أثر الإيمان في مواجهة الأمراض الخطيرة

الأمراض الخطيرة، تلك الوحوش الهلاميَّة المخيفة التي تتربَّص بجسم الإنسان، وتتحيَّن الفرص كي تبدأَ هجومها الفتاَّك عبر أنسجة الجِسم الدقيقة، حيث يقِف الطبُّ الحديث عاجزًا أمام العديد منها، والتي اشتهرتْ بسمعتها القاتِلة عبرَ أنحاء المعمورة، إنها مِحْنة المريض والطبيب والأهل، وما أشدَّها من مصيبة، وما أعظمها من محنة!

ففي خضَمِّ هذه الحرْب الصامتة يجد الطبيب نفْسه أمام خيارين؛ إما أن يُعلِن عن حقيقة ما يُعانيه المريض، أو يلوذ بالصمْت إلى حين.

وتَزداد حيرتُه حينما يحاصِره المريض بنظراته المتسائلة أمامَ الكمِّ الهائل مِن العقاقير والمهدِّئات، والتوجيهات الخاصَّة جدًّا جدًّا، والإلحاح على زيارة المستشفى في مواعيد محدَّدة ومضبوطة.

وللأفكار الخاطِئة المتداولة حول الأمراض الخطيرة دورٌ كبيرٌ في تضخُّم الضغوط النفسيَّة والاجتماعيَّة عندَ المرضَى وعائلاتهم، مما يضاعف مسؤوليةَ الطبيب تُجاه المريض، ويفاقِم من تردُّده وحيرته في الاختيار بيْن الإفصاح أو الكتمان، ويرجع اتِّخاذ القرار الحاسِم إلى حالة المريض النفسيَّة والعقليَّة، ومدَى استعداده لتلقِّي الخبر، وقد يضطرُّ الطبيب أحيانًا ليشرح للمريض كلَّ تفاصيل مرضه، وخاصَّة إذا كان لا يعي خُطورة مرضه؛ خوفًا عليه مِن التفريط في رعاية نفْسه بإهمال التعليمات الصارِمة وانتظام تناول الدواء.

أمَّا معاناة الأهل فتبدأ عندما يُصاب أحدُ أفراد العائلة بمرَض عُضال؛ كالسرطان أو الفشَل الكُلوي المزمِن، أو الإيدز، أو داء فيروس الكبد الوبائي، فأوَّل العقبات التي تعترض طريقَهم نحو العلاج الأثمانُ الباهظة والمكلِّفة جدًّا للعقاقير الدوائية، فضلاً عن الحالة الصحيَّة الخطيرة للمريض، والشك في أنَّه قد لا يتماثل للشفاء، فيقعون فريسةً للخوف والقلق والحَيْرة من المصير الذي ينتظره، بل ويقفون عاجزين أمامَ تساؤلاته عن طبيعةِ حالته الصحيَّة، حيث تجتاحهم عواصف من التردُّد كلَّما طرَق المريض الموضوع بسؤال، أو أعْرب عن شكه في حقيقةِ مرضه، وخوفه المتواصِل مِن أن يكون مصابًا بأحد الأمراض الخطيرة، ويبقى السؤال معلقًا، متى نُخبر المريضَ بحقيقة ما يُعانيه؟ ومتى نختار الصمت؟

وفي أغلبِ الأحوال تظلُّ حُقُوق المرضى محفوظةً بأن يكونَ لديهم معلوماتٌ كافية عن المرض الذي يعانون منه، فهم المعنيُّون أولاً وأخيرًا بما ينتظرهم من مراحلِ علاج قدْ تمتدُّ إلى سنوات، هذا بالرغم مِن أنَّنا نجد كثيرًا منهم يصابون بحالة اكتئاب حادَّة بمجرَّد أن يعرِفوا حالتهم الصحيَّة، وربما نوبة انهيار عصبي، وهذا راجعٌ لما ترسَّخ لديهم مِن ذكريات قاسية عن مرْضى مرُّوا بنفس المرحلة، وماتوا بسبب نفْس المرض، إلا أنَّه تبقى دومًا حاجتهم الماسَّة أن يكونوا على بصيرة مِن أمرهم وهم بعدُ في أول الطريق.

