فضيلة الشيخ أبو الوفاء محمد درويش (رحمه الله)

هذا المقال سبق نشره منذ أكثرَ من ثلاثين عامًا، ونقله إلينا بنصه الأخ الفاضل الأستاذ يوسف محمد سليمان رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بأسوان؛ لكي يقرأَه المسلمون من قراء مجلة التوحيد.

ومناسبة ذلك أنَّه سمع في إذاعة القرآن الكريم القاهرية أنَّ سائلاً بعث إلى الإذاعة يسأل عن السامري، فلم يكن الردُّ عليه شافيًا ولا كافيًا ولا مُقنعًا، بل إنَّ مفتي الإذاعة ردَّدَ ما قاله بعض المفسرين من أن العجل كان عجلاً ذا لحم ودم.

ونحن إذ ننشر المقال نشكر للأخ الفاضل يوسف محمد سليمان رئيس فرع الجماعة بأسوان ما بذله ويبذله من جهد في سبيل إعلاء كلمة التوحيد.

التحرير

-1-
قد أتى على المصريين القُدامى حينٌ من الدهر صرفهم فيه الكهنة عن التوحيد، ووجَّهوهم إلى عبادة الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يجنون من وراءِ ذلك أرباحًا طائلة، وثرواتٍ ضخمة.

وكان مما عبدوه في تلك الأحقاب: العجل (أبيس) وهو عجل يَمتاز بصفاتٍ نادرة تجعل الحصول على مثله أعسر الأمور.

وقد برعوا في الفنون السحرية براعةً تتحدى وصف الواصفين، وإعجاب المعجبين، وأعني بالفنون السحرية: تلك الضروب من الشَّعْوَذة القائمة على أساسٍ من البراعة في خفية اليد، وسرعة الحركة، أو المهارة في الخداع والتضليل، أو التعمُّق في المعرفة بأسرار القوى الكونية، والتي لا يكشف الحجاب عن غوامضها إلاَّ العباقرة من العلماء، أو الرسوخ في الحقائق العلمية التي تخفى على الدهماء.

وقد تحدَّى بها فرعون مُعجزات السماء، حين رأى أنَّ سحرته يسحرون أعينَ الناس ويسترهبونهم، ويخيلون إليهم أنَّ الحبال والعِصِيَّ تتحرك، وتسير وتسعى، ولقد غره ذلك منهم، حتى ظن أنَّ في وسعهم أن يغلبوا موسى – عليه السَّلام – على أمره، أو يغضوا من قدر معجزاته، ولكن الله أفسد كيدَهم، وأبطل سحرهم، فانقلبوا صاغرين، وأُلْقِيَ السَّحَرة ساجدين.

ولقد بلغ من براعتهم في الفنون السحرية: أنَّهم أقاموا تِمْثالين عَظِيمين غربي النيل تلقاءَ مدينة الأقصر، وهما تِمثالا (ممنون)، وجَهَّزوهما بأجهزة علمية دقيقة تعمل بقوة تَمدُّدِ الهواء بالحرارة، فكانا يصيحان بأصواتٍ عالية مدوية كلما أشرقت عليهما الشمس، وغمرتهما بأشعتها الذهبية.

أقام بنو إسرائيل في مصر منذ دخلوها في عصر يوسف – عليه السَّلام – واتَّصلوا بالمصريين، وتعلموا منهم علومهم، وعبدوا آلهتهم، وعكفوا معهم على أصنامهم، وكان المصريُّون يُسخِّرونهم في أشقِّ الأعمال وأحقرها، ويكلفونهم بأشقِّ الصناعات وأحطها، ولما جاء موسى – عليه السَّلام – لينقذهم – بأمر الله – من ظلم فرعون وطغيانه وعسفه، وجبروته وبطشه، وواعدهم ليلةً يخرجون فيها جميعًا من هذه البلاد إلى فضاء الحرية الفسيح، واحتالت كل امرأة منهنَّ على جارتِها المصرية، وطلبت منها حليها؛ لتتحلى به، فلم يبخلن عليهن بشيء مما طلبن.

– 2 –
سار موسى وقومه، مشرقين مولين وجوههم شطر طور سيناء، وعلم فرعون بخروجهم، فأسرع في حشد جنوده، وسار في أثر بني إسرائيل يريد أنْ يُعيدهم؛ لِمَا يترتب على خروجهم من اضطراب الأعمال في معاملهم ومصانعهم ومزارعهم، فأدركهم عند شاطئ البحر، فأمر الله موسى أن يضربَ البحر بعصاه، فانفلق فكان كلُّ فِرْقٍ كالطَّود العظيم، فسار موسى وقومه في طريقهم، وتبعهم فرعون وجنوده، ولكن البحر بعد خروج موسى وقومه أطبق على فرعون وجنوده، فكانوا من الهالكين.

