الحمدُ لله ذِي العَظمة والكِبرياء، والعزَّة والبَقاء، والرِّفعة والعلاء، والمجد والثناء، تعالى سبحانه عن الأنداد والشُّركاء، وتقدَّس عنِ الأمثال والنُّظراء.

والصَّلاة والسلام على نبيِّه وصفيِّه محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – خاتم الأنبياء، وإمام الأتْقياء، عدد ذرَّات الثَّرَى، ونجوم السَّماء.

والحمدُ لله الملِك الحقِّ المبين، السَّلام المؤمِن المهيمن، العزيز الجبار المتكبِّر، ذي الجلال والإكْرام، الذي أكْرمنا بدين الإسلام، ومَنَّ علينا بنبينا محمَّد – عليه الصلاة والسلام – وأنعم علينا بكتابِه المفرق بيْن الحلال والحرام.

والصلاة والسلام على حبيبه، وخِيرته مِن خلقه محمَّد سيِّد الأنام، عدد ساعات الليالي والأيَّام، وعلى آله وأصحابه نجومِ الظلام، وعلى جميعِ الأنبياء والملائكة البررة الكرام.

أما بعد:
لقد قصَّ الله – عزَّ وجلَّ – علينا في سورة الإسراء رحلةَ المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم – وتكريمه؛ قال تعالى: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].

ورَوَى لنا الصحابة الكرام خبرَ الإسراء والمِعراج بتفاصيله، وهو مدوَّن في غالبية كُتُب السُّنة.

أخْرج البخاريُّ ومسلم – واللفظ لمسلم – عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنَّ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((أُتيت بالبُراق، وهو دابَّة أبيضُ طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضَع حافره عندَ منتهى طرفه.. قال: فركبتُه حتى أتيتُ بيت المقدس، قال: فربطتُه بالحلقة التي يربط به الأنبياء، قال: ثم دخلتُ المسجِد، فصليتُ فيه رَكعتين، ثم خرجتُ فجاءني جبريلُ – عليه السلام – بإناء مِن خمر، وإناء مِن لبن، فاخترتُ اللبن، فقال جبريل – صلَّى الله عليه وسلَّم -: اخترتَ الفِطرة، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتَح جبريل، فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمد، قيل: وقدْ بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، ففُتِح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحَّب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السَّماء الثانية، فاستفتح جبريلُ – عليه السلام – فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابنَيِ الخالة: عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكرياء – صلوات الله عليهما – فرحَّبَا ودَعوَا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء الثالِثة، فاستفتح جبريل، فقيل: مَن أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف – صلَّى الله عليه وسلَّم – إذا هو قد أُعطي شطرَ الحسن، فرحَّب ودعَا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل – عليه السلام – قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمَّد، قال: وقد بُعِث إليه؟ قال: قدْ بُعِث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإدريس، فرحَّب ودعَا لي بخير؛ قال الله – عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ﴾ [مريم: 57]، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: مَن هذا؟ فقال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمَّد، قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون – صلَّى الله عليه وسلَّم – فرحَّب ودعَا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل – عليه السلام – قيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومَن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: قد بُعِث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى – صلَّى الله عليه وسلَّم – فرحَّب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السابِعة، فاستفتح جبريل، فقيل: مَن هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – قيل: وقدْ بُعِث إليه؟ قال: قدْ بُعِث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم – صلَّى الله عليه وسلَّم – مسندًا ظهرَه إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخلُه كل يوم سبعون ألف مَلَك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى السِّدرة المنتهى، وإذا ورقُها كآذانِ الفِيلَة، وإذا ثمرُها كالقلال؛ قال: ((فلَمَّا غشِيَها من أمْر الله ما غشِي تغيَّرتْ، فما أحد مِن خلق الله يستطيع أن ينعتها مِن حسنها، فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففَرَض عليَّ خمسين صلاةً في كلِّ يوم وليلة، فنزلتُ إلى موسى – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: ما فَرَض ربُّك على أمَّتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجعْ إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنَّ أمَّتَك لا يُطيقون ذلك، فإني قد بلوتُ بني إسرائيل وخبرتهم، قال: فرجعتُ إلى ربي، فقلت: يا ربِّ، خفِّف على أمتي، فحطَّ عني خمسًا، فرجعتُ إلى موسى، فقلت: حطَّ عني خمسًا، قال: إنَّ أُمَّتك لا يُطيقون ذلك، فارجعْ إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم أزلْ أرجع بين ربي – تبارك وتعالى – وبين موسى – عليه السلام – حتى قال: يا محمد، إنهنَّ خمسُ صلوات كلَّ يوم وليلة، لكلِّ صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومَن هَمَّ بحسنة فلم يعمَلْها كتبت له حَسَنة، فإنْ عملها كُتبت له عشرًا، ومَن همَّ بسيئة فلم يعملْها لم تُكتب شيئًا، فإنْ عَمِلها كُتبت سيِّئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيتُ إلى موسى – صلَّى الله عليه وسلَّم – فأخبرتُه، فقال: ارجعْ إلى ربِّك فاسأله التخفيف، فقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: فقلت: قدْ رجعتُ إلى ربي حتى استحييتُ منه.

