لا بدَّ لأي جماعةٍ بشريَّة، أو أُمَّةٍ ناهضة من منظومةٍ قِيَمِيَّة، ومبادِئَ أخلاقيَّة، ترتكز عليها في نهضتها، وصَوْغ أهدافها ورسالتها، ومثُلِها العليا؛ لتحقيق طموحها في حياتها المنشودة، وآمالها في حياة العزَّة، وعزة الحياة.

• ولا تكاد منظومة القِيَم ومبادئ الأخلاق اللاَّزمة لِنَهضة المُجتمع البشريِّ، أو أي أمَّة من الأمم الإنسانيَّة تَختلف كثيرًا عن بعضها، وإنَّما هي قاسَمٌ مشترَك، يؤكِّد سُنَّة الله في النَّهضة والتَّمكين، فمَن أخَذ بها ملَكَ زمام النَّهضة والقوة والسِّيادة على سائر الأمم والمَجموعات البشريَّة، ومِن تلك القيم والأخلاق الإنسانيَّة: قيم العدل، والحرِّية، والمساواة، والإخلاص، والإتقان، والصِّدق، والأمانة، والنِّظام، والنَّظافة، والتعاون، والاتِّحاد، واستثمار الوقت، والاستقامة على المنهج، وهي جملةٌ منَ القِيَم والمبادئ التي لا تَختلف الشرائع السماويةُ والمذاهب الأخلاقيَّة عليها جُملةً، وإن اختلفت في تفاصيلها، وبها تنهض الأمم، وتتأسَّس الحضارات وتغلب الممالك والدُّول.

وقد تحقَّقت تلك القيَم والمبادئ الأخلاقية في تأسيس دولة الإسلام الأولى على يد رسول الله محمَّد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلَّمَ، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين – في المدينة المنوَّرة أول عاصمة لدولة الإسلام والمسلمين.

وعلى تلك المبادئ نَهضَتْ حضارة الإسلام، واتَّسع سلطانُه السِّياسي لِيَشمل الرُّبع المسكون في العالَمِ القديم في بضع عشراتٍ من السنين، انطلق أتباع الرَّسول الخاتم في مشارق الأرض ومغاربها؛ لا طلبًا للسُّلطة واستعبادِ الشُّعوب، ونهبِ خيراتها، ولا طمعًا في زينة المُلك، وإقامة الدولة الإمبراطورية؛ وإنَّما لهداية الشُّعوب إلى نور الحقِّ والتوحيد، والعدل والحرِّية، والإنسانية الحقَّة؛ فدانتْ لهم شعوب الأرض، وكانوا في ذلك خيرَ هُداة، وأرحم الفاتحين بشهادة المُنصفين من المؤرِّخين والأجانب.

ولذا تحقَّقت لهم في ذلك الزمان ما تُحاول بعضُ قوى الاستكبار تحقيقَه الآن دون جدوى، وجعَل المسلمون العالَمَ قريةً صغيرة، برغم تخلُّف وسائل الاتِّصال التي نَشهدها الآن، وما كان ذلك ليتحقَّق لولا تحقُّق المنظومة القِيَميَّة والأخلاقية التي ارتكزَت على العدالة السَّماوية، والهدايَة الربَّانية وتمجيد حرِّية الإنسان وحقِّه في الاختيار، وتحقيقِ العدالة الإنسانية في أبهى صورها، دون تفريقٍ بين معتَنِقٍ للإسلام، أو مُخالفٍ له، ومِن ذلك: الحكم لليهوديِّ وإنصافه من ابن عمِّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ورابع الخلفاء الرَّاشدين، وإقامة الحدِّ على ابنِ عمرو بن العاص حاكمِ مصر، عندما اعتدى على المصريِّ بعدَما سبقه في ركوب الخيل، ونَهر الخليفةُ الفاروق عَمرًا وقال له يا عمرو: “متَى استعبدتُم الناس وقد ولدَتْهم أمَّهاتُهم أحرارًا”.

• إنَّ تحقُّق تلك المنظومة من القيم والأخلاق الفاضلة هو الذي جعَل نبِيَّ الإسلام يَنام على الحصير، ويشكو الجوع والمسغبة، وقد عرَض الله عليه أن يكون ملِكًا رسولاً، أو عبدًا رسولاً، فاختار أن يكون عبدًا رسولاً؛ يجوع يومًا، ويشبع يومًا، وهو الذي جعَل الخليفةَ الفاروق عمر بن الخطاب ينام تحت الشجرة بلا حرس، ويأتيه رسولُ ملِكِ الفرس، فيَسأل عن قصره، فيُرشِده الناس إلى مكان الخليفة، فيراه نائمًا تحت الشجرة، فيَعجبُ متأثِّرًا، ويقول قولته المشهورة: “حكَمتَ فعدلتَ، فأمنتَ، فنِمتَ يا عمر!”.