والأكثر عرضةً لليأس والإحباط هم غالبًا الطبقة المثقَّفة؛ حيث بإمكانهم أن يتعرَّفوا على التفاصيل الدقيقة لانتشار المرَض ومدَى ضراوته بتتبُّع التحاليل وصور الأشعة بأنفسهم، والعقاقير ومسكنات الألم، فيضعون المخالطين لهم في مأزق مِن تساؤلاتهم المتكرِّرة عن تحسُّن حالتهم أو تدهورها؛ إذ يجد الجميعُ أنفسهم مكرهين على قول الحقيقة وإنْ كانت مؤلمة!

وباستطاعة المرضى أصحاب الشهادات العليا أن يحولوا هذه المِحْنة إلى منحة يَستفيد منها المجتمع بالتوعية والنُّصح والإرشاد، وهكذا ينشغلون عن همومِهم بما سيعود بالنفْع الجليل عليهم وعلى الآخرين.

ولكي نخفِّف من حدَّة هذه المشاعر المؤلمة لدَى المرضى، لا بدَّ مِن أن نمنحهم مِن الرعاية الطبية والمادية والاجتماعيَّة والنفسيَّة كثيرًا منها، فنُحيطهم بالاهتمام الصادق والحب الكبير والحنان البالغ، مع جرعات إيمانيَّة قويَّة تكون لهم درعًا يهوِّنُ عليهم حرَّ ما يجدون من معاناة، فمن المهم أن تكونَ معنوياتهم مرتفعةً قدْرَ الإمكان، ونفسيتهم مستقرَّة، وأن نبعد عنهم كل ما مِن شأنه أن يُكدِّر عليهم صفوَ حياتهم ورِحلتهم العلاجيَّة، ولنا في رسولِ الله أُسوةٌ حسَنة ونبراسٌ يُرشِدنا إلى الكثير مِن آداب زيارة ورعاية المريض.

ونستشهد بهذا الحديث الشريف: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُكرِهوا مرضاكم على الطعام والشراب؛ فإنَّ الله يطعمهم ويسقيهم))؛ صحيح الجامع (7439).

وألاَّ ننسى أن نذكِّرهم بالله دومًا، وبقيمة الصبر والاحتساب، فقدْ جاء في الحديث أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمِنة؛ في جسِده، أو في ماله، أو في ولده، حتى يلقَى الله سبحانه وما عليه خطيئة))؛ رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة.

وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ اللَّه تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضِي فله الرِّضا، ومَن سخط فله السخط))؛ رواه التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنه. وقال – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

وكلما كانت هناك جهودٌ مكثَّفة وشاملة، كان مِن الممكن أن نتلافى الكثيرَ من المشاكل الصحية، مِن فقدان التوازُن النفسي والجسمي عندَ مرضَى السرطان والفشل الكُلوي وفيروس الكبد الوبائي، حيث إنَّ الحالة الوجدانية والنفسية والمعنوية المرتفعة للمرضى تساعِد بشكل كبير في سُرعة الشفاء بنسبة عالية جدًّا، كما أنَّ الطب – والحمد لله – قد تقدَّم كثيرًا في القضاء على الأمراض الخطيرة وهي في بداية انتشارها، والفحص المبكر يُسهِم بشكلٍ مذهِل في سرعة الشفاء – بإذن الله تعالى.

وممَّا يَزيد في معاناة الأهالي أن يتأرجحوا بين أن يخبروا المريض، أو أن يظلّ الخبر سرًّا غامضًا يجثم بثقله على صدورهم، ويزداد الألَمُ كلما تطوَّر المرضُ، فيتطرَّق السؤال الموجع إلى أذهانهم متى نُخبِر المريض بحالته الصحية؟ ومتى نلزم الصمت؟

• يقول الدكتور ناصر حبارات:

“هذا موضوعٌ شائك وحسَّاس جدًّا، ويجب أن نتناوله بحذر، خاصَّة أنه يمس الجانبَ النفسي للمريض، وهو الجانب المهم جدًّا؛ بحيث يمثِّل أكثر مِن ثمانين بالمائة من أساسيات العلاج، فكلَّما كانت الحالةُ النفسية ممتازةً كانت الاستجابة للعلاج أسرعَ وأحسن.

