كان من أهم سمات الحداثة الأوروبية ذلك الصراع الشديد بين الدين بشكله الكهنوتي والعلوم الطبيعية، لدرجة أصبح فيها هذا الصراع معلما بارزا في تاريخ الحضارة الأوروبية.
ولعل أشهر نموذج يقدم عن الصراع بين العلم والكنيسة هو محاكمة عالم الفلك الإيطالي غاليليو غاليلي [1] بسبب دفاعه عن فكرة دوران الأرض حول الشمس، وهو ما يخالف فكرة مركزية الأرض التي كانت سائدة منذ زمن بطليموس وأرسطو.
تُقدَّم محاكمة غاليليو على أنها عداء بين الدين والعلم، وهو أمر صحيح جزئيا، إذ لا يمكن إغفال الاستبداد الذي كانت تمارسه الكنيسة ضد كل فكر يخالفها، ولا يمكن تجاهل التعاليم الكنسية التي كانت رافضة لبعض الأفكار العلمية، لكن غالبا ما يتم تجاهل الظروف السياسية التي لعبت دورا في إثارة هذا الصراع، فلم تكن في حقيقتها سوى صراع بين العلم والكهنوت الكنسي الفاسد، فقد ظهرت فكرة دوران الأرض حول الشمس قبل غاليلي مع الراهب الكاثوليكي نيكولاس كوبرنيكوس [2] ورغم أنها كانت مخالفة لما تتبناه الكنيسة إلا أنها لم تثر إشكالا، بل كان هناك فضول من كثير من الرهبان المهتمين بالعلوم للاطلاع على أعمال كوبرنيكوس كما يظهر من مراسلاته مع كاردينال كابوا نيكولاس فون شونبورغ حيث أظهر رغبة شديدة في الاستفادة من أعمال كوبرنيكوس، كما لم تجد هذه النظرية الجديدة رفضا في بلاط البابا بولس الثالث.
ومن الطريف أن أول وأشهر من اتهم غاليليو بالهرطقة لم يكن كاهنا كاثوليكيا بل كان أستاذا للفلسفة وهو كوسيمو بوسكاكليا [3] Cosimo Boscaglia، فكان جواب غاليليو أن كوسيمو ليس رياضيا ليفهم نظرياته ولا راهبا ليشرح النصوص المقدسة!
تقدم قصة غاليليو دائما نموذجا على رفض الدين للعلم، حتى صارت هذه القصة اختصارا لعلاقة العلم بالدين، بينما يتم إغفال نماذج أخرى كانت فيها اللادينية عدوا للعلوم التجريبية، وسادت هذه الفكرة مع تزايد مستوى العلمنة في أوروبا ورفض الإنسان الحداثي للدين، وسعيه نحو الكفر والإلحاد، لكن هذا التمثيل في الواقع قاصر ومتحيز إذ لا يعكس حقيقة العلاقة بين الدين والعلم، بل يحاول اختزالها عمدا في صورة تشيطن الدين وتنزه الإلحاد.
وفي هذه المقالة أردت تسليط الضوء على جوانب كثيرة كان فيها الإلحاد العلماني عائقا أمام التطور العلمي ومارس فيها الإقصاء والتحيز ضد كل فكرة تخالفه.
ويمكن تقسيم هذه العرقلة الإلحادية للتفكير العلمي إلى مستويين:
أولا: استغلال النفوذ السياسي لقهر الآراء العلمية المخالفة
عندما حكم الإلحاد الاتحاد السوفييتي لم يكن المجال العلمي بمنأى عن سطوة العقيدة الإلحادية، وأقدم هنا نموذجا مصغرا عن هذا الطغيان الإلحادي.
رفض الملاحدة السوفييت علم الوراثة ووضعوا سياسة زراعية سميت بالليسنكية قيدت الأبحاث في مختلف التخصصات البيولوجية، ومنعوا تدريس قوانين مندل للوراثة وعددا من النظريات المتعلقة بالجينات، مما أدى إلى عرقلة البحث العلمي في المجال الفلاحي.
شنت السلطات السوفييتية حملة واسعة ضد العلماء وتعرض الآلاف منهم للطرد أو النفي أو القتل بسبب أفكارهم العلمية.
