عباد الله، عالم اليوم يمر بأزمات ومحن ومصائب كثيرة، لعل منها أزمة انتشار الأوبئة والأمراض والطواعين الفتاكة التي تفتك بالبشر، ولم تكن على سالف عهدهم، بل وتفتك بالحيوانات العجماوات التي يعتمد عليها الناس في طعامهم وشرابهم، فقد سمعنا بوباء جنون البقر، وحمى الوادي المتصدع، وإنفلونزا الطيور والخنازير، والآن وباء كورونا الذي ضرب في الصين أولًا، وبدأ ينتشر في أنحاء من العالم، وقد حار العلماء في معالجته وخلف عددًا كبيرًا من الوفيات وخسائر اقتصادية؛ ما جعل العالم يدق أجراس الخطر وتتوالى الجهود لمحاربته ووقف انتشاره، ناهيكم عن الرعب والخوف من نتائجه ومآلاته.

 

ونقف اليوم هذه الوقفات لنبين منهج الإسلام في معالجة الأوبئة، فإن الناس مع ضعف عقائدهم وقلة علمهم بالشرع، يتخبطون ويتعلقون بالأسباب المادية البحتة، وينسَون الأسباب الشرعية التي تحميهم من الوباء والبلاء.

 

عباد الله، إن الله تبارك وتعالى قد يبتلي العباد ويمتحنهم؛ ليعلموا فقرهم وحاجتهم إليه، وأنه لا غنى لهم عنه، رغم ما تقدموا فيه من العلم، ورغم ما وصلوا إليه من الطب، ورغم ما عندهم من المال، فإن ذلك كله يبقى حائلًا دون كشف الكربات وقضاء الحاجات، فلا يكشف الضر إلا الله، ولا يدفع البلاء إلا الله، ولا يشفي من المرض إلا الله القائل: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17]، ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80]، ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]، وقد عالج الإسلام موضوع الأوبئة، وذلك قبل وقوع الوباء، وبعد وقوعه وانتشاره؛ فقبل وقوع الوباء لا بد على المسلم أن يعلم أن القضاء قد يكون خيرًا، وقد يكون شرًّا، ومن أركان الإيمان الإيمانُ بالقدر خيره وشره، فالمرض من الله والشفاء من الله، والموت من الله والحياة من الله، فهذا من الثوابت التي لا ينازع عليه مسلم في اعتقاده، وأن الله تعالى إذا أنزل المرض، فهو الذي أنزل الشفاء منه، علم ذلك من علمه وجهله من جهله؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله عز وجل))، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء))، وفي مسند الإمام أحمد عن أسامة بن شريك قال: ((كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال: نعم، تداوَوا عباد الله؛ فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم))، وفي مستدرك الحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام وهو الموت)).

 

فعلاج كل الأوبئة والأمراض الفتاكة وغيرها هو عند الله، وقد يعلمه من يشاء من عباده ويخفيه عمن يشاء؛ امتحانًا منه وابتلاءً؛ حتى يرجع العباد إلى خالقهم ومولاهم، ويسألوه ذلك العلاج والشفاء.

 

ومن هدي الإسلام في التعامل مع الوباء عدم الذهاب إلى الأرض التي ينتشر فيها، وعدم الخروج منها؛ يدل على ذلك ما رواه عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سمعتم به – يعني: الطاعون – بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه))؛ [رواه البخاري ومسلم]، فنهى عليه الصلاة والسلام عن التعرض للمكان الذي ينتشر فيه الوباء والمرض والخروج منه.

 

ومن هنا أخذ العلماء رحمهم الله الحكمَ فيما ينبغي على الناس في مرض الطاعون وما شابهه من الأوبئة، وهو أن من كان خارج نطاق المرض والوباء، فإنه ممنوع من القدوم على المكان الموبوء؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، وحتى لا يصابَ بالمرض، فيداخله حينئذٍ التسخط والتحسر والتمني وأنه لو لم يأتِ ما كان له ذلك.

 

والمشروع لمن كان داخل البلد ونطاق البقعة الموبوءة ألَّا يخرج من مكانه ذلك؛ لما في الخروج من المفاسد العديدة؛ فقد يؤدي إلى اتساع نطاق الوباء فيضر بالمسلمين انتقاله؛ ولهذا قال أهل العلم: “إن المرض ليس مختصًّا بالبقعة، ولكنه متعلق بالأشخاص، فالخروج لا يغني عن المرء شيئًا بل إنه يفاقم الحالة”، والحكمة في النهي عن الخروج من بلد الوباء هو حمل النفوس على الثقة بالله والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا بها.

 

وهذا الحديث يدل على أن الإسلام سبق إلى ما يسمى بالحجر الصحي؛ فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الاختلاط بأهل المرض المعدي فقال: ((فرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد))؛ [رواه أحمد]، وقال: ((لا يوردن ممرض على مصح))؛ [رواه أحمد وأبو داود].