والمرضى أنواعٌ؛ منهم الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والعاقِل والذي لا يعي ما يحدث حوله.

وعلينا أن نتأكَّد من أنَّ إخبار المريض لن يأتيَ بنتائجَ عكسية، ولن يعرقل مسيرة العلاج، وبما أنَّ المريض ممن يعتمد عليه في مسألة العلاج، فإنَّه مِن الأفضل إخبارُه، ويتم ذلك بطريقة علمية ومبسطة تجعله يسعَى إلى العلاج، وتقوِّي فيه الإرادة والمثابرة والمصابرة، حتى الشفاء – إن شاء الله تعالى.

• وباستطاعة الأهل أن يُخبروا المريض الناضِج نفسيًّا وعقليًّا وفكريًّا بمرضه وحالته الصحية، مما يساعد في تجاوبه مع العلاج وامتثاله لأوامرِ الطبيب، وبهذا يتلافى خطرَ المماطلة في تناول الأدوية في وقتها المحدَّد، ويهتم أكثرَ بصحته.

أما إنْ كان هذا الأمر سيجعله يتدهور صحيًّا ونفسيًّا، ويُدخله في صِراعات مع ذاته والاستهانة بفاعلية العقاقير والعِلاج، فضرورة المحافظة على سلامته تقتضي عدمَ إخباره.

فهناك مرضى ساءتْ حالاتهم بمجرَّد أن عرَفوا أنَّهم مصابون بمرَض السرطان، ومنهم مَن رفض أن يُعالج؛ بدعوى أنه لا فائدةَ تُرجى من العلاج؛ إذ النهاية الحتميَّة هي الموت، فلماذا عليه أن يتجرَّع كأس المنيَّة في كل لحظة قبل الأوان؟! ومنهم مَن ازدادت قدرته على المقاومة، وتقبُّله للمرَض جعَلَه يتابع الدواء باستمرار.

وبصورة عامَّة: هل نخبر المريض أم لا؟ هذا راجع لحالته النفسيَّة والعقليَّة، والإيمانيَّة والعمريَّة، فغالبًا ما نجد أنَّ كبار السن يستسلمون بشكل شِبه تام لأوامرِ الطبيب بمجرَّد أن يخبرهم بأنَّ هناك مرضًا يستدعي اليقظةَ والحرص أكثر، والتزام الحذَر وتناول الدواء في وقته، أمَّا الشباب وصغار السن فيُصابون بالهَلَع والخوف الشديد بمجرَّد سماعهم للخبر.

وهذا راجعٌ لأمور عدَّة، نذكر منها: سُمعة المرض العالمية، فقدِ اشتهرت الأمراض الخطيرة بأدويتها الباهِظة الثمن، التي تأخذ من المريض الكثيرَ من الجهد والعافية والجمال، فالشكل يتغيَّر والجهد يضعف، والعافية تختفي إلى حين، وشبح الموت يطلُّ مع كل فجر جديد.

أمَّا الأطفال الصِّغار فلهم فلسفةٌ أخرى بها يفهمون الحياةَ؛ إذ لا شيءَ يوقف نشاطَهم وحركتَهم المستمرة إلا المرَض الشديد، فتجدهم وهم في قِمَّة المعاناة يبتسمون ويَمْرَحون ما دام هناك مُسكِّنٌ للألَم، فيعبث المرَض في أبدانهم البضة الصغيرة ما شاء له أن يعبث، فلن يسلبَهم نقاءَ وبراءةَ سريرتهم، وجمال وروعة قدرتهم على التأقلم.

جرِّب أن تقدِّم لطفل مصاب بمرض مزمن قطعةَ شيكولاتة، وكن متأكدًا أنه سيشكرك بابتسامة وإن بدَتْ لك متعبة، فهي صادقة ونابعة مِن أعماق قلبه.

