نواصل في هذا التحذير تقديمَ البحوث العلمية الحديثيَّة للقارئ الكريم؛ لبيان حقيقة هذه القصةِ التي اشتهرتْ على ألسنة الوعَّاظ والقُصَّاص بما فيها من افتراءاتٍ، واشتهرتْ أيضًا في كتب التفاسير، وهذه القصة تصطدم مع الأحاديث الصحيحة والحقائق العلمية، وإلى القارئ الكريم حقيقة هذه القصة الواهية.
أولاً: متن القصة:
رُوي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: قال الحواريون لعيسى ابنِ مريمَ: لو بعثتَ لنا رجلاً شهد السفينةَ، فحدَّثَنا عنها، فانطلَقَ بهم حتى انتهى بهم إلى كثيبٍ من تُراب، فأخَذَ كفًّا من ذلك التراب بكفِّه، قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كعبُ حام بن نوح، قال: فضرب الكثيبَ بعصاه، قال: قم بإذن الله، فإذا هو قائمٌ يَنفُضُ التراب عن رأسه قد شابَ، قال له عيسى: هكذا هلكتَ؟ قال: لا، ولكن مِتُّ وأنا شابٌّ، ولكنني ظننتُ أنها الساعة، فمن ثَمَّ شِبتُ، قال: حدِّثْنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألفَ ذراعٍ ومائتي ذراع، وعَرْضُها ستمائة ذراع، وكانت ثلاثَ طبقات؛ فطبقةٌ فيها الدوابُّ والوحوش، وطبقةٌ فيها الإنس، وطبقةٌ فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب، أوحى الله إلى نوحٍ أنِ اغمزْ ذَنَبَ الفيل، فغمز فوقع منه خنزيرٌ وخنزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفأر بِجَرَزِ السفينة – أي: صدرها أو أوسطها – يقرضه، أوحى الله إلى نوح أنِ اضربْ بين عيني الأسد، فخرج من منخره سِنَّوْرٌ وسنورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف عَلِم نوحٌ أن البلاد قد غرقتْ؟ قال: بعث الغرابَ يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف؛ فلذلك لا يألف البيوت، قال: ثم بعث الحمامةَ، فجاءت بورق زيتون بمنقارها، وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقتْ، قال: فطوقها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثَمَّ تألف البيوت، قال: فقلنا: يا رسول الله، ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عُدْ بإذن الله، قال: فعاد ترابًا.
ثانيًا التخريج:
أخرج هذه القصةَ الإمامُ ابن جرير الطبري في “تفسيره”: ح قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن مفضل بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مِهران، عن ابن عباس قال، فذكر القصة، وأورد هذه القصةَ الحافظُ ابن كثير في “تفسيره” كذلك، وأورد هذه القصةَ الإمامُ القرطبي في “تفسيره”.
ثالثًا التحقيق:
هذا الحديث الذي جاءت به هذه القصة مسلسلٌ بالعلل:
الأولى: المفضل بن فضالة:
أورده الإمام المزي في “تهذيب الكمال”، قال: المفضل بن فضالة بن أبي أمية القرشي، أبو مالك البصري.
ثم بيَّن مَن روى عنهم، وفيهم علي بن زيد بن جُدعان، كذلك وبيَّن مَن روَوْا عنه، وفيهم حجاج بن محمد المصيصي.
ثم نقل أقوال علماء الجرح والتعديل فيه، قال عباس الدوري، عن يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال أبو عبيد الآجري، عن أبي داود: بلغني عن عليٍّ أنه قال: في حديثه نكارة، وقال الترمذي: شيخ بصري، والمفضلُ بن فضالة المصري أوثقُ منه وأشهر، وقال النسائي: ليس بالقوي.
قلتُ: لذلك أورد الإمام النسائي في كتابه “الضعفاء والمتروكين” ترجمته وقال: “مفضل بن فضالة ليس بالقوي”.
وقال الحافظ ابن حجر في “التقريب”: “المفضل بن فضالة بن أبي أمية، أبو مالك البصري،”ضعيف”.
قلتُ: وأورده الإمام الذهبي في “الميزان”، وأقرَّ ما أورده الإمام المزي عن الأئمة: الإمام النسائي، والإمام الترمذي، والإمام يحيى بن معين، ثم أورد له الإمامُ المزي حديثَ “أخذ النبي بيد المجذوم ووضعها معه في قصعته”، وبيَّن أنه منكر، ثم ذكر قول الإمام ابن عدي: “لم أرَ له أنكرَ مِن هذا”. اهـ.
قال الإمام العقيلي في “الضعفاء الكبير”: “ليس مشهورًا بالنقل”.
العلة الثانية: علي بن زيد بن جُدْعان:
قال الإمام المزي في “تهذيب الكمال”: علي بن زيد بن جدعان، وهو علي بن زيد بن عبدالله بن أبي مُليكة، واسمه زهير بن عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمي، أبو الحسن البصري المكفوف، مكي الأصل.
ثم بيَّن مَن روى عنهم، وفيهم يوسف بن مهران، ثم نقل أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه؛
قال أيوب بن إسحاق بن سافري: سألت أحمد عن علي بن زيد، فقال: ليس بشيء، وقال حنبل بن إسحاق بن حنبل: سمعتُ أبا عبدالله يقول: علي بن زيد ضعيفُ الحديث، وقال عثمان بن سعيد الدارمي، عن يحيى بن معين: ليس بذاك القوي، وقال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن معين: ليس بذاك، وقال مرة أخرى: ضعيف في كل شيء، وقال عباس الدوري، عن يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال في موضع آخر: ليس بحُجة، وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، فيه ميل عن القصد، لا يُحتَج بحديثه، وقال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو بكر بن خزيمة: لا أحتج به؛ لسوء حفظه، وقال سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد: حدَّثَنا عليُّ بن زيد، وكان يقلب الأحاديث.