لقدْ كانتْ هذه الرحلة العظيمة معجِزةً مِن معجزات رسولنا – صلَّى الله عليه وسلَّم – أراه الله – عزَّ وجلَّ – فيها آياتٍ باهرة، ولقدْ كان في هذه الرِّحلة دَلالات وإشارات ودروس، منها:
1-بعد كل مِحنة مِنحة:
النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعد فقْده لعمِّه الناصر له، وزوجه الكريمة المُعينة الصابرة، التي كانت الأمَّ والزوجة والأخت، فقَدَ جانب القوة في غياب عمِّه وفَقَد الذي كان يدفَع عنه أذَى صناديدِ قريش، وبفقد زوجته فقَدَ القلْب الحنون الذي كان يهدهد عليه، تأثَّر النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – تأثرًا شديدًا، وسُمِّي هذا العام في حياته بعام الحزن.

تجرَّأ كفَّار قريش على إيذائه – صلَّى الله عليه وسلَّم – فخرَج للطائف يدْعو أهلها إلى الإسلام، لكن بلا جدْوى، بل وجد إيذاءً شديدًا، وحدَث هنالك ما حدَث، ورُوي أنه قال: ((اللهمَّ إليك أشكو ضَعْفَ قوَّتي، وقِلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحمَ الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكلني؟ إلَى بعيدٍ يتجهَّمني؟ أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أُبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة، مِن أن تُنزل بي غضبَك، أو يحلَّ عليَّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله)).

فجاء التكريمُ الإلهي لرسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.

يقول الدكتور البوطي: لقدْ عانى رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ألوانًا كثيرةً مِن المحن التي لاقاها مِن قريش، وكان آخرها ما عاناه لدَى هجرته إلى الطائِف مما مرَّ ذِكْره وبيانه.

ولقدْ ظهر في دعائه الذي ناجَى به ربَّه – عزَّ وجلَّ – بعد أنْ جلَس يستريح في بستان ابني ربيعة ما يتعرَّض له كلُّ بشر مِن الشعور بالضعف والحاجة إلى النصير، وذلك هو مظهرُ عبودية الإنسان لله تعالى.

وظهَر في التجائه ذلك شيءٌ مِن معنى الشكاة إليه – سبحانه وتعالى – والطمع منه في عافيته ومعونته، ولعلَّه خشِي أن يكونَ الذي يلاقيه إنما هو بسببِ غضبٍ مِن الله عليه لأمرٍ ما؛ ولذلك كان مِن جملة دعائه قوله: ((إنْ لم يكن بكَ غضب عليَّ فلا أُبالي)).