ويعود هذا الانسجامُ مع المرض إلى حقيقة أنَّهم لا يدركون المخاطرَ المحدقة بهم، فلا يستسلمون أبدًا إلا في المراحل الأخيرة للمرَض.

ومِن الأشياء التي تدعو للتأمُّل هي أحوال المرضَى المختلفة باختلاف درجاتِ صلتهم بالله – سبحانه وتعالى – فالمريضُ المتدين يستعين بالله دومًا ويحتمي بحماه، ويشعر بأنَّ الله مع الصابرين، وأنَّه في معية الله سبحانه، ويحقِّق المعاني الجليلة في الآية الكريمة؛ ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، ويَقتدي بأهل الصبر والعزائم، ويتأمَّل في سير الصابرين وما لاقوه مِن ألوان البلاء والشدائد، وبخاصَّة أنبياء الله ورسله – عليهم السلام – وأنَّ قضاءه نافذ لا محالة، وأنَّ ما أصاب الإنسان لم يكن ليُخطئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبَه؛ قال -تعالى-: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، كل هذه المعاني العظيمة كفيلةٌ بأن تجعلَ المرء يستسلم لقدَر الله بسكينة ورِضا يُضعِف مخاوفه وهواجسه، ويسكت وساوسَ الشيطان.

مِن الحالات التي تركت أثرًا عميقًا بداخلي حكاية السيِّدة فاطمة، وهي تخطو بخُطوات حثيثة نحوَ الستين مِن عمرها، بعد أن أنهَكَها المرَض وهدَّ قواها: حيث سألتها عمَّا ينتابها من مشاعرَ عندما عرفت مؤخرًا أنها مصابة بداء فيروس الكبد الوبائي، فقالت – وابتسامة شاحِبة قد ارتسمت على محياها:

حزَّ في نفسي أن أُعاني من مرَض عضال كل هذه المدة وأنا لا أعرِف، الكل أَخْفى عني الخبر ولم يخبرني الطبيبُ إلا بعد أن أدرك أنَّه فشِل في معركته مع المرض، كانتْ ملامحها تحكي آلامًا لا حصرَ لها، إلا أنها كانتْ تُكابر وتتجمل بالصبر.

صمتتْ للحظات التقطت فيها أنفاسها المتعبة، ثم عادتْ تقول:

• الحمد لله، أوقِن أنَّ الأعمار بيد الله تعالى، ولن يُؤخِّر الله نفسًا إذا جاء أجلُها، ولكنني أحبُّ دومًا أن أكون على عِلم بالأمور التي تهمُّني، ختمتْ حديثها بكلمات موجزة:

• قدَّر الله وما شاء فعَل، والحمد لله أولاً وأخيرًا.

أمَّا الأخت الفاضلة عزيزة، (وهي في الأربعين من عمرها، وهي أمٌّ لثلاثة أطفال)، قالت بعد لحظات صمْت – كانت تسترجِع خلاَلها كل ما مرَّ عليها في الفترة السابقة -:

“كان صعبًا جدًّا علي أن أكتشِف أنني مصابةٌ بالسرطان؛ حيث لم أكن أتوقَّعه أبدًا، حتى لم أشعر به، فلقد ذهبتُ لزيارة الطبيب لاستشارتِه في موضوع الحمل؛ إذ به يكتشف أنَّ هناك ورمًا في الرحم، لم يقل شيئًا، لكن ملامحه بدتْ شاحبة ومتوجِّسة، همس لأمي ببضع كلمات فلملمت كلَّ شيء بسرعة، وأمرتني أن أنتظرها بالخارج.

في بادئ الأمر لم أنتبِهْ لمكوثها عنده، قلت: ربَّما تأخذ وصفةَ الدواء وتُعطيه أجرته، وبسرعة عجيبة بدأتْ ذاكرتي تستعرض ملامحَه الخائفة ويدَ أمي المرتجفة وهي تجمع أغراضي.

