لماذا الشر موجود؟*
أحد الأصول الكبرى التي ينبني عليها الإلحاد هو: “تقعيد الاستثناءات”.
وتقعيد الاستثناءات تعني: جعل الاستثناء قاعدة.
وهذا أصل إلحادي كبير!
قال الله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} ﴿٧﴾ سورة آل عمران.
فإذا شهد الملحد شخصًا مريضًا حكم بأن الشر أصلٌ في العالم: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه}.
وإذا شهد جواز التعدد في النكاح حكم باستلاب كافة حقوق المرأة، وإذا شهد جواز الخُلع حكم باستلاب كافة حقوق الرجل.
وهكذا صار أصل الإلحاد تقعيدً للاستثناءات!
وهذا التقعيد الذي يمارسه الملحدة الجدد يسري على أحكام الشريعة والجهاد والنكاح والبيوع والمعاملات، والفتن والبلايا والأوجاع والشرور والتكليف وكل شيء!
فهذا أصل جوهري من أصول إلحادهم.
مع أن الإلحاد لو كان صحيحًا لما استوعبنا وجود الشر ولا الخير، ولا استوعبنا الحكم على أمثال هذه القضايا بأحكامٍ كليةٍ، وكأن معنا تركيبًا عقليًا متجاوزًا نعطي خلاله أحكامًا وتصير هذه الأحكام صحيحة.
فمِن أين لنا بهذا السلطان authority التي نحكم من خلاله ونعطي تقييمًا؟
هل العالم المادي الذي يفتقد للمعيارية أصلاً يعطي هذا السلطان وهذه الوثوقية في الأحكام؟
إن حُكم الملحد وقراره بخطأ هذا وصحة ذاك، وخيرية هذا الحكم وشر الحكم الآخر. هذه القرارات التي يصدرها الملحد تعني خطأ الإلحاد ذاته.
فلو كنّا أبناء هذا العالم فلن يبدو فيه شر ولا خير، ولن تعرف معنى الخطأ ولا الخلل وهذا ما يقرره بالحرف ريتشارد داوكينز Richard Dawkins–عرّاب الملحدين في العالم- حين قال: “الكون في حقيقته بلا تصميم، بلا غاية، بلا شر ولا خير.” -1-
فإذا كانت قسوة عمياء غير مبالية كما تقولون وكما تصفون الكون. فكيف أنت تبالي بالخير أو بالشر؟
إن مبالاتك بالخير والشر وتساؤلك عن وجود أطفال مشوهين، أو وجود ظلم في هذا الحكم الشرعي او ذاك. لهو أكبر دليل على سخافة التصور الإلحادي للوجود!
فالمرء لا يصف خطاً بأنه غير مستقيم إلا إذا كانت لديه فكرة ما عن ماهية الخط المستقيم .
وإذا كان العرض كله سيئًا وتافهًا من الألف إلى الياء كما تزعمون، فلماذا وجدت نفسك أيها الملحد! في ردة فعل عنيفة هكذا تُجاهه، مع أنك من المفترض جزءٌ من العرض؟
فلو كان الكون كله عديم المعنى لما كان قد تبين لنا إطلاقًا أنه عديم المعنى .
فالوضع شبيه بهذا تمامًا: لو لم يكن في العالم نور، ولم تكن في العالم مخلوقات لها أعين لما كُنا نعرف قطعًا أن الظُلمة مسيطرة ولكانت الظُلمة كلمة عديمة المعنى. -2-
فاستيعاب التشوه واستيعاب الخطأ يدلان على استقرار الكمال في الفِطر، ولولا ذلك لما أدركنا معنى الخلل، وكل هذه مفاهيم لا تنتمي إلى هذا العالم المادي اللامعياري في شيء!
إذن الشر هو أكبر دليل على أننا لسنـا أبناء هذا العالم؛ واستيعابك للشر دليلٌ على أن المقدمة الدينية موجودة وصحيحة.
لأنه لا بديل ثالث!
إما مقدمتك الإلحادية: وهذه تفتقد للمعيارية، وبالتالي لا تستطيع عبرها أن تستوعب الخطأ ولا الشر.
وإما المقدمة الدينية: وهذه المقدمة تؤكد وجود الكمال ووجود الفِطرة التي تستوعب ذلك الكمال، وتؤكد هذه المقدمة أن الشر لحِكمة والخير لاختبار. فهي مقدمة متسقة مع ذاتها وتملك تعليلاً ومعنىً وقيمةً للأحكام!
أضِف إلى ما سبق: أن وجود التشوه يُسقط الإلحاد رياضيًا لو كنت تعي!
فلو كانت قضية وجود الإنسان في هذا العالم محض صدفة وتطور، فلن ينشأ إنسان واحد معافىً بالصدفة، ولا كائن أقل تطورًا ولا ميكروب ولا حتى عضية خلية بل ولا إنزيم واحد!