فجاءتْ ضيافةُ الإسراء والمِعراج من بعد ذلك تكريمًا مِن الله تعالى له، وتجديدًا لعزيمته وثباته، ثم جاءتْ دليلاً على أنَّ هذا الذي يُلاقيه – عليه الصلاة والسلام – من قومه ليس بسببِ أنَّ الله قد تخلَّى عنه، أو أنه قد غضِب عليه، وإنَّما هي سنَّة الله مع محبِّيه ومحبوبيه، وهي سنَّة الدَّعوة الإسلاميَّة في كلِّ عصر وزمَن[1].

بعد كل مِحنة مِنحَة:
هذا أمرٌ حقيقي ملموس، ولنتدبَّر قصَّة يوسف – عليه السلام – بعد إلقائِه في الجبّ، وبيعه بثمَن بخس، وصار عبدًا بعد أنْ كان حرًّا، واتهامه بالفحشاء، ثم سجنه.

أي أمَل بعد ذلك؟!

انقلبت المِحنةُ إلى محنة، وصار يوسف – عليه السلام – عزيزَ مصر، وجلس على عرْش مصر، وأجلس أبويه على العرش.

كان ذلك امتحانًا وابتلاءً مِن الله، رضِي بقضاء الله وصبَر؛ فتبدَّلتِ المحنة إلى منحة، وهذا هو المطلوب أن ترضى بقضاء الله، وتستسلم له صابرًا محتسبًا.

يقول ابنُ الجوزي في “صيد الخاطر”:
هذا آدَم – عليه السلام – تسجُد له الملائكة، ثم بعدَ قليل يخرج من الجنة، وهذا نوحٌ – عليه السلام – يُضرَب حتى يغشى عليه، ثم بعدَ قليل ينجو في السفينة، ويَهلِك أعداؤه، وهذا الخليل – عليه السلام – يُلقَى في النار، ثم بعد قليل يخرُج إلى السلامة، وهذا الذَّبيح يضطجع مستسلمًا، ثم يسلم، ويبقى المدح، وهذا يعقوب – عليه السلام – يذهب بصرُه بالفراق، ثم يعود بالوصول، وهذا الكليم – عليه السلام – يشتغل بالرَّعْي، ثم يرْقَى إلى التكليم.

وهذا نبيُّنا محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – يُقال له بالأمس: اليتيم، ويقلب في عجائب يُلاقيها مِن الأعداء تارة، ومِن مكايد الفقْر أُخرى، وهو أثبتُ مِن جبل حِراء، ثم لما تَمَّ له مرادُه مِن الفتح، وبلَغ الغرض مِن أكبر الملوك وأهل الأرْض، نزل به ضيفُ النقلة، فقال: ((واكرباه!)).

فمن تلمَّح بحر الدنيا، وعلم كيف تتلقَّى الأمواج، وكيف يصبر على مُدافعة الأيَّام، لم يستهون نزول بلاء، ولم يفرحْ بعاجل رَخاء[2].
والقصص كثيرة، لكن تحتاج لمن يتدبَّرها ويتذكَّرها دائمًا.

2- رسالة الله واحدة إلى خلقه أجمعين:
إنَّ الإسلام هو المنَّة الكُبرى والنِّعمة العُظمى التي لم يخترْها الله – تبارك وتعالى – لإسعاد العرَب فحسب، بل اختار الله هذه النعمةَ؛ ليسعدَ البشرية كلها في الدُّنيا والآخرة، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله – جلَّ وعلا – لأهل الأرْض، ما أنزل الله الإسلام للمسلمين وللعرَب فقط، بل لقدِ اختار الله الإسلام دينًا لأهل الأرْض، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ [آل عمران: 19].

لذا ما أرسل الله نبيًّا ولا رسولاً إلا بالإسلام، وتدبَّروا معي هذه الأدلَّةَ السريعة، بدايةً من نبي الله نوح الذي قال كما قال عنه ربُّنا حكايةً عنه في سورة يونس: ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 72].

وما بعث الخليل إبراهيم إلا بالإسلام قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 130 – 132].

وما بعَث الله يعقوب إلا بالإسلام قال تعالى: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133].

وما بعَث الله نبيَّه يوسف إلا بالإسلام؛ قال تعالى في آخر سورة يوسف: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].