• ولا شكَّ أن تحقُّق القيم والأخلاق في نفوس الناس من أبناء أمَّة الإسلام، وإقامتَها فيهم وعليهم وعلى غيرهم دون تمييزٍ، هي التي نهضَت بها دولةُ الإسلام، واتسعت مملكتُه، ودانت لها بذلك الأمم، وتَخلَّت عن مواريثها طواعيةً دون إجبار، حتَّى بعد أن زال سلطانُ الدَّولةِ السياسيُّ عند ضعف المسلمين، وتشرذُمهم وتخلّيهم عن هَدْي ربِّهم في الأخذ بأسباب القوة، والتَّقْوى، بقيت شعوبُ المسلمين على التوحيد، وما أجمل قولَ أمير الشعراء في الإشارة إلى ذلك في خطاب الرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – حين قال:

بِكَ يَا بْنَ عَبْدِاللَّهِ قَامَتْ سَمْحَةً
بِالْحَقِّ مِنْ مِلَلِ الْهُدَى غَرَّاءُ
اللَّهُ فَوْقَ الْخَلْقِ فِيهَا وَحْدَهُ
وَالنَّاسُ تَحْتَ لِوَائِهَا أَكْفَاءُ
وَالدِّينُ يُسْرٌ وَالْخِلاَفَةُ بَيْعَةٌ
وَالأَمْرُ شُورَى وَالْحُقُوقُ قَضَاءُ

• وفي الحياة المعاصرة بعدما تراكمَتْ عوامل الضعف، والتخلُّفِ عندِ المسلمين؛ نتيجةً لِجهلهم بعوامل القوة الكامنة فيهم، وتشرذُمهم، وتخلُّفهم إرادةً وإدارةً، مع سعْيٍ دؤوب من أعدائهم لامتلاك أسباب النَّهضة والتسلُّح بالعلم، ومنظومة القِيَم التقدُّمية؛ مِن جدٍّ في طلب العلم والتجريب، واحترام الوقت، والتَّفاني في العمل، وإتقانه، واحتفاء بالمبدعين والنَّابِهين، وحياة تعتمد على النِّظام، والأخذ بأساليب الجودة، والتحلِّي بالصِّدق والأمانة.

وهي نفسها قِيَم النَّهضة الإسلامية، وهي نفسها القيم التي جعلها الله أسبابًا للتمكين، حتَّى لو أخذ بها المعاندون المُلحِدون الماديُّون! ولكنَّها سنن الله التي لا تتخلَّف، وبِها نهضَت أممٌ أخرى واستَعْلَت.

إلاَّ أنَّها لَم تُحسِن توظيفها لخدمة الإنسانيَّة؛ لِتُقيم من خلالها حضارةَ الإنسانيَّةِ الحقَّة، المرتكزة على الحرية للجميع، والعدالة لجميع البشر، والمساواة بين بَنِي الإنسان أينما كانوا، كما فعلَت حضارةُ التوحيد، والعِلمِ والإيمان.

وإنَّما وجَدْنا حضارةً ذات بُعْد مادِّي وعنصري انتقائي، تعمد إلى استغلال الشُّعوب الضعيفة ونَهب خيراتها، وتُعلي من عنصرها وعِرقها، كما هو ماثلٌ الآن للعيان من تَخلُّف قيم العدالة، حتَّى من المؤسَّسات التي أقامتها تلك الحضارةُ العنصريَّة، وفلسفة الدولة الصِّهيَوْنية؛ لتخدم مصالِحَها، فتخلَّفَت الحياة الإنسانيَّة، وافتقدت للعدالة الإنسانيَّة الرحيمة.

فنرى الإنفاق على التسلُّح، وغطرسة القوة، وغَزْو الفضاء؛ مِمَّا لو استُثمِر لعلاج مشاكل الفقر والجوع في العالَم لَوِسَع البشريَّة جَمعاء، ونرى من لا يَملك يُعطي حقًّا لِمن لا يستحِقُّ، كما فعل “بلفور” وزير خارجية بريطانيا عندما أعطى حقًّا لليهود مِن أنحاء العالَم؛ ليكون لهم وطَنٌ في فلسطين.

وتتأسَّستْ مأساةٌ إنسانيَّة تشكو إلى الله افتقارَ الضمير والأخلاق في عالَم البشر، ونرى توجُّهًا اقتصاديًّا يعمد إلى كسب المال والثَّراء على حساب استغلال الفقراء من العُمَّال، والتعامل مع المال؛ باعتباره سلعةً لا وسيلة؛ لتحقيق العدالة الاجتماعيَّة والتوزيع العاجل للثَّروة، من خلال نظامٍ رِبَوِيٍّ يَستخدم وسائل المُضارَبة والمُتاجرة في الأوراق الماليَّة، وعبادة المال والاستئثار به في جيوب الأغنياء، وأصحاب الشركات العالميَّة الرأسماليَّة في مناخٍ يفتقد إلى العدالة الإنسانيَّة، ورحمة الإنسان بأخيه الإنسان.

خلافًا لما دعا إليه الإسلامُ من توظيف المال، وحُسن الانتفاع به، بعيدًا عن الاكتناز، وإنَّما بتحريكه عبر دورةٍ في مشاريع البناء، وتعمير الأرض؛ حتَّى لا يكون المالُ دُولةً بين الأغنياء، ولذا كان نظام الماليَّة في الإسلام خيرَ نظام لتحقيق سعادة الإنسان ومجتمع التَّراحُم والعدالة الإنسانيَّة، وقد شهد بذلك رجالُ المال والاقتصاد من غير المسلمين منذ قرابة نصف قرن، بل وتنبَّأ بعضُهم بانهيار النِّظام الرِّبَوي، ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276].

وهذا ما تحقَّق في الانهيار الاقتصاديِّ الغربي أخيرًا، وما يَحدث من انهيارٍ في أسواق المال العالميَّة في أوقات سابقة؛ ككارثةِ سوق المناخ في “الكويت”، وكارثة السُّوق الماليَّة في “ماليزيا” في عهد رئيس الوزراء السابق “محاضر محمد”، وما كان ذلك الانهيار والكسَادُ في عالَم السياسة والاقتصاد ليحدث، لولا اختلالُ منظومة القِيَم والأخلاق، والإنسانيَّة النبيلة.