من أدواء العصر الحديث
الإلحاد: أدواته وكيف نواجهه؟
لم يكن من المتصور في ظل ما وصل إليه العلم من تقدم إلا أن يزيد الإقبال على الدين رغبةً وطواعيةً وقد كان، غير أنه تزامن مع إفراز مسخٍ مشوه تكأكأ[1] عليه البعض يمجدونه باسم الحرية والانطلاق، ويقيمون له مسارح الأدب والفكر والثقافة حتى نما وترعرع.
الإلحاد كلمةٌ انتشرت ولاكتها الألسن من غير تؤدة، حتى إن اختلافك معه وإصرارك على معاداته ينبئ بأنه لم يعد خفيًّا، بل طفح لحد أحوجك للمقاومة والمناهضة.
تأصيل لغوي:
والإلحاد لغة: من لحَدَ يَلحَد، وأَلحَدَ: مالَ وعدَل، وقيل: لَحَدَ مالَ وجارَ؛ يقول ابن السكيت: “الملحد: العادل عن الحق المُدخل فيه ما ليس فيه، يقال: قد أَلحَدَ في الدين ولحَدَ؛ أي: حاد عنه، وقرئ: لسان الذي يَلحَدون إليه، والتَحَدَ مثله.
وروي عن الأحمر: لحَدت: جرت وملت، وأَلحدت: مارَيت وجادَلت.
وأَلحَدَ: مارَى وجادَل[2].
وفي معجم مقاييس اللغة يقول ابن فارس: “اللام والحاء والدال أصل يدل على ميل عن استقامة، يُقال: ألحَدَ الرجل، إذا مال عن طريقة الحق والإيمان، وسمِّي اللحد؛ لأنه مائل في أحد جانبي الجَدَث، يُقال: لحَدت الميتَ وألحدت، والملتَحَد: الملجأ، سمي بذلك لأن اللاجئ يميل إليه”[3].
وبناءً على هذا التأصيل اللغوي لمدلول الكلمة، فإنه اسم جامع للميل عن الطريق المستقيم وسلوك الطريق المعوج المجافي للحق، الذي يسعى أنصاره لتزيينه دومًا.
والإلحاد بهذا المعنى الواسع لم يقتصر على زماننا، لكنه أقدم بكثير؛ فإبليس مال وجار واعترض وسلك طريق الغواية في مواجهة الحق عندما أمره الله بالسجود، وهنا بذر الإلحاد بذرته التي تؤتي ثمارها في كل عصر بحسب ما يُتاح لأنصاره من أدوات.
ولأننا في عصر العلم والتكنولوجيا، فقد استطاع صانعوه وداعموه اختطاف الأنظار والأسماع، وشنوها دعاية لهذا الفكر “التجديدي” بحسب قولهم، فليس غريبًا إذًا أن تدخل هذه الكلمة كثيرًا من البيوت، حتى ولو على سبيل المناهضة والازدراء.
أسبابه ودوافعه:
ولقد اعتمد هذا الفكر على كلمات مطاطة؛ فاتخذ من الحرية سبيلًا، ومن التحرر من الجمود منطلقًا، وراح يغزو العقول التي أرهقها التعب، وأضناها[4] التخبط معتمدًا على أنه يمتلك وصفة سحرية تزكي العقول وتطهر الأفئدة الحائرة، ونجح بذلك في استقطاب عدد غير قليل ممن أغراهم برفع التكاليف والانسياح[5] في الحياة بلا قيود تردعهم، أو أخلاق تمنعهم.
وبالنظر يتضح أن أكبر مطمح وأرخص مطمع لمعتنقي هذا الفكر “التحرر” بمعناه الكبير، والتحرر هنا لا يعني “الحرية”، لكن الانفلات والخروج على القيود أيًّا كانت، وأيًّا كان مصدرها: سماويًّا كان أو أرضيًّا؛ فالملحد يجافي الانضباط ويبغي التمرد منه؛ كونه قرين الجهل فيتخذ منه مركبًا، ومن ثم فلا يقع في براثنه إلا الجهلاء قليلو البضاعة ضعيفو الحجة.
نعم، الملحد يغري غيره بما أغراه به الداعون بأن عليه أن يجرب هذه الحياة الجديدة، ولا عليه أن يخرج عما ورثه عن آبائه الأقدمين، ويظلون وراءه حتى يقنعوه بألَّا يضفيَ قداسة على أشخاص أو نصوص، فيقولون له: إنها كلها اجتهادات، وما نفعله هذا ما هو إلا نوع جديد من هذه الاجتهادات، لكنها غير مضرة، هكذا يلوكون.