وما بعث الله سليمانَ إلا بالإسلام، وهذا وهو كتابه لملِكة سبأ، والتي قرأته على أتباعها في مملكتها؛ قالت:﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 29 – 31]، وما دخلتْ في الإسلام إلا يوم أنْ شرح الله صدرها للحق؛ قالت:﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].

وما بعَث الله نبيَّه موسى إلا بالإسلام؛ قال الله حكاية عنه: ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾[يونس: 84].

وما بعث الله نبيَّه عيسى إلاَّ بالإسلام؛ قال الله حكاية عنه: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52].

وما بعث الله نبيَّه التمام ومسك الختام إلا بالإسلام؛ قال تعالى لنبيه: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

وأنزل عليه – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

فالإسلام دِين أهل الأرْض ليس دينَ العرب فحسب، وليس دين المسلمين فحسب، بل هو دِين البشرية كلها[3].

قال الدكتور منير الغضبان: هي رسالةُ الإسلام؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وبه جاء الأنبياءُ مِن لدُن آدم ونوح إلى محمد – عليهم الصلاة والسلام – فهو يُصلِّي إمامًا بالأنبياء، ويؤمُّ بيتَ المقدس، الذي أقيم للناس؛ ليعبدوا الله تعالى فيه بعد بيت الله الحرام، وهو القِبلة الأولى للمسلمين، وأهميته بالنسبة للمسلمين وثيقةٌ مِثل أهمية بيت الله الحرام ولو تحوَّلتِ القبلة عنه؛ فمحمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – خاتم النبيِّين وإمامهم.

فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعتُ رسولَ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: ((أنا أَوْلى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علاَّت، ليس بَيْني وبينه نبي)).

وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((إنَّ مثلي ومثل الأنبياء مِن قبلي، كمثل رجل بنَى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لَبِنة مِن زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وُضِعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيِّين)).

وقال رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا أَوْلى الناس بعيسى ابن مريم، في الأولى والآخرة)) قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((الأنبياء إخوة مِن علاَّت، وأمهاتهم شتَّى، ودِينهم واحد، فليس بيننا نبي))[4].

وقال الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله تعالى -:
في قصَّة الإسراء والمعراج تلمح أواصرَ القُربى بين الأنبياء كافة، وهذا المعنى من أصول الإسلام: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].

والتحيات المتبادلة بيْن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – وإخوته السابقين توثِّق هذه الآصرة، ففي كلِّ سماء أحلَّ الله فيها أحدَ رسله، كان النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – يستقبل فيها بهذه الكلمة: ((مرحبًا بالأخ الصالح، والنبيِّ الصالح)).

أمَّا محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقد أظهر أنَّه مُرسَل لتكملة البِناء الذي تعهَّده مَن سبقوه، ومنع الزلازل مِن تصديعه[5].

3- إن تتولوا يستبدل قومًا غيركم:
مَن ترَك منهج الله وتخلَّى عنه يتركه الله – عزَّ وجلَّ – ويستبدله ولا يستعمله، فالله ليس في حاجةٍ إلينا؛ الله – عزَّ وجلَّ – غنيٌّ عن العالمين؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].

كما حدَث من بني إسرائيل ترَكوا منهج الله – عزَّ وجلَّ – وحرَّفوه، وشوَّهوا تعاليم النبوَّة ورِسالة السماء، فكانتِ النتيجة أنْ خرجت النبوَّة منهم، وانتقلت إلى غيرهم.

فالحذرَ كلَّ الحذر مِن مخالفة أمر الله، والتقاعُس عن القيام بحقوقه – عزَّ وجلَّ – وواجباته، اللهمَّ استعملنا ولا تستبدِلْنا.

قال الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله تعالى -: لماذا كانت الرحلةُ إلى بيت المقدس، ولم تبدأ مِن المسجد الحرام إلى سِدرة المنتهى مباشرة؟

يقول: إنَّ هذا يرجِع بنا إلى تاريخ قديم، فقد ظلَّتِ النبوَّات دهورًا طوالاً وهي وقفٌ على بني إسرائيل، وظلَّ بيت المقدس مهبطَ الوحي، ومشرق أنواره على الأرض، وقصبة الوطن المحبَّب إلى شعْب الله المختار.

