشيئة الإلهية ، ومع واجبه المطلق مع ربه .

2- لو وقع إبليس ساجداً لآدم لخرج عن حقيقة التوحيد ، وعصى واجبه المطلق نحو معبوده”.

ما شاء الله !! فهم غريب لم يفهمه إبليس نفسه ، لذلك فهو لم يذكره في حجته ، ولم تفهمه الملائكة فسجدت فأشركت بالله من حيث لا تدري ، ثم جاء نصيره من أبناء القرن العشرين ومن قبله باطنيون شوهوا صورة المفاهيم الإسلامية بأباطيلهم وفلسفاتهم ، ووضعوا من عندهم قصصاً خرافية ، أفسدوا فيها حقائق الإسلام الصافي ، فاكتشفوا فهماً جديداً لم يستطع أن يتوصل إليه أصحاب العلاقة أنفسهم .

ثم تابع سيادة الناقد شرح فكرته ، فقال :

“أراد الله للملائكة أن يقدسوه وأن يسبِّحوا باسمه ؛ لذلك كان السجود لآدم وقوعاً فيما يضيفه أهل الشرك إلى الذات الصمدية مما هي منزهة عنه ، إذ إن السجود لغير الله لا يجوز على الإطلاق لأنه شرك به . في الواقع يثير اختيار إبليس سؤالاً هاماً جداً هو : هل تكمن الطاعة الحقيقية في الإذعان للأمر؟ أم في الخضوع للمشيئة؟ هل يكمن الصلاح في الانصياع للواجب المطلق أم لواجب الطاعة الجزئية؟ لو كان الجواب على هذا السؤال بسيطاً وواضحاً لما وجدت المأساة في حياة الإنسان ، ولما وجد إبليس نفسه في هذه المحنة ، ولما وقع بين براثن الأمر والمشيئة . نستنتج إذن أن موقف إبليس يمثل الإصرار المطلق على التوحيد في أصفى وأنقى تجلياته”.

مغالطات الناقد هنا تعتمد على التلاعب بالمفاهيم الإسلامية لتشويه صورتها ، وترتيب النقد ترتيباً يناسب هذه الصورة المشوهة .

ولنا في كشف مغالطاته هذه وجهان:

الوجه الأول: أن أوامر الله لا تتناقض ، فلا يمكن أن ينهى عن عبادة غير في الوقت الذي يأمر فيه بعبادة غيره ، ولا يمكن أن يأمر بعبادة غيره في الوقت الذي ينهى فيه عن عبادة غيره .

إذا تقررت لدينا هذه الحقيقة علمنا أن أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ليس أمراً بعبادته قطعاً ، لأن الله نهى عن الشرك به .

ويمكن تفسير أمر السجود بعد هذا بأنه سجود احترام لا سجود عبادة ، ويمكن تفسيره أيضاً بأنه سجود عبادة لله تعالى ، وكان آدم في هذا السجود قبلة التوجه الجسدي فقط ، كما أن الكعبة قبلتنا حينما نعبد الله في الصلاة .

الوجه الثاني: أن أصل الشرك بالله هو اعتقاد أنه يوجد إله غير الله ينفع أو يضر أو يستحق العبادة لذاته ، ولهذا الشرك تعبيرات قولية أو عملية .

والتعبيرات القولية تدل بوضعها اللغوي الاصطلاحي على مدلولاتها ، فإذا قالها قائل قاصداً لمعانيها وفق مصطلحاتها اللغوية دل على أنه قد أشرك بالله في عقيدته .

والتعبيرات العملية تدل أيضاً بوضعها الاصطلاحي المتعراف عليه على مدلولاتها الاصطلاحية ، فإذا فعلها فاعل قاصداً مدلولاتها الاصطلاحية المتضمنة معنى الشرك باله في العبادة دل على أنه قد أشرك بالله .

وهنا نلاحظ أن حركات العبادة لله تعالى حركات لا تختص في الاصطلاح بمعاني العبادة ما لم تقترن بما يدل على أنها عبادة ، من نية في النفس ، أو هيئة تركيبية خاصة في صورة معينة ، ذات مراسيم وأقوال خاصة ، كالصلاة ذات الركوع والسجود والقراءات والأذكار والأدعية ، وكالطواف حول الكعبة ، وكالسعي بين الصفا والمروة ، ونحو ذلك .