فلو افترضنا أن الكون كله تحوّل إلى برميلٍ من الأحماض الأمينية –البنى التحتية للبروتين – ومضى على هذا البرميل مليارات أضعاف عمر الكون فلن يُنتج إنزيم واحد متخصص فضلاً عن آلاف الإنزيمات والبروتينات المتخصصة التي توجد في أدنى الكائنات الحية وأبسطها.
وهذا ما يعترف به الملحد العنيد فريد هويل Fred Hoyle حين يقرر أن فرصة الحصول على فقط مجموعة الإنزيمات لأبسط خلية حية تصل إلى 10 أس 40,000 مع أن عدد الذرات في الكون كله لا تتجاوز 10 أس80. -3-
بل مجرد افتراض أن البرنامج المنظم للخلية الحية، يمكن أن يظهر بالمصادفة في الحساء البدئي لبيئة الأرض الأولى، هو هراء على أعلى مستوىً ممكن؛ كما يقول بالحرف فريد هويل.
Is evidently nonsense of a high order. -4-
وهذا نفس ما توصل إليه اللاديني فرانسيس كريك Crick Francis مكتشف جزيء الDNA حيث يقرر أن نشأة بروتين واحد وظيفي بسيط بالصدفة هو ضرب من الاستحالة يكاد يفوق 10 أس 260 مع أن عدد ذرات الكون ككل كما قلنا لا تتجاوز 10 أس 80، هذا في بروتين وظيفي بسيط. مع أن أدنى الكائنات به آلاف البروتينات، وفي النهاية يعترف فرانسيس كريك قائلاً: “كرجل منصف، ومُسلح بالعلم المتاح لنا الآن، أستطيع أن أُقرر بشيءٍ من المنطق، أن نشأة الحياة معجزة.” -5-
فإذا كنت أيها الملحد صادقًا مع نفسك في طرحك للشبهة فودِّع إلحادك قبل أن تطرحها!
فوجودك ذاته دليلٌ على خطأ إلحادك.
واستيعابك الشبهة دليلٌ إضافي على وجود الفطرة والمقدمة الدينية.
لذلك أقول أن الملحد لحظة إلحاده يشبه قول القائل: “أعطني معجزة واحدة مجانًا –خلق الحياة، خلق الكون، خلق الجينوم، خلق الفطرة، خلق القيم الأخلاقية، خلق منظومات الحدود الحرجة فيزيائيًا وكيميائيًا،….- وسأشرح أنا البقية”.
أما عن جواب “معضلة الشر” -كما يُسمونها- من منظورٍ ديني فنزيده تفصيلاً كما يلي:
الشر موجود لأنك في عالم اختباري تكليفي توجد فيه بعض الغوامض التي لا تستوعبها لكن تكِل علمها إلى الله وهذا هو التصرف الحكيم المُطالب به {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا} ﴿٧﴾ سورة آل عمران.
فأنت تجد المحكم –الأطفال الأصحاء- وهو الأشمل والأعم، وتجد المتشابه –المشوهين- في صورةٍ لها حِكمتها التي قد تخفى عليك، والمطلوب منك أن تكِل علم هذا المتشابه إلى الله، لأن حكمتك ليست كُلية وربما يَفتح الله لك بالجهد العلمي المادي، والجهد الإيماني الروحي وتطلع على شيءٍ من الحكمة! {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب} ﴿٢٦٩﴾ سورة البقرة.
يقول ديكارت في كتابه التأملات: “ليس لدي أدنى سبب يجعلني أتذمر من أن الله لم يمنحني قدرة أعظم على الفهم، أو أنه لم يهبني نورًا طبيعيًا أكثر مما وهب، فمن الطبيعي أن تظل هناك أشياء غير مفهومة بالنسبة لفهمٍ محدود، ومن الطبيعي أن يظل الفهم المخلوق محدودًا.” -6-
فقوام التكليف على الحكمة وقوام الحكمة على الخفاء!
فلو كان الله موجودًا فما المـانع أن تكون له حكمـة في تدبير الامور؟
فما أبعد أحكامه سبحانه وتعالى عن الفحص، وطُرقه عن الاستقصاء. -7-
وقد جلَّى الله الحِكمة من أفعال الخضر لسيدنا موسى –عليه السلام-، مع أنها أفعالٌ تُعد ظاهريًا مُنكرة وغير مستساغة، لكنها تكتنف على خيرٍ عظيم، وقصة موسى والخضر لم تأت في القرآن من باب السرد والحكايا، لكن من باب التدبر والإخبات والإقرار بقصور النفس البشرية وحكمها المُتعجل.
ثم إنك لو تدّبرت أحوال العباد؛ فقد تجد عجبًا. وقد تحزن على حال الذي يموت في سن المائة بضيق الشرايين التاجية، وتفرح لمآل الذي وُلِد مشوهاً.
فالعبرة لا تقاس بمُعاملٍ واحدٍ في مسألةٍ متشابكةٍ كالإنسان، فربما المشوه يجد الوقت ليتدبر ويرتقي، وابن المائة سنة يرتع في الملذات ويسقط في الدركات.