فلمَّا أهدر اليهود كرامة الوحي، وأسقطوا أحكامَ السماء، حلَّتْ بهم لعنةُ الله، وتقرَّر تحويل النبوة عنهم إلى الأبَد، ومِن ثَمَّ كان مَجيء الرِّسالة إلى محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – انتقالاً بالقيادة الرُّوحية في العالَم من أمَّة إلى أمَّة، ومن بلدٍ إلى بلد، ومِن ذرية إسرائيل إلى ذريَّة إسماعيل.

وقدْ كان غضب اليهود مشتعلاً لهذا التحوُّل، ممَّا دَعاهم إلى المسارَعة بإنكاره:﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ [البقرة: 90].

لكنَّ إرادة الله مضَتْ، وحمَّلت الأمة الجديدة رِسالتها، وورث النبيُّ العربيُّ تعاليمَ إبراهيم وإسماعيل ويعقوب – عليهم السلام – وقام يكافِح لنشرها، وجمع الناس عليها، فكان مِن وصْل الحاضر بالماضي، وإدماج الكلِّ في حقيقة واحدة أن يعتبر المسجد الأقصى ثالثَ الحرمين في الإسلام، وأن ينتقلَ إليه الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – في إسرائه، فيكون هذا الانتقالُ احترامًا للإيمان الذي درَج قديمًا في رحابه.

ثم يجمع الله المرسَلين السابقين من حملة الهداية في هذه الأرض وما حولها؛ ليستقبلوا صاحبَ الرِّسالة الخاتمة.

إنَّ النبُوات يصدِّق بعضها بعضًا، ويمهِّد السابق منها للاحِق، وقد أخذ الله الميثاقَ على أنبياء بني إسرائيل بذلك؛ ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 81].

وفي السُّنَّة الصحيحة أنَّ الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – صلَّى بإخوانه الأنبياء ركعتَين في المسجد الأقْصَى، فكانتْ هذه الإمامة إقرارًا مبينًا بأنَّ الإسلامَ كلمة الله الأخيرة إلى خلْقه، أخذت تمامَها على يدِ محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – بعد أن وطَّأ لها العبادُ الصالحون مِن رسل الله الأوَّلين[6].

4- مكانة المسجد الأقصى:
يقول الدكتور البوطي: إنَّ في الاقتران الزَّمَني بين إسرائه – عليه الصلاة والسلام – إلى بيت المقدِس والعُروج به إلى السموات السَّبْع؛ لدلالة باهرة على مدَى ما لهذا البيت مِن مكانة وقُدسية عندَ الله تعالى، وفيه دَلالة واضحة أيضًا على العلاقة الوثيقة بين ما بُعث به كلٌّ مِن عيسى ابن مريم ومحمَّد بن عبدالله – عليهما الصلاة والسلام – وعلى ما بيْن الأنبياء مِن رابطة الدِّين الواحِد الذي ابتعثَهم الله – عزَّ وجلَّ – به.

وفيه دَلالة على مدَى ما يَنبغي أن يوجد لدَى المسلمين في كلِّ عصر ووقت، من الحِفاظ على هذه الأرض المقدَّسة، وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدِّين، وكأنَّ الحكمة الإلهية تهيب بمسلِمي هذا العصر ألا يَهِنوا ولا يجبنوا ولا يتخاذلوا أمامَ عُدوان اليهود على هذه الأرْض المقدَّسة، وأن يطهروها من رجسهم، ويُعيدوها إلى أصحابِها المؤمنين.

ومَن يدْري؟ فلعلَّ واقِع هذا الإسراء العظيم هو الذي جعَل صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله تعالى – يستبسل ذلك الاستبسالَ العظيم ويفرغ كلَّ جهده في سبيلِ صدِّ الهجمات الصليبيَّة عن هذه البقعة المقدَّسة، حتى ردَّهم على أعقابهم خائبين[7].