وقد كان الركوع والسجود عند كثير من الأمم والشعوب القديمة تعبيراً عن الاحترام والتقدير ، وليس تعبيراً عن عبادتهم لمن يسجدون أو يركعون له ، كما تكون صورة الركوع أو السجود لأعمال عادية بحتة ، أو أعمال رياضية .

ومن سجود الاحترام والتقدير سجود إخوة يوسف له .

ومن هذا يظهر لنا بوضوح أن عملية السجود ليست تعبيراً ملازماً لمعنى العبادة في كل الأحوال ، أو في كل المصطلحات ، ولذلك كان من يسجد صورة لله وهو في قلبه ونفسه غير ساجد له فإنه لا يكون لله عابداً .

فلا بد من التعبير المادي من أن يكون مقترناً بالنية التي تحدد القصد منه ، والملائكة لم يقترن سجودهم لآدم بنية عبادة له مطلقاً ، وإنما كانوا يعبدون الله الذي أمرهم بالسجود ، ولا يشركون بعبادته أحداً ، ولو سجد إبليس لكان سبيله سبيلهم .

نعم لا نجيز في الشريعة الإسلامية السجود لغير الله ، ولو على سبيل الاحترام لا على سبيل العبادة ، لأن الشريعة الإسلامية التي جاءت خاتمة الشرائع الربانية قد منعت من ذلك ، فنحن نتَّبع أحكامها ، وسر المنع دخول مفاهيم الشرك بالله في الواقع الإنساني الجاهلي ، واتخاذ هذا الشرك طابع عبادة غير الله بالسجود والدعاء والقرابين ونحو ذلك ، فلما نزلت شرائع الإسلام منعت هذه الظاهرة كلها سداً للباب ، ولم يكن هذا الشرك ولا تعبيراته ولا مصطلحاته معروفة لا عند الملائكة ولا عند إبليس ، حتى يجعله سيادة الناقد واقعاً في تصور إبليس ، ولذلك رفض السجود لآدم .

وهكذا تظهر لنا مغالطته في نقل مصطلحات حديثة إلى زمن لم يكن فيه للشرك وجود مطلقاً ، والمغالطة هنا تعتمد على تعميم المصطلحات الزمنية وجعلها مصطلحات ثابتة من الأزل إلى الأبد .

مع أن لكل زمن مصطلحاته ، ولكل أمة مصطلحاتها ، والثابت إنما هي المعاني الحقيقية التي يُدَلُّ عليها بأي مصطلح قولي أو عملي ، أو أي وسيلة أخرى من الوسائل التي تدرك بالسمع أو بالبصر أو باللمس أو بغيرها .

لقد تأكد لدينا بعد هذا البيان أن التناقض في الأوامر الإلهية مستحيل بداهة ، وممنوع قبوله في المفاهيم الدينية ، ولا يقع هذا التناقض إلا في ذهن جاهل أساء الفهم أساء التصور ، أو في أقوال مضلِّل هدفه أن يشك الناس بدينهم .

ويدَّعي الناقد (د. العظم) وجود التناقض بين الأمر الإلهي والمشيئة الإلهية ، فيقول في الصفحة (89) من كتابه:

“لقد شاء الله وجود أشياء كثيرة غير أمر عباده بالابتعاد عنها ، كما أنه أمرهم بأشياء ولكنه أرادهم أن يحققوا أشياء أخرى ، لذلك باستطاعتنا القول بأن الله أمر إبليس بالسجود لآدم ، ولكنه شاء له أن يعصي الأمر ، ولو شاء الله لإبليس أن يقع ساجداً لوقع ساجداً لتوه ، إذ لا حول ولا قوة للعبد على ردِّ المشيئة الإلهية”.

هذا كلام يخدع بظاهره ، ولكنه يتضمن مفاهيم فاسدة مأخوذة من مفاهيم الجبريين ، ومذهب الجبريين مذهب فاسد استغله “سيادة” الناقد هنا ، ليظهر أن الصفات الإلهية في مفاهيم المسلمين قد تتناقض ، وأن المسلمين يقبلون فيها هذا التناقض ، ثم ليتخذ كل ذريعة لنقض قضية الإيمان من أساسها .

