أول من صنف في علم المغازي والسير

إن هذه المسألة من أهم المسائل التي تتعلق بهذا العلم، فهي ركنٌ أصيلٌ، وقد اختلف الأئمة في أول من صنف في “المغازي”، فذهب ابن سعد إلى أن “محمد بن إسحاق” (هو) أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وألَّفها، وكان محمد بن إسحاق مع العباس بن محمد بالجزيرة، وكان أتى أبا جعفر بالحيرة، فكتب له المغازي[1].

بينما ذهب السهيلي إلى أن أول مَن صنَّف في السير هو ابن شهاب الزهري[2]، ثم ذهب الصفدي إلى أن أول من صنف المغازي عروة، وأول من صنف السير (هو) ابن إسحاق، حيث قال: “فأول مَن صنَّف في المغازي عروة بن الزبير رضي الله عنهما، ثم موسى بن عقبة، ثم عبدالله بن وهب، ثم في السير ابن إسحاق”[3].

وذهب الذهبي إلى أن أول من صنف المغازي عروة بن الزبير[4]، وكذا قال ابن كثير: “كان عروةَ فقيهًا عالِمًا حافظًا ثبتًا حجةً عالِمًا بالسير، وهو أول من صنف في المغازي”[5].

قال الذهبي: “والصحيح أنه لا تعارض بين هذه الأقوال، ويمكن الجمع بينها، فإن علم المغازي كان أسبق من علم السيرة في الظهور والتصنيف، فإن أول مَن صنَّف في فن المغازي من طبقة التابعين هو عروة بن الزبير، بينما أول مَن صنَّف في فن السيرة محمد بن شهاب الزهري، وإن اشتَهر كتابه بعد ذلك بالمغازي؛ فإنه صنَّف في المغازي أيضًا، غير أنه أول من ألَّف في السير، وقد يكون أبان بن عثمان وهو شيخ الزهري قد سبَقه إلى ذلك، إلا أن كتابه في السير لم يَشتهِر، وقد يكون صحيفةً، وأول مَن صنَّف صحيح المغازي موسى بن عقبة، وأول من جمع المغازي والسير هو محمد بن إسحاق”[6].

وقال القِنَّوجي: “جمعها محمد بن إسحاق أولًا، ويقال أن أول من صنف فيها عروة بن الزبير، وجمعها أيضًا وهب بن منبه، وأبو عبدالله محمد بن عائذ القرشي الدمشقي الكاتب، وأبو محمد يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي الحنفي، المتوفى سنة إحدى وتسعين ومائة عن ثمانين سنة، ومنها مغازي محمد بن مسلم الزهري، وعبدالرحمن بن محمد الأنصاري، والواقدي، وموسى بن عقبة بن أبي عياش، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة، ومغازيه أصح المغازي، وفي هذا العلم مصنفات كثيرة، أجلها وأفضلها تصنيف عبدالملك بن هشام، ومغازي ابن إسحاق، وغير ذلك”[7].

وقال الكتاني: “وكتاب السيرة لأبي بكر محمد بن مسلم بن عبيدالله بن عبدالله بن شهاب القرشي الزهري المدني، نزيل الشام، أحد الأعلام، التابعي الصغير، وقال بعضهم: “أول سيرة ألِّفت في الإسلام سيرة الزهري”[8].

وذهب الزرِكلي إلى أن: “أبان بن عثمان بن عفان الأموي القرشي أول مَن كتَب في السيرة النبوية، وسلَّمها إلى سليمان بن عبدالملك في حَجِّه سنة 82هـ، فأتلفها سليمان”[9].

وقال الطناحي: “في النصف الثاني من القرن الأول الهجري بدأ بعض التابعين في تدوين أخبار السيرة النبوية ومغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُجمع مؤرخو السير على أن أول من كتب في ذلك هو أبو عبدالله عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي، المتوفى سنة 93هـ، وقد عاصره وتلاه نفر من التابعين الذين عُرفوا بالعناية بالسيرة، وجمْع أخبارها، منهم أبان بن عثمان بن عفان المتوفى سنة 105هـ، ووهب بن منبه المتوفى سنةً 110هـ، وعاصم بن عمر بن قتادة المتوفى سنة 120هـ، ومحمد بن مسلم بن عبدالله بن شهاب الزهري المتوفى سنة 124هـ، وعبدالله بن أبي بكر بن محمد بن حزم المتوفى سنة 135هـ”[10].

قُلتُ: ويتضح مما سبق أن أهل الصنعة قد اختلفوا في أول مَن صنَّف في علم المغازي إلى أقوال، وتحريرها وفض نزاعها فيما يلي:

القول الأول: منسوب لابن سعد في أول من صنف في المغازي هو: (محمد بن إسحاق بن يسار المتوفى: 151هـ).

القول الثاني: منسوب للسهيلي في أول من صنف في المغازي هو: (ابن شهاب الزهري المتوفى: 124هـ).

القول الثالث: منسوب للصفدي والذهبي وابن كثير في أول من صنف في المغازي هو: (عروة بن الزبير المتوفى: 93هـ)، وفي السير (محمد بن إسحاق بن يسار المتوفى: 151هـ).

قُلتُ: والحقيقة أن سبب هذا الاختلاف الناشئ عند المتقدمين أصحاب الصنعة والمشارب الأولى هو عدم التفرقة بين مصطلحي “المغازي والسير”؛ فجميعهم أو غالبهم كانوا لا يفرقون بين هذا وذاك، حتى إنهم يجمعون بين الفنين في مصنفٍ واحدٍ، ويطلقون عليه أحد المصطلحين أو كلاهما معًا كصنيع محمد بن إسحاق مثلًا في سيرته، أو إن شئتَ فقل في مغازيه.