ويبغى الملحدون بنزعهم القداسة عن الأشخاص والنصوص التمرد على أي دين، وبنزعهم القداسة عن النصوص والخروج على الأطر النظرية والتعاليم السماوية والقوانين الاجتماعية.
وبهذا يجد ضعاف النفوس ملجأً يتكئون عليه في تأويل اقتناعهم، حتى إذا ما دخلوا أُشربوا الفتنة واستعذبوها؛ فالشهوات لديهم مباحة، والأعراف مستباحة، والقيود محطمة، حياة بلا سقف يسيحون فيها يتخبطون، ليلهم نهارهم ونهارهم ليلهم، يُمنُّون أنفسهم بكل جديد، يرون الرياح محملة بالمطر، حتى إذا ما اقتربت، وجدوها ريحًا عاصفة تدمر كل شيء بأمر ربها، يستعذبون كل قبيح يرونه من بعيد يحسبونه ماء، فإذا ما اقتربوا منه، وجدوه سرابًا لا ظل له، حياتهم مظلمة إذا أخرج أحدهم يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، وعليه؛ فالإلحاد ضد الدين، وضد القوانين والنظم، بل إنه ضد الفطرة.
ومن المعروف أن الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فليس غريبًا أن يزيد الإلحاد بعكس هذا؛ كونه نقيض الإيمان، فكلما اقتنع الملحد بما يفعل، يتبوأ هنالك المكانة فيزيد إلحاده، فهو لا يرضى أن يكون عضوًا، بل يريد أن يكون من أعلام الملحدين ومُنظِّريهم، ثم تراهم يبذلون جهدًا في تثبيت الإلحاد في قلوب بعضهم، ومثل هذا المعنى خلَّده القرآن لهذا النوع من الحرص على ما يفعل أصحاب العقائد الفارغة المناقضة للدين الحق؛ فقال عن عبدة الأصنام وهم يتناصحون بالصبر على ما هم فيه من شرك، ولولا هذا الصبر لضلُّوا باتباعهم الإيمان: ﴿ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ [الفرقان: 42]، بل إن القرآن ألمح لحرص دعاة الباطل على عبادتهم وتواصيهم على استصغار من يعاديهم، ويورثون ذلك لأبنائهم؛ ففي قصة نوح عليه السلام ظهر هذا جليًّا؛ يقول الله تعالى على لسان نوح: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 7]، وهكذا يستمر الإصرار بتتابع الأزمان مع اختلاف الأفكار والمذاهب، ويبقى التواصي عنوان حرصهم في كل زمان؛ يقول الله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [الذاريات: 53]، فإن كان هذا هو شأن أولئك النفر، فجديرٌ بأهل الإيمان التواصي بالحق والتناصح به، والحرص على ما يدعم العقيدة الحقة، وتوريث ذلك لأبنائهم ومن يحبون؛ فبهذا يزيد الإيمان ويتزعزع الإلحاد.
وهنا تنبيه على أن يراجع كل منا نفسه في عباداته وسلوكياته كيف يتصرف فيها؛ ليختبر في قلبه مدى تعبده لله باسمه “الرقيب” الذي يُعبَد وحده، ولا يتكاسل عن أداء واجباته؛ لأن التهاون يعكس عدم المبالاة بالأوامر والنواهي التي تعكس عدم الاكتراث، وهذا بلا شك مدخل يعتمد عليه الملحدون في اختيار مدعويهم.
وسائل دعائية:
ولا يخفى ما للعصر الحديث من أدوات للإلحاد، فقد باتت أفلام الكرتون للأطفال – مثلًا – في معظمها مطعَّمة بما يؤكد هذه الفكرة؛ حيث السباحة في الفراغ وأفلام الرعب والأساطير، إضافة لاعتياد عين الطفل رؤية الفاتنات بملابسهن، والتفاعل مع قصص الدم والثأر، وبعضها يسمي الظالم القاتل باسم شخص مسلم؛ حتى يغرس كره الاسم في نفوس الصغار فيشبون يكرهون الأسماء والمسميات، ولا يستهجنون القبيح بفضل هذا الزاد الخفي الذي يُعرض عليه بأسلوب الحكاية والتشويق؛ حيث تجتذب العين بالألوان والحركات، وتؤسر الأذن بالموسيقى التي تجعلهم مشدوهين في متابعة الحلقات، وإن طالت.