– 3 –
واعد الله – جلت قدرته – موسى أربعين ليلة، يُلقي عليه فيها التوراة، فترك قومَه لأخيه هارون يرعاهم ويأمرهم وينهاهم، ولم يكد موسى يُفارقهم لميقات ربِّه حتى تحركت الوثنية في نفس رجل منهم، يقال له: السامري، فَطَفِقَ يُذكِّرهم بمعبودهم الذي تركوه في مصر، وهو العجل (أبيس)، ولم يكونوا أقلَّ منه تشبثًا بالوثنية، فإنَّهم بعد أن اجتاز بهم موسى – عليه السَّلام – البَحْرَ أَتَوْا على قومٍ يَعكفون على أصنام لهم، فقالوا: يا موسى، اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، فصادف إغراء السامري لهم هوًى في نفوسهم، فحنت إلى عبادته، وكان السامري رجلاً صواغًا، فطلب إليهم أنْ يعطوه ما أخذوا من زينة القوم؛ ليصوغ لهم تِمثالاً للعجل يعبدونه، فأجابوه إلى ما طلب، فصاغ لهم تِمثالاً للعجل جَهَّزه بجهاز خاص يتوصل به إلى إحداث صوت كخوار العجل، وأبرزه لهم قائلاً: هذا إلهكم وإله موسى، ولكن موسى نَسِيَ، وذهب يلتمسه في موضع آخر.

– 4 –
أخبر الله – تعالى – موسى – عليه السَّلام – بما كان من فتنة قومه، وإضلال السامري لهم، وارتدادهم إلى عبادةِ العجل، فرجع موسى إلى قومه غضبانَ أَسِفًا، فقال: بئسما خلفتموني من بعدي، أفطال عليكم العهد، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم، فأخلفتم موعدي؟ وأقبل على هارون وأخذ برأسه إليه ويقول:

يا هارون، ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألاَّ تتبعن؟ أفعصيت أمري؟

قال: يا ابن أم، لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لقد قلت لهم من قبل: يا قوم، إنَّما فُتِنتم به، وإنَّ رَبَّكم الرحمن، فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا: لن نبرحَ عليه عاكفين حتى يرجعَ إلينا موسى، والتفت موسى إلى السامري، وقال له: ما خطبُك يا سامري؟ قال: إنِّي أدركت ببصيرتي ما لم يدركوا، وفطنت إلى ما لم يفطنوا له، فحين رأيتك تدعوهم إلى عبادة إله لا تدركه الأبصار ولا تلمسه الأيدي، وهم لم يألفوا ذلك من قبل، وكان ذلك سيصرفهم عن العبادة، نبذت هذا الجزء من تعليمك، وأخرجت لهم هذا الإله؛ حتى يعودوا إلى العبادة، كما كانوا يفعلون في مصر، وكذلك سَوَّلت لي نفسي؟

فأمر موسى – عليه السَّلام – بمقاطعة السامري مُقاطعة تامَّة؛ حتى لا يتمادى في إضلالهم، ثم حرق الإله الزائف، ونسفه في اليمِّ نسفًا بين سمعهم وأبصارهم.

– 5 –
هذه هي قصة السامري، كما تفهم من نصوصِ القرآن الكريم، ومن طبائع الأشياء، ومن سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، ولكن المفسرين نقلوا ما دَسَّه المنافقون الأولون من اليهود الذين أسلموا؛ ليفسدوا عقائد المسلمين.

قال المفسرون: إنَّ السامري رأى جبريل وهو قادم لدعوةِ موسى لمناجاة ربِّه، وكان يَمتطي فَرَسًا، فأخذ قبضةً من التُّراب الذي وَطِئته أقدام هذا الفرس، ووضعها في الذهب المنصهر، فسَرَتْ فيه الحياة، فلَمَّا صاغ منه عجلاً، كان عجلاً حيًّا ذا لحم ودم، هكذا قالوا، وبئسما قالوا، إنَّ نص القرآن الصريح يُخالف الذي قالوا.

إنَّ القرآن لم يترك كلمة “عجل” بغير تعقيب، بل عقب عليها بقوله: ﴿ جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ﴾ [الأعراف: 148]، فدل هذا التعقيب على أنَّ العجل لم يكن عجلاً حقيقة، وأنَّه لَم تكن فيه حياة، وإنَّما هو جسد بغير روح؛ لأنَّ العجل الحقيقي جسد وروح، وهذا الذي أخرجه السامري جسد فقط له صوت كخوار البقر.

لا يُمكن أن يكون ما قال المفسرون صحيحًا؛ إذ لو كان صحيحًا، لكان السامري خالقًا؛ لأنَّه أوجد كائنًا حيًّا ذا روح ولحم ودم، والخلق من خصائص رب العالمين – جل شأنه – وقد نفى الله – سبحانه – الألوهية عن سواه بعدم القُدرة على الخلق، فقال – تعالى -: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17].