نيكولاي فافيلوف أشهر علماء الأحياء السوفييت ومدير أكاديمية لينين للعلوم الزراعية اعتقلته الشرطة السرية وتعرض لاستجوابات عنيفة لمدة 11 شهرا وحكم عليه بالإعدام بسبب آرائه العلمية، وتمت تصفية زملائه رميا بالرصاص وألقي بافيلوف في السجن وترك حتى مات جوعا [4]!
هذا الإقصاء العنيف لم يكن مقتصرا على علم الأحياء بل شمل تخصصات علمية أخرى، لكن رغم تجاوز الطريقة الدموية التي تعامل بها الملاحدة السوفييت مع الآراء العلمية المخالفة فإن الإقصاء لا زال موجودا في الأوساط العلمية خصوصا في المساحات التي يتقاطع فيها العلم التجريبي مع الإيديولوجيات المختلفة، وما نزال نلاحظ إلى اليوم تحيزا -غير علمي- ضد كل فكرة علمية تخالف المفاهيم التي تريد الثقافة الغربية فرضها خصوصا ما يتعلق بنظرية التطور والتصميم الذكي أو الأبحاث العلمية التي تتعلق بأفكار مثل خرافة الجندر النسوية أو الإجهاض وغير ذلك.
ثانيا: على مستوى منهج التفكير العلمي نفسه
ترك هذا الصراع أثرا عميقا في طريقة التفكير العلمي إذ سيطر عليها خلال القرن التاسع عشر هاجس الخوف من العودة للدين، لدرجة أن كثيرا من الأفكار العلمية إنما طرحت تحت هاجس الخوف من العودة للتفسير الديني.
ومن النماذج الواضحة للصراع المفتعل بين العلم والدين: أزلية الكون، فإلى حدود بداية القرن العشرين كانت إشكالية أزلية الكون في أوروبا فلسفية دينية فالمسيحيون والمتدينون عموما يميلون إلى القول بوجود بداية للكون تعتمد على الخالق، بينما الملاحدة يقولون بأزلية الكون والمادة التي نشأ عنها.
يقول عالم الرياضيات ديفيد بيرلنسكي [5]: “توجد علاقة بين حقيقة أن للكون بداية وفرضية أن للكون خالقا، وهي علاقة جلية جدا ومتوهجة حتى أنها ترى في الظلام” [6].
سنة 1929م قدم عالم الفلك والكاهن الكاثوليكي جورج لومتر [7] فرضية تقضي بنشوء الكون من ”ذرة” أولية ثم بدأ الكون بعدها بالتمدد، ولم تلق هذه الفكرة قبولا في الأوساط الفيزيائية بسبب مظهرها الديني، وبسبب الاعتقاد المسبق بأن الكون مستقر لا يتمدد، بل دفع هذا الاعتقاد الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين إلى إضافة الثابت الكوني وتعديل معادلاته كي تتناسب مع مفهوم الكون الثابت المستقر! وقد علَّق أينشتاين على بحث لومتر بقوله: “إن حساباتك صحيحة ولكن فيزياءك ليست واقعية” [8]، وهو ما اعتبره أينشتاين فيما بعد أكبر خطإ وقع فيه بعد أن تم إثبات تمدد الكون من خلال الرصد الفلكي.
ومع هذا الرصد الفلكي وتحت ضغط عقيدة مسبقة فقد استمات كثير من الفيزيائيين في الدفاع عن أزلية الكون واقترحوا فرضيات أخرى لتفسير تمدد الكون مثل فكرة نوسان الكون Oscillating Universe، لكن في النهاية أصبح وجود بداية للكون أمرا مقبولا في الأوساط العلمية.
بدت فكرة الانفجار العظيم في البداية كأنها فكرة دينية لذلك وجدت معارضة كبيرة في الأوساط الفيزيائية بسبب النفَس اللاديني الذي نشأت عليه العلوم التجريبية، يختصر عالم الفلك الأمريكي روبرت جاسترو [9] هذا السجال بقوله: “يسعد اللاهوتيون عموما بدليل أن للكون بداية، بينما علماء الفلك مستاؤون، وتعتبر ردود أفعالهم نموذجا مثيرا لاستجابة العقل العلمي، والذي يفترض أنه عقل موضوعي جدا، عندما تؤدي الأدلة المكتشفة بالمنهجية العلمية نفسها إلى تصادم بين بنود الإيمان وحياتنا المهنية (كعلماء تجريبيين)، ويبدو أن العالِم يتصرف بنفس الطريقة التي نتصرف بها جميعا عندما يتصادم إيماننا بالأدلة، فإما أن ننزعج أو نتظاهر بعدم وجود تصادم أو نخفيه بعبارات لا معنى لها” [10].
