ا د عبد الوهاب المسيري
ا د عبد الوهاب المسيري

تركت العلمانية أثراً عميقاً في اليهودية. والواقع أنه، حينما تصاعدت معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، كانت اليهودية الحاخامية قد دخلت مرحلة الأزمة، وهيمنت القبَّالاة الحلولية على الجماهير اليهودية بحيث أصبحت رؤيتها للكون حلولية متطرفة. ونتيجةً لذلك، بدأت مرحلة التفجرات المشيحانية ومن أهمها حركة شبتاي تسفي، والتي بدأت في سالونيكا والدولة العثمانية وانتشرت منها إلى أرجاء العالم في القرن السابع عشر، وتبعتها الحركة الفرانكية في بولندا في القرن الثامن عشر، وانتهت بالحركة الحسيدية التي سيطرت على معظم جماهير اليهود في شرق أوربا مع نهاية القرن الثامن عشر. لكل هذا، كانت اليهودية قد وصلت إلى مرحلة تتطلب « الإصلاح الديني». ولكن، بسبب تكلس اليهودية الحاخامية شكلاً ومضموناً بين أوساط النخبة الدينية، وبسبب انتشار الحلولية بين الجماهير، أصبح من العسير إصلاح اليهودية من الداخل. وأخذ الإصلاح شكل تبنِّي الأشكال الدينية الإصلاحية المسيحية، ثم تحوَّلت إلى العلمنة الصريحة بعد فترة. وقد بدأ الإصلاح الديني بمحاولة إصلاح الجانب الجمالي، فأُلقيت المواعظ باللغة السائدة في المجتمع، وأُدخل الغناء في الصلوات حيث كانت تؤديه في البداية جوقة من الذكور ثم جوقة مختلطة، كما أُدخل الأرغن، وهذه كلها عناصر مستمدة من طقوس العبادات المسيحية. ثم تصاعدت درجة الإصلاح الديني وتجاوزت الجانب الجمالي ووصلت إلى الجانب العقيدي، فظهرت اليهودية الإصلاحية والمحافظة والتجديدية، وهي صيغ من اليهودية مخففة للغاية لا تعترف بها اليهودية الأرثوذكسية الحاخامية ولا تعترف بحاخاماتها. ومن هنا كان ظهور مشكلة من هو اليهودي؟

وهذه الفرق الجديدة ذات الطابع الربوبي العقلاني، والتي تذهب إلى أن العقل البشري يمكنه الوصول إلى الحقائق الدينية بدون وحي إلهي، وأن الشريعة اليهودية ليست منزَّلة من الإله، تحاول أن تقلص رقعة الغيب على قدر الإمكان أو تلغيه تماماً أو تستبعده من نموذجها المعرفي والتفسيري والأخلاقي. وبدلاً من ذلك، فإنها تتبنى مطلقات علمانية، مثل روح العصر في اليهودية الإصلاحية، أو روح الشعب في اليهودية المحافظة، أو التقدم (في إطار المجتمع الأمريكي) في اليهودية التجديدية.
ثم تزايدت معدلات التحديث والعلمنة على مستوى الشعائر وبشكل جذري، فحدث الاختلاط بين الجنسين، وأُلغي غطاء الرأس، وتم ترسيم النساء كحاخامات، وخُففت شعائر السبت، وتم التخلي عن التلمود كمصدر أساسي للتشريع، وأُقيمت صلوات السبت يوم الأحد. ثم تصاعدت وتيرة الإصلاح إلى أن أصبحت علمانية صريحة، ففي بعض الأبرشيات الإصلاحية أصبحت صلوات السبت تقام في اليوم الذي يتفق عليه المصلون. وقد بدأ مؤخراً قبول الشواذ جنسياً في الأبرشيات اليهودية المختلفة، بل بدأت تظهر أبرشيات مقصورة عليهم، كما قُبل ترسيم الشواذ جنسياً كحاخامات وأنشئت المدارس التلمودية العليا (يشيفا) المقصورة على الشواذ.
ولكن أهم أشكال علمنة اليهود هو ظهور عقائد علمانية قلباً وقالباً، وتُسـمِّي نفسـها مع ذلك «يهودية»، وتسـتخدم ديباجـات يهودية إثنية ودينية. وجوهر هذه العقائد هو أنها تُحل الهوية اليهودية محل العقيدة اليهودية، وتُحل اليهود محل الإله كمركز للقداسة. فظهر ما يُسمَّى «اليهودية العلمانية» و«اليهودية الإثنية» و«اليهودية الإلحادية» و«اليهودية الإنسانية»، وهي عقائد يُقال لها «يهودية» تدور كلها حول مطلق واحد هو الشعب اليهودي وتُسقط الإيمان بالغيب أو الإله، بحيث يصبح الإيمان الديني متمركزاً حول الذات القومية أو مجموعة من المُثُل الدنيوية. وتحوَّلت شعائر اليهودية وعقائدها إلى شكل من أشكال الفلكلور أو التراث القومي، أي أن الدين تحوَّل إلى قومية والقومية تحوَّلت إلى دين، وهذا هو الحل العلماني لمشكلة الهوية: أن تصبح الهوية هي ذاتها مصدر الإطلاق الوحيد وموضع القداسة. بل يمكن القول بأن اليهودية الإصلاحية والمحافظة، والتجديدية على وجه الخصوص، هي في جوهرها في واقع الأمر عقائد علمانية ذات ديباجات دينية.