طال انتظاري لأمِّي، ويعلم الله كم عانيت مِن تزاحم الهواجس عليَّ مِن كل حدب وصوب، وكانت كلها تحوم حول الجنين.

كانتْ فقط بدايةَ المعاناة، لم أقتنع بكلِّ ما أخبرتني أمِّي به.

ظلَّ ذاك الإحساسُ بالخوف من المجهول يكبر مع الألَم الذي يزداد كلَّ يوم، فيُوجِّهني خوفي وقلقي إلى المستشفى مِن جديد وممرَّاته الموحشة، لم يتوانَ الطبيب لحظةً في أن يخبرني أنَّه عليَّ أن أبدأ فورًا رحلة العلاج، والبحث عن أمَل في حقل ألغام السرطان التي قد تنفجِر في أيَّة لحظة وتكون النهاية!

وعبثًا حاولتْ أمِّي أن تجعلني لا أصدِّق كلام الطبيب، طفقتُ أسال كلَّ مَن مرَّ من نفس الحالة، وتأكَّدتُ أن هناك أمرًا جللاً ينتظرني، إن لم يكن ما جعَل الخافق يضطرب خوفًا وهلعًا، فسيكون حتمًا مرضًا آخرَ لا يقل عنه خطورةً.

• مما كنتِ تخافين في بداية الأمر؟

• أكثر شيء كنتُ أخشاه أن أكونَ مصابةً بالسرطان، وأن أعالج بالعقاقير الكيماوية، فأفقد الكثير من مظهري الأُنثوي، وأُحاصَر بنظرات الشفَقة والعطف والنفور أحيانًا من الآخرين، وخصوصًا زوجي، وكان شبحُ الموت يُلاحقني في كلِّ لحظة.

• متى بدأتِ أوَّل خُطوة؟

• عندما تيقنتُ أنَّني مصابةٌ بفيروس ما، أو أحد الأمراض الخطيرة، طرقت بخطوات ثابتةً أول الطريق:

سلمتُ أمْري لله، وقرَّرتُ أن أواجه زوجي وأهلي بما جُمِع لديَّ من معلومات، كان الوجوم يخيِّم على الوجوه، اختفتِ الابتسامات وحلَّ محلها الخوف والقلَق، بدَا الكل يبحث عن جواب مقنِع يسكت به هواجسي المتزايدة حولَ حالتي، وكان اليوم الذي تيقنتُ أنَّني أمام ابتلاء كبير، وعليَّ أن أتَسلَّح بالصبر والعزيمة، علي أن أصارع مِن أجل البقاء.

• كيف استقبلَ زوجكِ الخبر؟

• زوجي – والحمد لله – ملتزم، ومؤمِن بالقدَر خيره وشرِّه، ولن أخفي عنكِ أنَّ هذا الابتلاء جعل جانبًا رائعًا من شخصيته يظهر بجلاء كبير، أدْعو الله أن يجعل كلَّ ما فعله مِن أجلي في ميزان حسناته يومَ القيامة.

• هل تواظبين على العلاج بدون مماطَلة؟

• بكلِّ تأكيد، فالمعركة قائمةٌ بيني وبين السرطان، واللهَ أسال أن يمدَّني بالقوة كي أنتصر، أنا الآن أعالج بالمستشفى المركزي لمدينة أغادير، وأدعو الله أن أنجح في هذا الاختبار، وأن أُوفَّق في رحلة البحْث عن الأمل.

ومن هنا أبعث رسالةَ شكر خاصة جدًّا لزوجي المحب الصبور، الذي أعطاني الكثيرَ من الحب والحنان، والثقة واليقين، وكان بحقٍّ نعمَ الرفيق الذي لا تَزيده مُعاناتي إلا قربًا وودًّا ورحمة، فجزاه الله عني خيرَ الجزاء.

كما أقول لأمِّي الحبيبة:

“جزاكِ ربي عني كل خير، ولكل مَن ساندني بقليل أو كثير”.