لقد أوضحنا فيما سبق أن المشيئة الإلهية لا تتناقض مع نفسها بحال من الأحوال ، فلا يمكن أن تتوجه مشيئتان متناقضتان لشيء واحد في وقت واحد . فإذ تتوجه المشيئة الإلهية لإيجاد الكون في وقت معين ، يستحيل عقلاً وواقعاً أن تتوجَّه هذه المشيئة نفسها لعدم إيجاد الكون في ذلك الوقت ،والمشيئة النافذة هي المشيئة وغير النافذة ليست بمشيئة .

وإذ تتوجه المشيئة الإلهية لمنح الإنسان حرية الإرادة في اختيار سبيله في الحياة ، يستحيل عقلاً وواقعاً أن تتوجه هذه المشيئة لسلب هذا الإنسان حرية الإرادة ، وجعله مجبراً على اختيار سبيله في الحياة .

وهكذا في كل مشيئة كلية وجزئية ، ولكن لا بد من ملاحظة ضوابط التناقض المنطقية ، حتى يتحقق الامتناع العقلي ، وتتحقق الاستحالة المذكورة ، وذلك بأن يتوارد السلب والإيجاب على حكم اتحد فيه الموضوع والمحمول والزمان والمكان وسائر الوحدات المنطقية التي لها صلة أساسية في وحدة الموضوع والمحمول ، وحين ينعدم هذا الاتحاد يسقط التناقض أصلاً.

وذلك كأن نقول : الإنسان ممنوح حرية الإرادة في أعماله التي يعتبر مسؤولاً عنها ، مسلوب حرية الإرادة في أعماله غير الإرادية التي لا يعتبر مسؤولاً عنها ، كالرعشات ، وحركاته وهو نائم وما يجري فيه من تغيرات وتطورات حياتية لا تتحكم إرادته بها ، فهذا ليس بتناقض لأنه لم يتوارد السلب والإيجاب على متَّحد الوحدات المنطقية .

ومعلوم في الأوليات المنطقية أنه متى انفكَّت الجهة واختلَّت ضوابط الوحدة انحلَّ التناقض .

ولنفي الرأي الجبري ، وإثبات أن الله منح الإنسان حرية الإرادة في كل أعماله الإرادية التي يعتبر مسؤولاً عنها ومحاسباً عليها ، وفي كل وجوده نشاطه الذي هو ساحة تكليفه في الحياة ، وساحة اختباره وامتحانه ، تتضح لنا الأدلة التالية :

أولاً: كل مخلوق يوضع موضع الامتحان فلا بد أن يكون حر الاختيار بين أكثر من طريق أو أكثر من عمل وإلا لم يكن للامتحان مغزى ، وكان عبثاً من العبث ، ولا يفعل هذا عالم حكيم .

ثانياً: يستحيل عقلاً أن يتوجه أمر التكليف الإلهي لكائن لا يملك في نفسه القدرة على اختيار الطاعة ، وذلك لأن الله جلَّ وعلا حكيم ، ولا يوجه أوامر التكليف لمجرد العبث ، إنه تعالى منزَّه عن العبث .

ثالثاً: ثبت في النصوص القاطعة أن الله لا يكلِّف نفساً إلا وسعها ، ولا يكلِّف نفساً إلا ما آتاها ، ومن لا يملك حرية الإرادة في اختيار عمله لا يكون هذا الاختيار من وسعه ، ولا يكون هذا الاختيار مما آتاه الله ، فالله لا يكلِّفه لو كان كذلك .

ولما ورد التكليف علمنا أن هذا الاختيار من وسعه ومما آتاه الله إياه ، فسقط ادعاء الإجبار .

رابعاً: ليس من العدل ولا من الحكمة أن يؤاخذ الله مخلوقاً على عمل لم يكن هذا العمل مظهراً من مظاهر اختيار المخلوق وإرادته ، ولذلك نلاحظ في النصوص الدينية أن المؤاخذة والجزاء مقرونان بالأعمال الإرادية ، ومتى سلبت الإرادة عن عمل من الأعمال ارتفع التكليف ، وارتفعت المسؤولية .

وقواطع النصوص تبين هذه الحقائق .

منها قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

أي: يؤاخذكم بما حلفتم من أيمان ناتجة عن كسب قلوبكم ، وكسب القلوب هو توجه الإرادة ، فارتفعت المؤاخذة عما كان من لغو الألسنة ولم يكن من كسب القلوب .

ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول):

{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}

ومن هذا يظهر لنا ارتفاع المؤاخذة عن الأخطاء التي تخرج عن دائرة سلطة الإرادة ، مما لا يملك الإنسان دفعه ، وأن المسؤولية رهن بما تعمدت القلوب من أعمال ، وما تعمدته القلوب هو ما توجهت الإرادة لفعله .

فإذا أضفنا إلى هذا قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

{لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا..}.

وقول الله تعالى في سورة (الطلاق/65 مصحف/99 نزول):

{لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا}.

وقوله الذي تكرر في (الأنعام والأعراف والمؤمنون):

{لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.

تبين لنا أن ورود التكليف يستلزم وجود الاستطاعة حتماً ، وأول عناصر الاستطاعة وجود الإرادة الحرة ، وتبين لنا أن المؤاخذة ترتفع متى سلبت الإرادة ، لأن التكليف يرتفع حكماً عند سلبها ، فلا يمكن أن يوجد في الواقع تناقض بين مقتضيات المشيئة الإلهية ، وبين مقتضيات أمر التكليف الإلهي .

والرأي الجبري الفاسد يدَّعي سلب الإرادة مع أن التكليف متوجه ، وأن المؤاخذة بعد ذلك متوجه ، وهذا معارض للنصوص القرآنية ، ومعارض لمنطق العقل وبديهته ، وهذا الرأي الجبري هو ما استغله سيادة الناقد لنقض قضية الدين ، مع أنه ليس هو الإسلام ، ولا فهم جمهور المسلمين ، وإنما هو رأي مرفوض تماماً.

فكل نقاش بناه “الناقد” على هذا الرأي المرفوض نقاش ساقط لا قيمة له .

وكل الأقوال التي استشهد بها من أقوال الجبريين أقوال ساقطة مرفوضة ، لا تمثل الحقيقة الإسلامية في هذا الموضوع ، فلا حاجة إلى استعراضها وبيان فساد مضامينها ، لأنها مبينة على فاسد ، وكل ما بني على فاسد فهو فاسد .

ويسأل الجبريون فيقولون : هل يفعل العاصي إذن معصيته معانداً لإرادة الخالق أم موافقاً لها؟

ونقول في الجواب: إن تصوير السؤال على هذا الوجه فيه مغالطة ، فالقضية لا تقع فقط بين احتمالين اثنين ، ولكنها تقع بين احتمالات ثلاثة وهي:

الاحتمال الأول: توجيه المشيئة الإلهية لإجبار المخلوق على الطاعة.

الاحتمال الثاني: توجيه المشيئة الإلهية لإجبار المخلوق على المعصية .

الاحتمال الثالث: توجيه المشيئة الإلهية لجعل المخلوق ذا إرادة حرة غير مجبرة .

وقد توجهت المشيئة الإلهية فعلاً إلى اختيار الاحتمال الثالث بالنسبة إلى الناس والجن ، فاستحال أن تتوجه إلى أضدادها .

وحينما يختار المخلوق أمراً مما جعل الله له فيه سلطة الاختيار فإن اختياره لذلك الأمر لا يعتبر بحال من الأحوال معانداً لإرادة الله في كل شيء ، لأن الله تعالى هو الذي أراد أن يمنحه سلطة الاختيار ليمتحنه ، كما أنه لا يقتضي أن يكون الله جلَّ وعلا هو الذي أجبره على أن يختار هذا الاختيار ، ولا يقتضي أيضاً أن يكون الله جلَّ وعلا راضياً عن كل ما يختاره المخلوق ذو الإرادة الحرة .

ويظهر لنا هذا الموضوع تماماً في تجاربنا الإنسانية ، فإن من نمنحه حرية التصرف في عمل ما ، قد يفعل ما يسرنا ويرضينا ، وقد يفعل ما يسوؤنا ويغضبنا ، مع إمكاننا أن نعزله عن ذلك العمل ، ونسلبه حرية التصرف فيه ، ولا يكون عمله معانداً لإرادتنا ، بل قد نمد له ، ونبقي له طاقة العمل وساحة التنفيذ بين يديه ، لنمتحنه ونختبره ، وقد نوبخه ونؤدبه ، وقد ننذره ونحذره ، حتى يحين وقت مؤاخذته ، ونحن في كل ذلك نشاهد سوء تصرفه ، وقد نرى من الحكمة أن لا نعارضه ، وأن لا نضع العراقيل في طريقه ، أو نكفه عن العمل الذي منحناه فيه حرية التصرف ، وقد نرى من الحكمة أن نملي له ، ليصلح من تصرفه ويقوِّم من سلوكه ، حتى يجتاز الامتحان بنجاح ، وعملنا هذا لا شيء فيه من التناقض ، بل هو من مقتضيات الحكمة التي تقتضيها ظروف الامتحان الأمثل .