لذا التبسيط واختزال المُعاملات في مُعاملٍ واحد أسلوبٌ غير مقبولٍ منطقيًا وغير صحيح دينيًاً، لكنه الحجة الباقية للملحد، وبدون هذا الأُسلوب لن تستقيم له شبهة.
فلا يجوز لملحدٍ أن يحتجَّ في باب الحِكمة الإلهية بشيءٍ، لأن الملحد بداهةً ليس كُلي العلم، ولا يعرف ما في غدٍ حتى يُقرر ويعطي نظرةً شموليةً على مسألةٍ لم يستوعبها.
فحُكم الملحد على الأمور التي تخفى فيها الحِكمة قـاصرٌ بقصور الطبيعة البشرية نفسهـا، وبقصور نظرتهـا الإدراكية.
فالإستيعـاب الشمولي، والحُكم الكُلي، ليس مجال النفس البشرية ولا يقع في نطاق قدراتهـا القاصرة، وبالتالي فلا يحق للملحد أن يتحدث في باب الحِكمة الإلهية بشيءٍ أو يعطي فيها رأيًا!
فالبقعة السوداء قد تكون فى الصورة كلها لونًا من ألوانها التى لا غنى عنها –كما يقول محمود عباس العقاد رحمه الله-، ونحن فى حياتنا القريبة قد نبكى لحادثٍ يعجبنا ثم نعود فنضحك أو نغتبط بما كسبناه منه بعد فواته.
فسبحان الخالق المدّبِّر!
المهم خلاصة ما نريد أن يرصده القلم، ويثبت عليه البصر، ويستجليه القلب، أن إطباق الملحدين على تقعيد الاستثناءات صار أصلاً لا ينفك رصده عمن قرأ خطابهم!
والحمد لله رب العالمين.
——————————
*هناك نقطة جميلة ذكرها الأخ الحبيب د.مهاب السعيد في كتابه “الإجابة” بشأن موضوع الشر وهي أن: مشكلة الشر مشكلة نصرانية لا علاقة لنا بها أصلاً!
لكن كهنة الإلحاد ينقلون لنا إفراز ملاحدة الغرب بلا وعي بالثقافة الإسلامية، وكأنهم لم يقرئوا يومًا ما سطرًا في الإسلام!
هذه القضية لا تمثل لنا أدنى مشكلة.
المشكلة هي مع النصرانية حيث ترى النصرانية أن الإله محبة وأنه صلب ابنه –الذي هو نفسه أيضًا- على الصليب من أجلنا، وهنا تظهر المشكلة الكبرى إذا كان الله محبة وصلب ابنه لماذا ما زال للشر موجودًا؟
أين المحبة؟
أما في الإسلام فالشر والخير ابتلاء من جملة الابتلاءات {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} ﴿٣٥﴾ سورة الأنبياء.
والله في الإسلام كما له كل صفات الجمال –المحبة والرضا والعفو والرحمة- كذلك له كل صفات الجلال فهو العزيز المنتقم القوي المتعال!
1- The universe we observe has precisely the properties we should expect if there is, at bottom no design, no purpose, no evil and no good.
River out of Eden, p.131-132
2- C.S. Lewis response بتصرف.
3- the chance of obtaining the required set of enzymes for even the simplest living cell without panspermia was one in 1040,000. Since the number of atoms in the known universe is infinitesimally tiny by comparison (1080).
4- The notion that not only the biopolymer but the operating program of a living cell could be arrived at by chance in a primordial organic soup here on the Earth is evidently nonsense of a high order.
Sir Fredrick Hoyle and Chandra Wickramasinghe, Evolution from Space (New York: Simon & Schuster, 1984), p. 148.
5- “If a particular amino acid sequence was selected by chance, how rare an event would this be?
“This is an easy exercise in combinatorials. Suppose the chain is about two hundred amino acids long; this is, if anything rather less than the average length of proteins of all types. Since we have just twenty possibilities at each place, the number of possibilities is twenty multiplied by itself some two hundred times. This is conveniently written 20200 and is approximately equal to 10260, that is, a one followed by 260 zeros.
” Moreover, we have only considered a polypeptide chain of rather modest length. Had we considered longer ones as well, the figure would have been even more immense. The great majority of sequences can never have been synthesized at all, at any time.” pp. 51-52
“An honest man, armed with all the knowledge available to us now, could only state that in some sense, the origin of life appears at the moment to be almost a miracle, so many are the conditions which would have had to have been satisfied to get it going.”
Life Itself: Its Origin and Nature, P.88
6- Descartes, R., Meditations and Other Metaphysical Writings, p.49. (نقلاً عن كتاب ثلاث رسائل؛ د.عبد الله الشهري، مركز نماء).
7- قول كتابي –منقول عن الكتب المقدسة القديمة، الرسالة إلى رومية إصحاح 11 عدد 33-.