أمَّا عبدالله الشاب المقبِل على الحياة بكلِّ مباهجها، فيسرد قصَّته ونضاله مع المرَض قائلاً:

“منذُ سنتين بدأت المعاناة، في بادئ الأمر كنتُ أحس بدوَّار مع كلِّ إشراقة شمس، وغثيان وصداع مؤلِم لا أستطيع معه أن أُركِّز على شيء، مطارق عدَّة كانت تُوقظني من نومي صباحًا، وضباب كثيف كان يحيط بالعالَم مِن حولي، فلا أستطيع أن أرى الأشياءَ بوضوح مما جعلني أهْرَع إلى الطبيب مكرهًا.

بعد الزيارة مباشرة، أرشدني الدكتور إلى المركز الصِّحي بالعاصمة، وهو مختصٌّ في الأمراض الخطيرة، وطمأنني أنهم سيعملون لي عدَّة اختبارات على الدم والتنفُّس والنبض وتخطيط للمخ، طفقت أفكِّر في الأمر بشكل لافت، فكنت أظلُّ لوقت طويل شارد الذهن، وصامتًا لا أشارك الأهل في أحاديثهم كما كنت أفعل، انتبه إليَّ الكل، وقرَّر أخي بعد أنْ علم بالموضوع أن يرافقني إلى المستشفى حتى يأخذَ التقرير إلى أمهرِ الأطبَّاء في البلد، مضتِ الأيام ثقيلة، والقلق ينهش داخلي ويقضُّ مضجعي، ويكبر السؤال بداخلي ما عساه يكون مرَضي؟!

أفزع في الليلة مراتٍ عديدة، ويُجافيني النوم كلما تطرَّق إلى ذهني أنَّني ربما مصاب بالسرطان، أو الإيدز، أو مرَض قاتل مِن الأمراض الخطيرة.

ليلي ساهِر، ونهاري شارد، يقتنص لحظات أمَل شقَّتْ ظلام ليل الذين يُعانون مِثلي مِن سنوات، كنتُ ألجأ إلى الصلاة أحيانًا، وأكفر بقيمة الحياة أحيانًا أخرى.

بدأت أوَّل خُطوة في رحلة العلاج الطويلة بالذَّهاب باستمرار إلى مراكز الأشعة، والخضوع التام لكل ما يفعله بي الأطباء مِن فحوص، وأخْذ عينات مِن دمي وإبر مؤلمة تنغرز في كلِّ أنحاء جسمي، كنت أتألَّم بصمت، والسؤال الموجع ينخر كالسوس قلبي وعقلي وفكري، تغيرت حياتي كثيرًا لم أعد ذاك الشابَّ المرِح المتفتح للحياة، أصبحتُ أحب العزلة والانفراد والتأمُّل في حقيقة الوجود.

مرَّت أيامٌ عصيبة والحيرة تقتُلني وتعبث بأعصابي، في لحظات الضعْف واليأس والحزن الشديد كنتُ أبكي وأدعو الله أن أعرِفَ حقيقةَ ما يحدُث داخل رأسي.

شيء ما يصرُخ بأعماقي: العلَّة هنا في رأسك المثقَل بالهموم.

وجاء الفرج عندَما كان أخي يتحدَّث خِلسةً إلى عمي، يخبره بأنَّني مصاب بورم خبيث في المخ، وهو في تطوُّر مستمر، وقد لا ينفع معه العلاج إلا إذا سافرتُ خارجَ البلد للعلاج.

لم أَعِ شيئًا بعدها، فقد سقطتُ مغشيًّا عليَّ، لا أدري أطال الوقت أم قصر وأنا في العناية المركَّزة، حتى ظن أهلي أنني أَحتضر.

عندما رأيت النور يُباغتني فجأةً علمت أنني ما زلتُ حيًّا، اعتصرني الألَم بشدة بمجرَّد ما تذكرتُ كلام أخي، مصاب بالورم؛ يعني: محكومٌ عليَّ بالموت، فلا جدوى من أن أعذِّب نفسي بالاستسلام لهم مرةً أخرى، كنتُ أستعرض في أعماق وجداني كلَّ الأحاديث التي تحثُّ على الصبر، لكن ذاكرتي لم تحتفظ إلا بقول النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمر المؤمن! إنَّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إنْ أصابتْه سرَّاءُ شكَر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرَّاءُ صبَر فكان خيرًا له))؛ رواه الإمام مسلم في صحيحه عن صُهَيب بن سنان – رضي الله عنه.