بعد أن صنع (د. العظم) التزييف الذي أراده ، واستند إلى المفاهيم الجبري والباطنية الباطلة الفاسدة ، ووضع المقدمات التي أقامها على الكذب والمغالطة ، انتهى إلى شتيمة الخالق جلَّ وعلا ، ووصفه بالمكر والمخادع والاستهزاء ، وفق الصور والمفاهيم القبيحة التي لا تليق بالمخلوق فضلاً عن الخالق ، وتلاعب بمفاهيم النصوص الواردة في هذا المجال وفق خطته التي عرفناها في كل جدلياته ومغالطاته .

وفي الرد عليه أكتفي هنا بعرض المفاهيم الإسلامية الصحيحة ليظهر منها فساد كل ما انتهى إليه ، وفساد كل ما استند إليه .

لقد استشهد بطائفة من النصوص القرآنية وفسرها على ما يهوى ، تفسيراً مخالفاً لدلالتها الحقيقية .

فمن النصوص التي استشهد بها قول الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول):

{وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ}

وقول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول):

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ}

وقول الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول):

{وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِيۤ آيَاتِنَا قُلِ ٱللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ}

أورد هذه النصوص واستغلها لينسب إلى الله تعالى صفة ذميمة قبيحة يريد أن يفهمها هو من لفظة المكر .

وإذا أردنا أن نحقق تحقيقاً لغوياً في أصل معنى المكر ، وجدنا أن معناه هو تدبير أمر في خفاء عمن دبر له أو عليه ، وهذا التدبير هو بحد ذاته ليس فيه ما يذم ، وإنما هو لون من الحكمة الداعية إلى كتمان الأمور وإخفائها ، ولكن قد يكتسب المكر الذم من غايته ، فإذا كانت الغاية منه شراً كان مكراً مذموماً ، وإذا كانت الغاية منه خيراً كان مكراً محموداً ، وهو يدل على الحكمة في التصرف .

فهو على المعنى وسيلة من الوسائل التي تستعمل في الخير فتكون خيراً ، وتستعمل في الشر فتكون شراً ، كسائر الوسائل التي لا شر فيها لذاتها ، وإنما تكتسب الشر حينما تستعمل في الشر ، وتكتسب الخير حينما تستعمل في الخير .

فالمكر قد يكون مكراً محموداً إذا كان الأمر الذي دبر فيه مؤدياً إلى نتيجة محمودة ، وقد يكون مكراً مذموماً إذا كان الأمر المدبر فيه مؤدياً إلى نتيجة مذمومة ، وتدبير الأمر في الخفاء لا يوصف لذاته بحسن أو قبح ، بل ربما كان أصله أقرب إلى المدح منه إلى الذم ، لأنه من الكتمان الحكيم .

ونستطيع أن نصور المكر المحمود الذي يستعمل في الخير بأمثلة كثيرة .

حينما تدبر أجهزة مطاردة المجرمين أمورها في خفاء وكتمان وسرية تامة ، لتظفر بالقبض على المجرمين الذين يتوارون في جرائمهم عن أعين السلطة الحاكمة العادلة ، ويدبرون مكايدهم الشريرة في الظلمات ، ثم تقبض عليهم من حيث لا يشعرون ، وتمكر بهم حتى تأخذهم وهم متلبسون بالجريمة ، أفيكون مكر هذه الأجهزة مكراً في الخير أم مكراً في الشر؟

وحينما يرى الأب أن أحد أولاده جنح عن طريق الهداية ، وسلك مسالك الشر والفساد ، مسالك هلاكه وشقائه ، ولم تُجْدِ فيه النصائح والمواعظ ووسائل التربية الظاهرة ، أفلا يرى من الخير الإصلاح ولده أن يدبر له وسيلة تربوية خفية يتَّعظ فيها بنفسه ، حتى يستقيم ويرتدع؟

إن الأب في ذلك يمكر بولده مكراً محموداً ، وهو بذلك يفعل خيراً.