ومع تزايُد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية، تزايدت معدلات علمنة العقيدة اليهودية، فظهر لاهوت يهودي يستند إلى فكرة موت الإله يجعل من الإبادة النازية ليهود غرب أوربا نقطة ولحظة مرجعية أساسية تحقَّق فيها الشعب اليهودي من موت الإله الذي تخلى عنهم. ودخلت اليهودية كذلك عالم ما بعد الحداثة، فظهرت يهودية لا تدور حول مطلقات وإنما تدور حول لحظات إيمانية تعقبها لحظات شك.
ومن أهم العقائد اليهودية العلمانية ما طرحه دعاة اليديشية الذين يرون أن مضمون الانتماء اليهودي هو تراث ثقافي، وأن ما يجمع يهود اليديشية ليس الإيمان الديني وإنما تراثهم القومي اليديشي الشرق أوربي المشترك. ولذا، طالبوا ببعث قومي يديشي في شرق أوربا. ولكن أهم العقائد العلمانية على الإطلاق هي الصهيونية التي استولت على كل الرموز الدينية اليهودية التقليدية واستخدمت كل الديباجات الدينية بعد أن أفرغتها من مضمونها الديني وأحلت محلها مضموناً قومياً، وجعلت النقطـة المرجعية عناصر دنيوية طبيعية تتسـم بالمطلقية (مطلقات علمانية)، مثل: الدولة الصهيونية واليهود (بدلاً من الإله)، والتاريخ اليهودي الدنيوي (بدلاً من التاريخ المقدَّس)، والهوية اليهودية (بدلاً من الالتزام بالشعائر وتأدية الأوامر والنواهي). كما أكدت الصهيونية (في صيغتها العلمانية وهي أهم الصيغ) أن اليهود مادة بشرية متحركة يمكن تحويلها وتوظيفها إلى مادة نافعة وكذلك حوسلتها. كما أكدت الصهيونية أن اليهود شعب عضوي (وأكدت أوربا العلمانية أنه شعب عضوي منبوذ)، وجماع المفهومين (نفع اليهود وأنهم شعب عضوي منبوذ) هو الصيغة الصهيونية الأساسية.
وقد أكدت الصهيونية، في محاولتها تجاوز اليهودية الحاخامية، على التراث العبراني القديم (فيما قبل ظهور اليهودية)، وعلى البطولات العبرانية غير الدينية وغير الأخلاقية. كما أنها، في كثير من الأحيان، حولت أبطال العهد القديم إلى أبطال قوميين. وكان المؤلفون الصهاينة يمجدون شخصيات شريرة في العهد القديم أو شخصيات معادية لليهودية الحاخامية مثل إسبينوزا وشبتاي تسفي الذي يعده البعض في إسرائيل بطلاً قومياً، وكان هرتزل ينوي تأليف أوبرا عنه. ومن ناحية أخرى، يتم تأكيد المضمون الطبيعي الكوني للأعياد في الدولة الصهيونية على حساب المغزى الديني التاريخي. كما تتبدَّى علمنة اليهودية في الدولة الصهيونية في واقع أن الأعياد تحوَّلت إلى أعياد قومية يحتفل اليهود أثناءها بذاتهم القومية: انتصاراتها وانكساراتها دون الرجوع إلى أية نقطة ميتافيزيقية. وهكذا، بعد أن كانت اليهودية تمنح اليهودي القداسة بمقدار ما يتبع من الشعائر وينفذ من الوصايا والنواهي، صار اليهودي مركزاً للقداسة باعتباره يهودياً وحسب، أي حسب انتمائه الإثني، وأصبحت دولته هي التعبير الأكبر عن القداسة. ومن ثم، أصبح عيد « استقلال إسرائيل » عيداً دينياً. وقد وصلت علمنة يهود العالم، من خلال الصهيونية، إلى درجة أن كثيراً منهم يتصورون الآن أن الدولة الصهيونية هي معبدهم أو هيكلهم، وأن رئيس وزرائها هو حاخامهم الأكبر أو كاهنهم الأعظم. وقد حدا هذا ببعض الحاخامات المتدينين إلى الحديث عن «اليهودية الوثنية» أو عن عبادة الدولة الصهيونية باعتبارها «عودة إلى عبادة العجل الذهبي».
وتجب الإشارة إلى أن النسق الديني اليهودي كان مرشَّحاً لعملية العلمنة من الداخل، أو لعملية الاستيلاء على رموزه من قبل الجماعات العلمانية اليهودية، بسبب حلوليته التي توحِّد بين المطلق والنسبي والمقدَّس والزمني والديني والقومي، إذ يحل الإله في الشعب والأرض حتى يصبحا متعادلين معه في القداسة (الواحدية الكونية) ثم يتفوقان عليه ثم يتلاشى الإله أو يصبح هامشياً ويتم تقديس الأرض والشعب دون الإله، وهذا هو جوهر الأيديولوجيات العلمانية القومية، اليهودية أو غير اليهودية، التي تجعل الأرض والشعب هما مصدر الإطلاق