وقال – تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [النحل: 20]، وقال – تعالى -: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ﴾ [الأحقاف: 4]، وقال – تعالى -: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 11].

لقد كان من الممكن أنْ يتتبع السامري سير الفرس، ويجمع كل التُّراب الذي وَطِئته حوافرُه، ويحتفظ به؛ ليضعَ ذراتٍ منه على كل ما يريد صنعه من الذَّهب أو الفضة أو الرَّصاص أو الحديد أو الطين أو الصلصال؛ ليخلقَ حيوانًا أو طيرًا أو إنسانًا، ثم يدعي الألوهية أو الرِّسالة وسيتحدَّى من ينكر ألوهيته أو رسالته بقُدرته على الخلق والإيجاد، ويرى ذلك آيته البينة ومعجزته التي لا تنكر.

إنَّ القول بما يقول المفسرون يكون سبيلاً إلى القدح في نبوة موسى – عليه السَّلام – إذ يطوع للقائلين أنْ يقولوا: إذا كان هذا الكافر قد وقف على هذا السرِّ مع كفره، وأتى بهذا الخارق العجيب، أفلا يكون موسى قد وقف على سرٍّ أعظم من هذا السر، وأتى بفَضْلِه بما أتى به من الخوارق والمعجزات؟!

ولماذا اختُصَّ السامريُّ وحدَه برُؤية جبريل دون سائر بني إسرائيل، وهو رائد قومه إلى الشرك البغيض؟!

وما حاجة جبريل إلى امتطاء الفرس حين يهبط بالوحي على الرسل والأنبياء؟! وكيف عرف السامري أنَّ أثر حافر فرس جبريل يؤثر هذا التأثير العجيب، وهو قلب الجماد حيوانًا ذا لحم ودم؟!

وإذا جاز – في نظر المفسرين – أن يُقدَّر مضافان في قوله – تعالى -: ﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ﴾ [طه: 96]؛ أي: قبضت قبضة من أثر حافر فرس الرسول، فلِمَ لا يَجوز أن يُقدَّر مضاف واحد في قوله: فأخرج لهم عجلاً؛ أي: صورة عجل، وهو بالبلاغة أليق؟

الحق أن أثر الرسول هو تعليم موسى، والرسول هو موسى – عليه السَّلام – والقبضة من أثره هو الجزء من تعليمه، الذي لم يعجب السامري، وهو الدعوة إلى عبادة إله لا تدركه الأبصار.

– 6 –
ومن عجب أنَّ المفسرين يستدلون بإسرائيلِيَّات يُسمونها أحاديثَ، ويضعون لها أسانيد، من ذلك ما أخرجه ابن مردويه عن كعب بن مالك عن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما زعموا – “أنَّ الله – تعالى – لَمَّا واعد موسى – عليه السَّلام – أن يكلمه خرج للوقت الذي واعده، فبينما هو يناجي ربه إذ سمع خلفه صوتًا، فقال: إلهي، إني أسمع خلفي صوتًا، قال: لعل قومك قد ضلوا، قال: إلهي، من أضلهم؟ قال: أضلهم السامري، قال: فبِمَ أضلهم؟ قال: صاغ لهم عجلاً جسدًا له خوار، قال: إلهي، هذا السامري صاغ لهم العجل، فمن نفخ فيه الروح حتى صار له خوار؟ قال: أنا يا موسى، قال: فوعِزَّتك ما أضل قومي أحد غيرك، قال صدقت يا أحكم الحكماء، لا ينبغي لحكيم أن يكون أحكم منك”.

وفي رواية أخرى عن راشد بن سعد – فيما زعموا – أنَّه – سبحانه – قال: “يا موسى، إنَّ قومَك قد افتتنوا من بعدك، قال: يا رب، كيف يفتنون وقد نَجيتهم من فرعون، ونَجيتهم من البحر، وأنعمت عليهم وفعلت بهم؟ قال: يا موسى، إنَّهم اتَّخذوا من بعدك عجلاً له خوار، قال: يا رب، فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت يا رب أضللتهم، قال: يا موسى، يا رأس النبيِّين، ويا أبا الحكماء إني رأيت ذلك”.

هذا كلام – بل ظلام – لا يمكن أن يخرج من مشكاة النبوة، وهو أقرب إلى أن يكون قول يهودي زنديق يريد أنْ يُفسد على المسلمين عقائدهم.

هذا قول لا يحل لمسلم أن يقوله.

والحق أحقُّ أن يتبع، وليس بعد الحق إلاَّ الباطل، وليس بعد الهدى إلا الضَّلال، والسلام على من اتَّبع الهدى.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/28422/#ixzz629TfTExq