وباستطاعتنا أن نصور المكر المحمود والمكر المذموم في قصة نتخيلها .

إنسان عنده قصر عظيم ، طمع به اللصوص ، فدبروا أمراً في الخفاء أن يأتوا بليل ، ويحتفروا أحد جدران القصر ويدخلوا إليه ، ويسطوا على ما فيه من مال ومتاع ، ويقتلوا من فيه .

وعلم صاحب القصر بما دبروا ، وعرف الجدار الذي عزما على نقبه ، فدبر خطة في الجدار يهلكون فيها بأيديهم دون أن يقاتلهم أحد من رجال القصر .

ولما حان الوقت المقرر فيما بينهم جاءوا متسللين ظانين أن أحداً لا شيعر بهم ، ولكن صاحب القصر وأعوانه يراقبون كل حركة من حركاته ، وهم في مكان يرون فيه اللصوص من حيث لا يرونهم ، وأخذ اللصوص ينقبون الجدار حسب الخطة المدبرة ، ولما زعموا أنهم كادوا يظفرون بما يريدون انقضَّ عليهم الجدار فهلكوا تحت أنقاضه .

لقد مكروا بزعمهم ومكرهم شر ، ولكن المكر في الحقيقة لصاحب القصر ومكره خير ، لأن غرضه من مكره أن يمنعهم من فعل الشر ، وأن يجازيهم عليه بأيديهم ويريح الناس من شرورهم .

وكذلك مكر الله ، وهو خير الماكرين ، لأنه لا يمكر إلا بخير ، وسبحان الله وتعالى عما يصفون .

هذا ما يتعلق بصفة المكر ، أما صفة الاستهزاء ، فقد استشهد الناقد (د. العظم) لها بقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

{ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}

واقتطع هذا النص اقتطاعاً عن سياقه ، وطوى الكلام الذي قبله ليضلل به ، بعد أن يشوه المعنى المراد ، ولو كان باحثا ًمنصفاً يريد أن يفهم المراد من النص حقاً لم اقتطع الكلام بعضه عن بعض ، ولظل محتفظاً بالأمانة العلمية والنزاهة ، لأنه يعلم أن مثل هذا الاقتطاع خيانة علمية تؤدي إلى التشويه وإفساد المعاني ، حتى ولو كان هذا الباحث غير مؤمن بالكلام ولا بقائله ، فأخلاق البحث العلمي لا تسمح بالتلاعب بالنصوص ، لا بتغييرها ، ولا بتحريف ألفاظها ، ولا باقتطاع المترابطات وتجزئتها ، ولا بتحريف معانيها وتشويهها ، وتحويلها عن دلالاتها الأصلية المقصودة ، ولا بأي شيء آخر مفسد لها .

فإذا قرأنا سوابق هذا النص الذي استشهد به (د. العظم) تغير المعنى القبيح الذي أراد أن يصوره ، وحل محله معنى جميل دل عليه النص في واقع الأمر .

لقد تحدث الله عن المنافقين وعرض طائفة من صفاتهم وأفاض في بيان هذه الصفات ، حتى أبان من صفاتهم صفة الاستهزاء بالذين آمنوا ، فقال تعالى :

{وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}

فالمنافقون هم الذين يعاملون الحق بالاستهزاء ، فيتظاهرون بأنهم مع المؤمنين وهم بالحق وبالمؤمنين يستهزئون ، لأن قلوبهم مع الكافرين .

وبما أن أعدل الجزاء وأوفاه هو ما كان من جنس العمل كانت الحكمة تقضي بإعلان أنهم معاقبون بالاستهزاء ، جزاء استهزائهم ، فقال تعالى :

{ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}

أي: يجازيهم جزاء استهزائهم فيعاقبهم عقاباً من جنس عملهم ، وهذا غاية في العدل .

وهنا لا بد أن يلاحظ القارئ كيف شوّه سيادة الناقد ما هو غاية في العدل في ميادين الجزاء ، فجعل الاستهزاء صفة من صفات الله تعالى في معاملة عباده ، واقتطع النص عن سوابقه ولواحقه ليموِّه على قارئ كلامه ، فيتشكك بالحقائق الدينية .

ونظير ذلك استشهاده بقول الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول):

{إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ…}.