وأوائل الكتب التي صُنفت في المغازي ولم تصل إلينا: مغازي عروة (المتوفى: 93هـ)، وأبان بن عثمان (المتوفى: 105هـ)، وشرحبيل بن سعد (المتوفى: 123هـ)، وابن شهاب الزهري (المتوفى:124هـ)؛ فجميعها خلَطت بين المصطلحين، إلا أن الأخير الذي وصل إلينا كاملًا وهو كتاب مغازي الزهري قد خلَط هو الآخر بين الفنَّين في مصنَّفه، حتى إن المغازي في كتابه قد بدأت بعد منتصفه بعد ما ذكر: (حفر زمزم، وخبر عبدالمطلب، وخبر الكاهن، وحادثة شق الصدر، وإعادة بناء الكعبة، وزواج النبي من خديجة، وأولاد النبي من خديجة، وبداية الوحي ونزوله، وخبر ورقة بن نوفل… إلخ)، ثُم إن المغازي عنده تركَّزت على الغزوات الكبرى؛ كـ(غزوة بدر، وأحد، وفتح مكة، وحنين)، وأخباره فيها قليلة.

وحتى مغازي موسى بن عقبة (المتوفى: 141هـ) ما وصل إلينا من قطع أظهر لنا أن المُصنِّف قد اختار بعض الأحاديث الواردة في شأن المغازي وهي قليلة للغاية، ولا تتكلم عن الغزوة ذاتها، بل عن أشياء متعلقة بها؛ كحديثه الذي رواه عن نافع عن عبدالله بن عمر: “لَما فُتحت خيبر سألت يهودُ رسول الله أن يُقرَّهم فيها على أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمرة، فقال رسول الله: نقركم فيها على ذلك ما شِئنا”.

إلى أن جاء ابن إسحاق (المتوفى: 151هـ) إمام هذا العلم بلا منازع؛ فجمع هو الآخر بين الفنين إلا أنه ذكر مغازي رسول الله كاملة بخبرها، وأعداد محاربيها، ومستشهديها، والأشعار التي قيلت فيها.

ثم جاء الواقدي (المتوفى: 207هـ) أول من صنف في علم المغازي بالشكل التخصصي الصرف، فسخر كتابه للمغازي فقط ولم يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها في كتابه، فهو بحق وعلى وجه الحق أول من صنف في المغازي بالشكل التخصصي البحت، ويُعد كتابه هو العمدة في هذا الفن.

وفي خاتمة سردي هذا أقول: “إن أول من صنف في علم المغازي كعلم جامع بين المغازي والسير، وأورد فيه أخبارًا متناثرة حديثية وغيرها هو “عروة بن الزبير” (المتوفى: 93هـ)، ثم “أبان بن عثمان” (المتوفى: 105هـ)، وهما من طبقة التابعين، ثم “شرحبيل بن سعد” (المتوفى: 123هـ)، ثم “ابن شهاب الزهري” (المتوفى:124هـ)، ثم “عبدالله بن أبي بكر بن حزم” (المتوفى: 135هـ)، ثم “موسى بن عقبة” (المتوفى: 141هـ)، ثم “معمر بن راشد” (المتوفى: 150هـ).

وأول من جمع بين الفنين بمجموع أخبارهما، مستفيضًا فيها، ولم يترك شيئًا قيل فيهما، هو إمام الفنين بلا منازع “محمد بن إسحاق بن يسار” (المتوفى: 151هـ) في كتابه السيرة أو المغازي.

وأول من أفرد تصنيفًا خاصًّا بالمغازي بالمعنى التخصصي البحت، وأورد فيه جُلَّ المرويات المغازية، وعايَن مواقعها، هو الإمام محمد بن عمر بن واقد المعروف بـالواقدي (المتوفى: 207هـ) في كتابه المغازي.

——————————————————————————–

[1] طبقات ابن سعد: (ص401)؛ وانظر: المزي (المتوفى: 742هـ)، تهذيب الكمال، تحقيق بشار عواد، ط1 سنة 1413هـ، الرسالة، بيروت، (24/ 246)؛ ومحمد بن أحمد الذهبي، سير الأعلام، تحقيق جماعة، ط9 سنة 1413هـ، الرسالة، بيروت، (7/ 48).

[2] أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد السهيلي (المتوفى: 581هـ)، الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق: عمر عبدالسلام السلامي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م، (1/ 214).

[3] صلاح الدين الصفدي (المتوفى: 764هـ)، الوافي في الوفيات، طبعة سنة 1962م، نشر: هلموت ريتر، فيسبادن، (1/ 3).

[4] الذهبي، تاريخ الإسلام: (6/ 424).

[5] ابن كثير، البداية والنهاية: (9/ 119).

[6] الذهبي، شمس الدين (المتوفى: 748هـ)، تذكرة الحفاظ، تحقيق: عميرات، ط، 1 سنة 1998م، دار الكتب العلمية، بيروت (1/ 84).

[7] صديق القنوجي (المتوفى: 1307هـ)، أبجد العلوم، تحقيق عبدالجبار زكار، ط 1، 1987، دار الكتب العلمية، بيروت، (2/ 514).

[8] محمد بن جعفر الكتاني (المتوفى: 1345هـ)، الرسالة المستطرفة، تحقيق محمد المنتصر محمد الزمزمي الكتاني، الطبعة الرابعة، 1406 – 1986، دار البشائر الإسلامية، بيروت، (ص106).

[9] خير الدين الزركلي (المتوفى: 1396هـ)، الأعلام، ط 5، سنة 1980، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، (1/ 27).

[10] محمود الطناحي، الموجز في مراجع التراجم، ط 1، سنة 1406، ص32.