كلَّما رددته تغلغل إلى شغاف قلْبي هدوءٌ عجيب، لكنَّني كنتُ أمامَ حقيقة أكبر مِن أن أستوعبها بهذه السُّرعة.

فكرتُ كثيرًا في الهرَب إلى بلد آخَر؛ حتى لا يرغمني أهلي على العلاج، وأنْ أموت بهدوء أفضلَ مِن آلام وأوجاع الدواء والمرَض معًا.

لكنَّني كنت أعملُ عكسَ ما أُفكِّر، فأجدني في المستشفى في نفس الموعِد.

قوى أخرى تحرِّكني وتُوجِّهني، هل كان حبُّ الحياة والصراع الأبدي بيْن الموت والحياة هو الدافعَ الحقيقي أمامَ صمودي؟.

ولكنَّني لن أنسى – ما حييت – تلك اللحظة المؤلِمة عندما اخترَق مسمعي كالسهم المسموم خبرُ مرضي، شيء واحد فقط يخفِّف عني حر ما أجد، الإيمان بالله، وبأنَّه لن يضيع أجر الصابرين المحتسبين، فقد جاء في الحديث الشريف: ((لو أنفقتَ مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبِله الله منكَ حتى تؤمِنَ بالقدَر، فتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئَك، وما أخطأك لم يكن ليصيبَك، ولو متَّ على غير هذا لدخلتَ النار))؛ (صحيح)، انظر حديث رقم: (5244) في صحيح الجامع.

وما زلتُ للحظة أقاوم اليأسَ بالأمل، ولعلَّ الغد يحمل لي الكثيرَ من المبشِّرات، فالطب دومًا يتطور ويتقدَّم لإسعاد البشرية.

• سألت عبدالله عن الحالة النفسيَّة للمريض، كيف تتأثَّر بالمحيطين به، وبالمفهوم العام في أذهان الناس عن الأمراض الخطيرة، كيف ينظرون إليه، بأيِّ الطرق يتعاملون معه؟”.

صمَتَ عبدالله للحظات، ثم عاد ليقول بثقة بالغة:

“كانت عائلتي – والحمد لله – سببًا في تأقلمي مع المرض، فقد سعَى كلُّ فرْد منهم أن يكون خادمًا لي، وكانوا يعملون جاهدين على أن أبْقَى هادئًا ومستكينًا لرحمة الله تعالى، فالحمدُ لله أواظب على الصلاة، وأحاول أن أبعد عني كلَّ الهواجس القاتِلة، والتي قد تهدِم ما بناه الطبيب في لحظة.

المرَض والصحَّة، كلٌّ منهما يعلمنا ألا نتجاهَل الآخَرين، وأن نتوقَّع أنَّنا ربما نكون يومًا ما مكانَ ذاك المتألِّم في صمت، أو الصارِخ من شدَّة الألَم، يظل الرجاءُ في الله هو السفينة التي تُنجي مِن هلاك محقِّق.

مِن التجارِب التي مرَّت علينا نجد أنَّه كلما تقدَّم العمر بالنسبة للمرضى، هانتْ مشكلة إخبارهم بالحقيقة وإنْ كانت صعبةً، أما الفئة المتضرِّرة من نتائج ومضاعفات سماع الخبَر، فهي فئة الشباب المقبِلين على الحياةِ، والأقل تجربةً في الحياة.

ولنتجاوز هذه الأزمات علينا أن نرسِّخ في أعماق الوجدان مفهومَ الآية الكريمة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 – 157].

ونسأل اللهَ بمنِّه وكرمه أن يَشفي مرضَى المسلمين جميعًا، وأن يُعافي المبتلين، ويجزل لهم العطاءَ على جميلِ الصبر، وروعة التحمُّل.