ففي هذا النص يبين الله تعالى أن عقاب هؤلاء المخادعين هو من جنس عملهم ، وفيه معنى آخر صرَّحت به الآية التي في أوائل سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول):

{يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}

وهذا المعنى يتلخص بالحقيقة التالية : إن من يخدع من لا يُخدع إنما يخدع نفسه ، فالمنافقون يتصورون بنفاقهم أنهم يخادعون الله ، لكن الله تبارك وتعالى لا تنطلي عليه حيلهم ، ولا تجوز عليه مخادعتهم ، إنه يعلمهم تماماً ظاهراً وباطناً ، ولكن بحكمته يمهلهم ويملي لهم ، فيظنون أن خديعتهم قد نفذت ، وأن حيلتهم قد انطلت ، فيتابعون مسيرتهم الآثمة في الخداع ، ثم يأخذهم الله بعقابه ، يجازيهم بعدله ، وعندئذٍ يتبين لهم أنهم لم يخدعوا الله ، ولكنهم كانوا يخدعون أنفسهم ، فأسلوب الله في معاملتهم جعل خديعتهم تنقلب عليهم ، وفي هذا غاية العدل في الجزاء ، وهو أن يكون عقاب الإنسان بيد نفسه ، وأن يكون السلاح الذي قذفه على غيره ظالماً له ارتد عليه فأصابه بمثل القوة التي قذفه بها .

واستشهد الناقد بقول الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول):

{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}

وقال في شرح هذا النص في الصفحة (122) من كتابه:

“كان قد شاء تدمير القرية ، ولكن لئلا يكون للعباد عليه حجة فيما شاء لجأ إلى المكر ، فأمر مترفيها أن يفسقوا حتى يبدو للجميع وكأن القرية استحقت ذلك التدمير . بينما الحقيقة غير ذلك”…

هكذا حوَّر النص تحويراً شائناً , وحرَّف معناه تحريفاً مناقضاً تماماً لأصل معناه ، وبيان ذلك فيما يلي:

أولاً: إن الله تعالى لا يأمر المترفين بأن يفسقوا ، ولكنه يأمرهم بأن يؤمنوا ويعملوا صالحاً ، فيفسقون ويخالفون أمر الطاعة ، فمن صفات أمر الله ونهيه أنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .

فمن أين أدخل “الناقد” المحرِّف أن الله يأمر المترفين أن يفسقوا والله قال: {أمرنا مترفيها} ثم قال : {ففسقوا فيها} ، ومعلوم بداهةً مثل هذا الكلام يفيد أنهم عصوا الأمر ففسقوا ، لذلك استحقوا العقاب على عصيانهم .

وإذا أردنا أن نقدر في النص محذوفاً فأي قارئ عربي يستطيع بداهةً أن يعرف أن المأمور به المحذوف هو ما أمر الله به في شرائعه من الإيمان وعمل الصالحات .

وليس ما حرَّفه سيادة “الناقد” من تقدير (أن يفسقوا) بدل (أن يؤمنوا ويعملوا الصالحات).

ثم إن ترتيب الجزاء إنما يكون على عصيان الأمر كما هو معلوم بالبديهة ، لا على طاعة الأمر .

فلا يستهن بالقارئ العربي هذه الاستهانة ، وليعلم أن ما يتلاعب به مكشوف للجميع!

ثانياً: جاءت هذه الآية تعقيباً على قوله تعالى:

{…وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً}.

أي: لا يهلك الله القرى الظالمة التي استحقت الإهلاك بجرائهما حتى يبعث الله إليها رسولاً ، فيأمرهم هذا الرسول بالطاعة ، فيعصي مترفوهم والملأ منهم .ويتبعهم حكماً وتقليداً من دونهم ، فيحق عليهم قانون الجزاء ، فيهلكهم الله تبارك وتعالى جزاء وفاقاً .

وهكذا ظهر لنا بوضوح تلاعب “سيادة الناقد” بمعاني النصوص الدينية ، وبالحقائق كلها ، ليؤيد مذهبه ، ويدعم قضية الإلحاد والكفر بالله ، محارباً قضية الإيمان والاستقامة على الخير والفضيلة .

وأترك القارئ الحصيف الواعي أن يحكم له أو عليه ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فعند الله جزاء لمن آمن وجزاء لمن كفر .