ويضيف في موضع آخر: “بالنسبة للعالم الذي عاش طوال حياته مؤمنا بقوة العقل تنتهي القصة كالكابوس، فقد تسلق جبال الجهل وكان على مشارف الوصول لأعلى قمته، وعندما همَّ برفع رأسه فوق آخر صخرة رحَّب به جماعة من اللاهوتيين الذين كانوا يجلسون هناك منذ قرون” [11].
ومع هذا الحسم الفيزيائي في مسألة أزلية الكون والانزعاج الكبير الذي خلفه في أوساط الملحدين كما يعبر عنه الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ: “ثمة أناس كثيرون لا يحبذون فكرة أن الزمن له بداية، وربما كان ذلك لأن فيها مجالا لتدخل ميتافيزيقي، وهكذا كان هناك عدد من المحاولات لتجنب استنتاج أنه كان ثمة انفجار كبير” [12]، إلا أن بعض الفيزيائيين –ومنهم هوكينغ- اتجهوا إلى رفض فكرة الخلق واقتراح فرضيات جديدة في الفيزياء أقرب إلى الميتافيزيقا مثل الأكوان الموازية حيث يمكن من خلالها الاستغناء عن الاعتقاد بوجود خالق!
وفي الأخير فإن خلاصة ما أريد قوله هنا أن اختزال الصراع بين العلم والدين في كون أحدهما يعرقل الآخر لا يعبر عن الصورة الحقيقة للواقع، فلطالما كان الإلحاد عائقا أمام العلم ولطالما كان الدين دافعا قويا لتنقيح العلوم مما يعلق بها من الخرافات أو العكس، لكن استغلال العلم لتصفية حسابات إيديولوجية مع الدين لن يكون إلا عائقا أمام تقدم العلم نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : غاليليو غاليلي: (1564-1642) عالم فلك وفيلسوف إيطالي، درس الهندسة والفلك والطب ودافع عن نظرية كوبرنيكوس التي تنفي مركزية الأرض.
[2] : نيكولاس كوبرنيكوس: (1473-1543) راهب وفيلسوف وعالم رياضيات بولندي، صاغ نظريته التي تقول بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها.
[3] : كوسيمو بوسكاكليا (1550-1621) أستاذ الفلسفة في جامعة بيزا في إيطاليا، وهو أول شخص عرف بأنه اتهم غاليليو بالهرطقة.
[4] : انظر مقالا عنه في مجلة Nature هنا.
[5] : ديفيد بيرلنسكي: (1942) فيلسوف وكاتب أمريكي، عضو في مركز العلوم والثقافة من معهد ديسكفري، ينتقد نظرية التطور ويرفض التنظير بخصوص بداية الحياة وله مؤلفات في الفلسفة التحليلية وفلسفة الرياضيات.
[6] : مترجم من كتاب: وهم الشيطان: الإلحاد وحججه العلمية – ديفيد بيرلنسكي.
[7] : جورج لومتر: (1894-1966) كاهن كاثوليكي وعالم فلك بلجيكي، عمل أستاذا للفلك والفيزياء بالجامعة الكاثوليكية في لوفان، اقترح نشوء الكون من ذرة أولية ثم تمدد الكون بعدها (وهو ما أثبته هابل)، وهذه النظرية هي التي سميت فيما بعد بالانفجار الكبير.
[8] : مترجم من كتاب: The Big Bang and Georges Lemaitre: 370 p
[9] : روبرت جاسترو: (1925-2008) عالم فلك أمريكي وعالم الفيزياء الكونية، عمل بوكالة ناسا للأبحاث الفضائية وكان أول رئيس للجنة استكشاف القمر بهذه الوكالة، وله عدة مؤلفات.
[10] : روبرت كاسترو – مترجم من كتاب : (God and the Astronomers)
[11] : المصدر السابق.
[12] : ستيفن هوكينغ – تاريخ موجز للزمن، ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي ص: 52