ويقول الدكتور علي الصلابي:
إنَّ الربط بيْن المسجد الأقصى، والمسجد الحرام وراءَه حِكم ودلالات وفوائد منها:
أ- أهمية المسجِد الأقْصى بالنسبة للمسلمين؛ إذ أصبح مسرَى رسولهم – صلَّى الله عليه وسلَّم – ومِعراجه إلى السماوات العُلى، وكان لا يزال قِبلتهم الأولى طيلةَ الفترة المكيَّة، وهذا توجيه وإرْشاد للمسلمين بأن يحبُّوا المسجد الأقْصى وفلسطين؛ لأنَّها مباركة ومقدَّسة.

ب- الربط يُشعِر المسلمين بمسؤوليتهم نحوَ المسجد الأقْصى بمسؤولية تطهير المسجد الأقْصى مِن أوضار الشرك وعقيدة التثليث، كما هي أيضًا مسؤوليتهم تطهير المسجد الحرام مِن أوضار الشِّرْك وعبادة الأصنام.

جـ – الربط يشعِر بأنَّ التهديد للمسجد الأقصى، هو تهديدٌ للمسجد الحرام وأهله، وأنَّ النيل مِن المسجد الأقصى توطئة للنيل مِن المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوَّابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى مِن أيدي المسلمين، ووقوعه في أيدي اليهود يَعني أنَّ المسجد الحرام، والحجاز قد تهدَّد الأمن فيهما، واتَّجهتْ أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما.

والتاريخ قديمًا وحديثًا يؤكِّد هذا، فإنَّ تاريخ الحروب الصليبيَّة يخبرنا أن (أرناط) الصليبي صاحِب مملكة الكرك، أرسل بعثة للحجاز للاعتداء على قبْر الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – وعلى جُثمانه في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون (النصارى الكاثوليك) في بداية العصور الحديثة الوصولَ إلى الحرمين الشريفين لتنفيذِ ما عجَز عنه أسلافُهم الصليبيُّون، ولكنَّ المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك وكذا العثمانيون، حالتْ دون إتمام مشروعهم الجهنمي، وبعد حرب 1967م التي احتلَّ اليهود فيها بيتَ المقدس، صرح زعماؤهم بأنَّ الهدف بعد ذلك احتلال الحجاز، وفي مقدمة ذلك مدينة رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وخيبر!

لقد وقَف دافيد بن غوريون زعيم اليهود بعدَ دخول الجيش اليهودي القدس يستعرض جنودًا وشبانًا من اليهود بالقُرْب من المسجد الأقصى، ويلقي فيهم خطابًا ناريًّا يختتمه بقوله: “لقد استولينا على القُدس ونحن في طريقنا إلى يثرب”.

ووقفتْ غولدا مائير، رئيسة وزراء اليهود، بعدَ احتلال بيت المقدس، وعلى خليج إيلات العقبة، تقول: “إنني أشمُّ رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادُنا التي سوف نسترجِعُها”.

وبعدَ ذلك نشر اليهود خريطةً لدولتهم المنتظرة التي شملتِ المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية والأردن، وسوريا والعراق، ومصر واليمن والكويت والخليج العربي كله، ووزَّعوا خريطة دولتهم هذه بُعيدَ انتصارهم في حرب (1967م) في أوروبا[8].

5- الله – عزَّ وجلَّ – يُهيِّئ رسوله لمهمة عظيمة:
قال الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله تعالى -:
والله – عزَّ وجلَّ – يُتيح لرسله فرصَ الاطِّلاع على المظاهِر الكبرى لقدرته، حتى يملأَ قلوبهم ثقةً فيه، واستنادًا إليه؛ إذ يواجهون قُوَى الكفَّار المتألِّبة، ويهاجمون سلطانَهم القائم.

فقبل أن يُرسل الله موسى شاءَ أن يريه عجائبَ قُدرته، فأمره أن يُلقي عصاه، قال:﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ﴾ [طه: 19 – 23].
فلمَّا ملأ قلبه إعجابًا بمشاهد هذه الآيات الكبرى، قال له بعد: ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴾ [طه: 24].

