الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فهذه قضية عظيمة تظهر لنا في قصة أصحاب الكهف، فإن أصحاب الكهف فروا وخرجوا من هذه الأرض وتركوا المواجهة؛ لأنهم صاروا في حكم المكرهين، فإنهم إن بقوا قتلوا أو فتنوا في دينهم، (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) (الكهف:20). فكان الخروج خروج اضطرار، وكان الفرار فرار اضطرار وإكراه، وهو مِن نوع خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة بعد المعاناة في دعوة قريش، وبعد أن تعرض للقتل في ليلة الهجرة، فكان الفرار وكان الخروج مع الإكراه، وقد عبَّر عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم وقف على الحزورة، وجعل ينظر الى مكة ويقول: (وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني)، فكان خروج الفتية خروج إكراه معتبر يرفع عنهم الاثم، فإن الانسان إذا أكره إكراهًا معتبرًا رُفع عنه الإثم؛ فضلاً عن التكفير إن أتى شيئًا هو من الكفر في ظاهره، مع اطمئنان قلبه بالإيمان. وفي قصة أصحاب الكهف يظهر لنا أن العذر بالإكراه كان في الأمم من قبلنا على الراجح من كلام أهل العلم، وإن من الادلة على ذلك، قول الله -عز وجل- عن مؤمن آل فرعون: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) (غافر:28)، وجاء في الآثار والاخبار والسنة: “خبر ماشطة بنت فرعون”، وكيف أنها كانت تكتم إيمانها، وجاء في “خبر غلام الاخدود” أنه كان يكتم إيمانه عن الساحر ومَن حوله في أول أمره؛ فهو مِن رحمة الله بالمؤمنين في كل زمان. وأما حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، فإنه كما قال بعض أهل العلم: “لا مفهوم له؛ لأنه في مقام الامتنان، ولا يؤخذ منه مفهوم مخالفة”. وعلى كل حال؛ فالعذر بالإكراه مِن عظيم رحمه الله -عز وجل- بعباده المؤمنين، سواء كان عامًّا في الأمم قبلنا، أو كان مختصًا بأمة الإسلام؛ أنهم إذا أُكرهوا إكراهًا معتبرًا فارتكبوا ما هو محظور محرم تحت هذا الإكراه المعتبر، فإن الله يرفع عنهم الإثم، بل يرفع عنهم حكم التكفير إن أتوا ما هو في ظاهره كفرًا، لكن بشرط أن تكون قلوبهم مطمئنة بالإيمان كما قال -سبحانه وتعالى-: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) (النحل: 106). – ولذا لابد مِن التفريق بين الإكراه المعتبر وغير المعتبر، ومن الإكراه المعتبر: التهديد المعتبر بالقتل والسجن، ونحو ذلك مما لا تطيقه النفوس السوية، بخلاف ما عليه أحوال بعض الناس من التفريط في اعتبار بعض الأمور الموهومة عذرًا وإكراهًا معتبرًا؛ فترى مَن يحلقون لحاهم، ومن تخلع الحجاب، ويخالفون تعاليم الإسلام ويرتكبون المحرمات؛ لأجل وظيفة مرموقة أو منصب أو جاه، أو لمجرد تهديد غير معتبر أو نحو ذلك، ويقولون: نحن معذورون؛ لأننا مكرهون! (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت:10)، أي: يسوي بين إيذاء الناس وعذاب الله -عز وجل-، ويضيع قضيته ويضيع تعاليم دينه، ويظن أن هذا مِن العذر! – فيُقال لهؤلاء: أين أنتم من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- والصالحين على مدار الزمان؟ الذين كان لهم العذر والإكراه المعتبر، ومع ذلك ثبتوا واختاروا الثبات والعزيمة على الرخصة؛ فأين أنتم مِن هؤلاء؟! – أين أنتم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يعذبون في أنحاء مكة؛ فهذا بلال -رضى الله عنه- يُعذب ويؤخذ إلى بطحاء مكة في الرمضاء، ويضرب وتوضع الأحجار على صدره، وهو في كل ذلك ثابت، مع أن له رخصة في أن ينطق كلمة الكفر، مع اطمئنان قلبه بالإيمان؛ إلا أنه ظل ثابتًا يردد “أَحَدٌ.. أَحَدٌ!”. – وهذا ياسر والد عمار وأمه، يظلان على ثباتهما حتى لقيا الله -عز وجل- في أول الشهداء في الإسلام، وغيرهم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومِن الصالحين على مرِّ الزمان. – ومع ذلك نقول: إن العذر بالإكراه مِن رحمه الله بعباده المستضعفين، على الضوابط التي أشرنا إليها من خلال تفصيل أدلة الشريعة كما بينها العلماء. – وهذا الذي وسع الفتية أصحاب الكهف -رضي الله عنهم- في خروجهم من أرضهم؛ خشية القتل أو الفتنة في الدين. وللحديث بقية في وقفاتٍ قادمةٍ -إن شاء الله-. |