وأكثر جلاءً ما يقوم به الملحدون من إنشاء صفحات سواء لأشخاص حقيقيين أو اعتباريين على شبكات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك – تويتر – يوتيوب وغيرها) للدعاية المباشرة أحيانًا، وغير المباشرة أحايين أخرى، متبعين في ذلك أسلوب التشويق والإثارة؛ فيعرضون الأسئلة الصادمة التي تثير فضول الكثيرين من أمثال: هل يلزم اتباع دين؟ وغير ذلك من الأسئلة.
وينطلق هؤلاء من أرضية مشتركة مستهدفين غزو العالم فكريًّا؛ فالإلحاد طمس للهُوِيَّة وإشغال بالملذات، ومن أكثر الوسائل مباشرة عقدُهم ندوات يدعون إليها، يعرضون فيها أفكارهم وأطروحاتهم التي – وللأسف – تجد قبولًا لدى من ضعُف إيمانهم بخالقهم وقد أُشربوا الفتنة.
وقد يرجع اقتناع المدعوين بالدرجة الأولى؛ لكونهم ليست لديهم ردود على ما يوجَّه لهم من أسئلة؛ فيتزعزع إيمانهم ويدخلون الطريق على سبيل الاستكشاف، فإن ولجوه تخطفتهم شياطين الإنس والجن بما يشغلهم عن معرفة الحق، ليفاجؤوا وبعد فترة أنهم من الداعين لهذا الفكر الإلحادي المنحرف.
هذا، ويرجع البعض أسباب اقتناع الناس بهم لأسلوب الداعين لهم، الذين قد لا يعمدون إلى الاختلاف والتصادم ويظهرون سماحة في النقاش، بجانب إعدادهم عددًا من الأسئلة والمسائل المحيرة التي تنطلي على الضعفاء؛ فيقعون فريسة لهذه الأفكار الهدامة.
أساليب كثيرة ومتنوعة يستخدمها هؤلاء في سبيل الدعوة لما يعتقدون ولا يملُّون في تحقيق مطالبهم، وبذلك مثَّل وجودهم خطرًا يطعن في الثوابت والقيم.
العلاج:
يمر علاج هذه الظاهرة الخطيرة بأكثر من مرحلة؛ أولى هذه المراحل: التحصين، فلا بد من أن يعي كل مسؤول دوره، فيعلم الوالد أبناءه ما ينفعهم، ويفهمهم دينهم بما يتناسب مع أعمارهم.
كذا المعلم في مدرسته، والإعلامي في موقعه، كل هؤلاء يتكاتفون ويتكاملون مع دور الداعية على منبره؛ فيمثلون درعًا واقيًا يقوض تهافت هؤلاء للنيل منهم.
ومع هذه الخطوة، ينبغي أخذ الحيطة والحذر فيما يعرض على أبنائنا وشبابنا في الوسائل المختلفة، وعبر وسائل التواصل وفي الأندية الاجتماعية، فكل هذه الوسائل التحصينية بدورها تقف حجر عثرة أمام تمدد هذه الأفكار.
ومن خطوات الحل أيضًا – وهذا ليس لكل الأشخاص ولا ينصح به لغير المختصين – أسلوب المواجهة ومناقشة الأفكار بالأفكار، ودفع هذه الأوهام بالحجة والمنطق، وتفنيد دعاويهم، ومن الأساليب المنطقية في دحض حججهم الاعتمادُ المباشر والمقنن في دفع الشبهات التي يعتمدون عليها، وردها بأعذب عبارة وأقوى حجة، كما لا يمنع استخدام وسائل التواصل في ذلك؛ فهذه المنابر باتت أوسع انتشارًا وأعمق تأثيرًا وأسرع وصولًا للغير.
بهذه الصورة المتكاملة ندفع عنا وهمًا ظنَّه البعض الملجأ الآمن والملاذ القويم في مواجهة الإسلام بتعليماته، على أن هذه الأدوار تعوز إلى تنسيق متكامل على نطاق عريض؛ حتى تأتيَ الشجرة ثمارها، ولتنعم مجتمعاتنا في ظلال الإسلام الوارفة.
وقانا الله الفتن ما ظهر منها وما بطن.
——————————————————————————–
[1] تَكَأْكَأَ القومُ: تجمَّعُوا وازدحموا.
[2] لسان العرب: مادة ألحد.
[3] معجم مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 236).
[4] “أَضْنَى” يُضْني، مصدر إِضْناء، أَضْناهُ المَرَضُ: أَثْقَلَهُ، أَتْعَبَهُ.
[5] انساح: انسياحًا، انساح الشيء: اندفع.