وقد علمت أنَّ ثمرة الإسراء والمعراج إطْلاعُ الله نبيَّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – على هذه الآيات الكبرى، وربَّما تقول: إنَّ ذلك حدَث بعدَ الإرسال إليه بقريبٍ من اثني عشرَ عامًا، على عكس ما وقَع لموسى، وهذا حق، وسِرُّه ما أسلفنا بيانه من أنَّ الخوارق في سِير المرسلين الأولين قُصِد بها قهر الأمم على الاقتناع بصِدق النبوة؛ فهي تدعيم لجانبهم أمامَ اتِّهام الخصوم لهم بالادِّعاء، وسيرة محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – فوق هذا المسْتوى.

فقد تكفَّل القرآن الكريم بإقناع أُولي النُّهى من أول يوم، وجاءتِ الخوارق في طريق الرسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – ضربًا مِن التكريم لشخْصه، والإيناس له، غير معكّرة، ولا معطلة للمنهج العقْلي العادي الذي اشترعه القرآن.

وقد اقترَح المشرِكون على النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن يرقَى في السماء، فجاءَ الجواب مِن عند الله: ﴿ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً ﴾ [الإسراء: 63].

فلمَّا رقِي في السماء بعدُ، لم يذكر قطُّ أنَّ ذلك ردٌّ على التحدي، أو إجابة على الاقتراح السابِق؛ بل كان الأمْر – كما قلنا – محضُ تكريم، ومزيد إعلام مِن الله لعبده[9].

6- الإسلام دين الفِطرة:
إنَّ شُرْب رَسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – اللبنَ حين خير بينَه وبيْن الخمر، وبشارة جبريل – عليه الصلاة والسلام -: ((هُدِيت للفطرة))، تؤكِّد أنَّ هذا الإسلام دِين الفِطرة البشريَّة التي ينسجم معها، فالذي فطر الفِطرة البشرية جعَل لها هذا الدِّين الذي يلبِّي نوازعها واحتياجاتها، ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها؛ ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30][10].

الإنسان عبارةٌ عن رُوح ومادَّة، والإسلام أعْطَى كل واحدة حقَّها دون أن تطغَى إحداهما على الأخرى.

هنالك مناهجُ وفلسفات وديانات تبالِغ في إرواء الإنسان مِن الماديات وتترك الرُّوح خاويةً.

ومناهج أخرى تبالِغ في إعطاء الرُّوح حقها، فتخرج عن جادَّة الحق والصواب والعقل.

ولننظر إلى هذا الموقِف بتبصُّر وتعقُّل:
أَخْرَج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه قال: جاء ثلاثة رهْط إلى بيوت أزواج النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – يسألون عن عِبادة النبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فلمَّا أُخبروا كأنَّهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن مِن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم؟! قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصومُ الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزِل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إليهم؛ فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا والله إنِّي لأخشاكم لله وأتْقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطر، وأُصلِّي وأرْقُد، وأتزوَّج النِّساء، فمن رغِب عن سُنتي فليس منِّي)).

أنْكَر النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فِعلَهم؛ لأنَّ للبدن حقًّا، وللزوج حقًّا، وللأولاد حقًّا، وللعبادة حقًّا، فمَن تجاوز فقد تعدَّى وظلم.

لذلك ينتشر الإسلامُ بسرعة كبيرة جدًّا؛ لأنَّه يتوافق مع الفِطرة الإنسانية ومتطلباتها.