قلتُ: لذلك لم يخرج له البخاري في صحيحه، ولم يروِ له مسلمٌ احتجاجًا؛ بل مقرونًا بثابت البناني.
قال الحافظ ابن حجر في “التقريب”: علي بن زيد بن عبدالله بن زهير بن عبدالله بن جدعان، التيمي البصري، أصله حجازي، وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان، ينسب أبوه إلى جد جده، ضعيف.
قال الإمام ابن حبان في “المجروحين”: “علي بن زيد بن عبدالله بن أبي مليكة بن عبدالله بن جدعان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي الأعمى، كان يهم في الأخبار، ويخطئ في الآثار، حتى كثُر ذلك في أخباره، وتبين فيها المناكير التي يرويها عن المشاهير، فاستحقَّ ترك الاحتجاج به، مات بعد سنة سبع وعشرين ومائة، وقد قيل: سنة إحدى وثلاثين ومائة” اهـ.
العلة الثالثة: يوسف بن مهران:
أورده الحافظ ابن حجر في “تهذيب التهذيب”، قال: “وروى عن ابن عباس، وروى عنه علي بن زيد بن جدعان، وقال الميموني عن أحمد: يوسف بن مهران لا يُعرف، ولا أعرف أحدًا روى عنه إلا علي بن زيد”. اهـ.
قلتُ: وأقرَّ ذلك الإمامُ الذهبي في “الميزان”، قال الحافظ ابن حجر في “التقريب”: “يوسف بن مهران البصري، وليس هو يوسف بن ماهك، ذاك ثقة، وهذا لم يروِ عنه إلا ابن جدعان، وهو لين الحديث من الرابعة” اهـ.
قلتُ: والرابعة هي طبقة، جلُّ روايتهم عن كبار التابعين، كالزهري وقتادة، وبهذا يتبين أن هذه القصة واهية منكرة، وسندها مسلسل بالضعفاء، وفيهم مَن يهم في الأخبار، ويخطئ في الآثار، وكثر ذلك في أخباره وتبين فيها المناكير؛ لذلك أورد الحافظ ابن كثير – رحمه الله – هذه القصة في “البداية والنهاية” ثم قال: “وهذا أثر غريب جدًّا”. اهـ.
قلتُ: ولقد تبيَّن من التحقيق الذي أوردناه آنفًا أن هذا الأثر الذي جاءتْ به القصة غريبٌ، لم يروه عن ابن عباس إلا يوسفُ بن مهران، ولم يروه عن يوسف بن مهران، إلا علي بن زيد بن جدعان، ولم يروه عن علي بن زيد إلا المفضل بن فضالة؛ فهو أثرٌ غريب منكر مسلسل بالضعفاء؛ لذلك نقل الإمامُ السيوطي في “التدريب” عن الإمام أحمد بن حنبل، قال: “لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب؛ فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء” اهـ.
ونقل عن مالك، قال: “شرُّ العلمِ الغريبُ، وخيرُ العلم الظاهرُ الذي قد رواه الناس” اهـ.
ثم قال السيوطي: “وروى ابن عدي عن أبي يوسف، قال: من طَلَبَ الدِّين بالكلام تزندَقَ، ومن طلب غريب الحديث كَذَبَ” اهـ.
قلتُ: ولقد نقل الإمام القاسمي في “قواعد التحديث عن فنون مصطلح الحديث” قول الإمام أحمد بن حنبل وقول الإمام مالك.
وبهذا يتبين أن هذه القصة من الغرائب المنكرة جدًّا، فليحذر مَن يتعلَّق بهذه الواهيات من الظن بأن أب الخنزير هو الفيل؛ حيث تبيَّن أن القصة واهية منكرة، فلا يصح لها أصل شرعي، ولا حقيقة علمية، حيث تبيَّن من عِلم الوراثة أن كروسومات نواة خلية الخنزير، تخالف تمامًا كروسومات نواة خلية الفيل في عددها، وفيما عليها من جينات.
رابعًا: علاقة المسخ بالقردة والخنازير:
قال – تعالى -: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60]، قلتُ: أخرج الإمام أحمد في “المسند” ح قال: حدثنا عبدالرزاق، حدثنا الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن المغيرة بن عبدالله اليَشْكري، عن معرور بن سويد، عن عبدالله بن مسعود، قال رجلٌ: يا رسول الله، القردةُ والخنازير، هي مِمَّا مُسِخَ؟ فقال النبي: ((إن الله – عز وجل – لم يُهلك قومًا فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك)) اهـ.
وأخرج هذا الحديثَ الإمامُ مسلم في “صحيحه”، كتاب “القدر” ح قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وحجاج بن الشاعر – واللفظ لحجاج – قال إسحاق: أخبرنا، وقال حجاج: حدثنا عبدالرزاق به؛ أي: بنفس مسند أحمد.
قال الإمام النووي – رحمه الله – في “شرحه لصحيح مسلم”: “قوله: ((وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك))؛ أي: قبل مسخ بني إسرائيل، فدلَّ على أنها ليست من المسخ” اهـ.
قال – تعالى -: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]، وقال – تعالى -: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 49، 50].
هذا ما وفقني الله إليه، وهو وحده من وراء القصد.
المصدر: مجلة التوحيد، العدد 87