 

وقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أُخبر أن الوباء والطاعون قد وقع بالشام، واستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشار عليه بعضهم بالمضي قدمًا، وأشار عليه البعض الآخر بعدم الدخول حفاظًا على أنفس من معه من الصحابة، فقرر عدم الدخول، فاعترض عليه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بقوله: “يا أمير المؤمنين، أفرارًا من قدر الله تعالى؟ فقال له: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله”، فقد بيَّن رضي الله عنه أن أخذ الحيطة والحذر من الوباء والمرض من قدر الله تعالى، ولا ينافي التوكل عليه.

 

ومن هنا يعلم أن ما تفعله السلطات الصحية في بلادنا حرسها الله؛ من الحجر الصحي، ومنع السفر لأماكن الوباء، وتعليق العمرة والزيارة مؤقتًا – هو من هذا الباب والهدي الإسلامي، ويحقق مقاصد الشريعة في حفظ النفوس والأبدان؛ فالواجب التعاون معهم في ذلك.

 

أما عن كيفية معالجة الوباء والمرض بعد الوقوع فيه، فيكون بعدة أمور أيضًا؛ منها: أن يوقن المصاب أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن يسلم بقضاء الله وقدره، ويعلم أن القضاء والقدر منه خيرٌ ومنه شر؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له))؛ [رواه مسلم].

 

فقد يكون إصابته بالمرض رفعة لدرجاته وتكفيرًا لسيئاته؛ حتى يلقى الله وما به من الذنوب شيء، وأن إصابته تلك إن أدت إلى وفاته كانت سببًا في استشهاده ولحوقه بالشهداء؛ ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة لكل مسلم))، وهذا من فضل الله تعالى ورحمته بالمصابين بالأوبئة.

 

ومن واجب السلطات الصحية أن تبذل كل ما في وسعها، من جهة الحجر الصحي، مع ضرورة إعطاء اللقاحات والقضاء على مسببات المرض والوباء؛ لأن ذلك من جملة الأسباب التي أمر بها العبد لمدافعة المرض، وكذلك نشر الوعي الصحي المكثف ببيان مسببات المرض، وكيفية تجنبه، وأهم أعراضه لمداواته، وفي الحين نفسه ينبغي أن نقويَ عند الناس جانب التوكل، وتفويض الأمر لله والثقة به جل وعلا تعالى، فيقترن الأمران ببعضهما؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51]، والمعنى: أننا والخلق جميعًا تحت مشيئة الله وقدره، وهو سبحانه مولانا؛ أي: ملجؤنا ومتولي تصريف أمورنا، فعلينا الرضا بأقداره وتفويض الأمور إليه.

 

عباد الله، إن الطاعون قد يكون ابتلاء من الله تعالى وعذابًا من عنده كما أرسله على بني إسرائيل؛ ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا منه))، وقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: كان عذابًا يبعثه الله على من كان قبلكم، فجعله الله رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد فيكون فيه، فيمكث لا يخرج، صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له – إلا كان له أجر شهيد)).

 

والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين وهو على كل شيء وكيل، فنسأله العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وبلادنا وأهلينا وأموالنا، إنه سميع مجيب.

بارك الله لي ولكم …

 

الخطبة الثانية

عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وتفكروا في عظيم قدرته، فهذا وباء استُنفرت لأجله وزارات الصحة في العالم، و‏أُغلقت بسببه مدارس وجامعات، وعُطلت مصالح، و‏هزَّ اقتصاد العالم، وهو ‏فيروس لا يرى بالعين المجردة، فما أضعف الإنسان أمام قدرة الله! ‏﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، مخلوق ركب الطائرات بلا تذاكر، وتجاوز نقاط التفتيش بلا تحايل، ودخل الدول بلا جوازات، وعبر القارات مع شدة التدابير والاحترازات، ذلك ليعلم العالم أن أمر الله نافذ، وأنه على كل شيء قدير؛ ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11].

 

عباد الله، وإذا كانت الدول والشعوب تقلق وتخاف من انتشار الأوبئة والأمراض، وتتخذ كافة السبل، وتجند كل الطاقات، وتشتري كل الأدوية مهما غلا ثمنها، وهذا أمر مطلوب وواجب، ولكن أما تنبه الناس إلى مرض خطير وفتاك، يفتك بالأمم والشعوب، وضرره على الناس أشد من السموم على الأبدان؛ ألا وهو داء الذنوب والمعاصي؟ فالشرك بالله ومخالفة أمره من أعظم أسباب البلاء وحلول الآفات، واندثار الخيرات وقلة البركات، وإن من الوقاية من الذنوب والمعاصي الأمر بالمعروف والنهي من المنكر؛ فهو صمام الأمان من هلاك الأمم والجماعات؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]، فالواجب أن تتكاتف الجهود في القضاء على وباء المعاصي والمنكرات؛ حتى لا تغرق السفينة؛ فالذنوب والمعاصي هي سبب البلاء والنقمة ونزول الآفات؛ فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة.

 

ونسأل المولى جل في علاه أن يحميَنا ويحميَ بلاد الحرمين وبلاد المسلمين من كل شر ومكروه، إنه سميع قريب مجيب.