7- تصفية الصفِّ المسلِم وتنقيته:
الكثرة لا تُفيد إن لم تكن ذاتَ قِيمة، وثوابت تربَّت عليها، والرَّسول – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان مُقدمًا على مرحلةٍ جديدة، مرحلة الهِجرة، والانطلاق لبناء الدَّولة، يريد الله تعالى لِلَّبِنَات الأولى في البناء أن تكونَ سليمةً قوية، متراصَّةً متماسكة، فجعل الله هذا الاختبارَ والتمحيص؛ ليخلِّص الصف من الضعاف المتردِّدين، والذين في قلوبهم مرَض، ويثبِّت المؤمنين الأقوياء الخُلَّص، الذين لمسوا عيانًا صِدق نبيهم بعد أن لَمَسوه تصديقًا، وشهِدوا مدى كرامته على ربِّه، فأيّ حظٍّ يحوطهم، وأيّ سعد يغمرهم، وهم حول هذا النبي المصطفى وقدْ آمنوا به، وقدَّموا حياتهم فداءً له ولدِينهم؟! كم يترسَّخ الإيمان في قلوبهم أمامَ هذا الحدَث الذي تم بعدَ وعْثاء الطائف، وبعدَ دخول مكة بجوارٍ، وبعد أذَى الصبيان والسفهاء[11].

8- المعراج الروحي للمسلم:
إذا كان النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – قد عرَج به إلى السموات العُلَى، فلديك يا أخي المسلِم معراجٌ رُوحيٌّ تستطيع أن ترقَى به إلى ما شاء الله – عزَّ وجلَّ – بواسطة الصلاة، هديَّة الإسراء والمعراج، التي يقول الله – تبارك تعالى – فيها في الحديث القُدسي الجليل:
((قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبْدي نِصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ﴾، قال الله تعالى: حَمِدني عبْدي، وإذا قال:﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال الله تعالى: أثْنَى عليَّ عبدي، وإذا قال:﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال: مجَّدني عبدي – وقال مرَّةً: فوَّض إليَّ عبدي – فإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال: هذا بيْني وبيْن عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾، قال: هذا لعبْدي ولعبْدي ما سأل)).

المسلِم وهو يُصلِّي يستطيع أن يرْتقي حتى يكادَ يسمع هذه الكلمات مِن الله – تبارك وتعالى – الصلاة هي مِعراج المسلِم إلى الله – تبارك وتعالى.

يقترب مِن ربِّه في سجوده، ويتلو كلامَه في قيامه، ويردِّد أسماءه، ويُكبِّر ويسبح باسمه – عزَّ وجلَّ.

إذا كان مهمومًا تسقط عنه همومُه بين يدي ربه – عزَّ وجلَّ – ولو كان له حاجة يسأل ربَّه فيعطيه، يوفِّقه ويسدِّده ويأنس به، وهذا يتكرَّر كلَّ يوم مرَّات.

قال ابن الجوزي:
“مَن أحبَّ تصفية الأحوال فليجتهدْ في تصفيةِ الأعمال؛ قال الله – عزَّ وجلَّ -:﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16].

وقال النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – فيما يَرْوي عن ربِّه – عزَّ وجلَّ -: ((لو أنَّ عبادي أطاعوني، لسقيتُهم المطرَ بالليل، وأطلعتُ عليهم الشمس بالنهار، ولم أُسمعهم صوتَ الرعد))؛ [ضعيف].

وقال أبو سليمان الدَّاراني: مَن صَفَّى، صُفِّي له، ومَن كدَّر، كُدِّر عليه، ومَن أحسن في ليله، كُوفِئ في نهاره، ومَن أحسن في نهاره، كُوفِئ في ليله”[12].

[1] فقه السيرة، البوطي (112، 113).
([2]) صيد الخاطر، ابن الجوزي (186، 187).
[3] نقلاً عن خطبة حق التعريف بالإسلام؛ لشيخنا محمَّد حسان – حفظه الله تعالى.
[4] فقه السيرة، منير الغضبان (292، 293).
[5] فقه السيرة، الشيخ/ محمد الغزالي (143).
[6] فقه السيرة، الشيخ/ محمد الغزالي (140، 141).
[7] فقه السيرة، البوطي (113).
[8] السيرة النبوية، الصلابي (1/228، 229).
[9] فقه السيرة، الشيخ محمد الغزالي (142،143 ).
[10] السيرة النبوية، د. علي محمد الصلابي (1/228).
[11] انظر: التربية القيادية، (1/ 451)، نقلاً عن السِّيرة النبويَّة للصلابي.
[12] صيد الخاطر، ابن الجوزي (31).