صبر الداعية
صبر الداعية يقوم على أمرَين؛ الأول: الأمل في إثمار الدعوة إلى الله، واهتداء الناس بجهد الداعية وإرشاده، وهذا الأمر الأول ثمرة الاستعانة بالله في ذلك المجال، وقوَّة إيمان الداعية؛ بحيث يَصِل في هذا الأمر إلى إحسان الظن بالله، وأنه سيُعينه ويعين المدعو أو المدعوين أمامه إلى الوصول إلى الحق والاهتداء به.
الأمر الثاني: افتراض أن الشر في الناس، وأن المعاصي في الخَلقِ – لا تنفكُّ عنهم ما بقيَت الدنيا وما بقي الناس؛ إعمالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوَّابون)).
وهذا ما تُعلِّمنا إياه الآية الكريمة التي جاءت أساسًا لحياة الدعوة وأسلوب الدعاة، حين انتدبتنا للدعوة إلى الله وإلى الخير، فيقول الله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
فالأمر بالمعروف هنا يَحمل الأساس الأول في صبر الداعية، وهو الأمل في إثمار الدعوة، والنهي عن المنكر يحمل الأساس الثاني، وهو افتراض الشر في الناس وتوطين النفس على وجوده، فلا ينزعج الإنسان لذلك بحيث يصل به الحال إلى أن يرى الأمور على غير ما هي عليه، فلولا هذا الافتراض ما جاء أمر الله لنا في هذه الآية بأن نَنهى عن المُنكَر، ولم يجعل النهي عن المنكر في هذه الآية أحد شقَّي الدعوة إلى الخير.
كذلك لولا عِلم الله الشرَّ في الناس ما شرَع الحدود، وما سنَّ العقوبات، ولا فتح باب التوبة أمام العصاة.
وقد فطن إلى ذلك رسل الله مِن قبْل؛ فنجد نوحًا عليه الصلاة والسلام يلبَث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ويظل صابرًا على أذاهم، مواصلاً دعوتهم إلى الإيمان بالله، إلى أن يوحي الله إليه بـ: ﴿ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ﴾ [هود: 36]، ثم يقول له: ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾ [هود: 37].
وفي هذا الصدد نجد الإشارة أيضًا إلى افتراض الشر في الناس، وذلك في قوله تعالى في نهاية الآية الأولى: ﴿ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36]، فهنا يُثبِّت الله سبحانه نبيه، ويُسلِّيه ويُصبِّره، بأن هذا أمر من المفروض أن يُقابله الداعي أو الرسول أثناء دعوته، ولكن المهمَّ أن يَصبِر ويُصابر، وقد كان هذا هو أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لقومه؛ فقد جاء ملَكُ الجِبال، حين اشتدَّت عليه قريش، وحين رفضه أهل الطائف وقال له: إن الله أرسلَني إليك، فإن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين وأرحتُكَ منهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بلى، فإني أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم مَن يَعبد الله))، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: صدَق مَن سمَّاك الرؤوف الرحيم.
وهكذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتحمَّل أذى قومه طيلة دعوته في مكة، ويَصبر على ما هم عليه مِن كفْر مُرتقِبًا أن النهاية معه، وأنه لا بد منصور ما دام قد التزم بالدعوة حتى يخرج الناس من الظلمات إلى النور، كما صرَّح بذلك في قوله لعمه أبي طالب: ((والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يَميني، والقمر في يَساري؛ على أن أترك هذا الأمر، ما تركتُه حتى يُظهره الله أو أهلك دونه))، وكان في صبره هذا يتمثَّل بما جاءه في القرآن مِن وعدٍ بالانتصار، من مثل قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171 – 173]، وقوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴾ [ق: 39]، وقوله: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ [الطور: 48].
وظلَّ على ذلك؛ حتى تشرَّب الناس الإيمان وفقهوه، ومالوا إليه وبدؤوا يَدخلون في دين الله أفواجًا، وكان صبره هذا لم يُيئسه مِن نجاح الدعوة ومن الدعوة إلى الله في أي مكان، وكان أن هاجر إلى المدينة، وهناك واصَل دعوته، وجاءه نصر الله والفتح، فبالأمل والإيمان، وتَحمُّل الأذى وتحمُّل الناس المدعوِّين، واعتبارهم مرضى وفي حاجة للشفاء: يُمكن للدعاة أن ينجحوا في دعوتهم، ويغلب حقهم باطلَ غيرهم.
ولقد رأيت شيئًا كثيرًا من ثبات الدعاة في أيامنا هذه، فرغم أن فترة الدعوة في هذا العصر قد طالت، وترقَّب الجميع طلوع الفجر واستعجلوه، إلا أن الدعاة صبروا وثابَروا وثبَتوا في الميدان أمام المعوقات التي كانت تُوضع لهم، ولا يزالون صابرين مثابرين بحمد الله، حتى بدأت تباشير النصر تبدو في الأفق، ويظهَر للحق اسم، وله رسم.
وهنا ألمح بوادر انهزام الشر في كل مكان أمام الدعوة إلى الخير، وهذا أمل جديد يُثبِّتنا على طريق الدعوة، ويشدُّ أزرنا في هذا المجال، ويَمنحُنا النشاط في مهمَّتنا.
ولقد رأيت ذلك في القُطر الشقيق السودان عن قرْب، فالدعوة هناك – والحمد لله – على أنشط ما تكون، وهناك رجال يَبذلون كل ما يستطيعون من جهد ووقت ومال في هذا السبيل، يقدِّمون كل ذلك بإخلاص ورضًا وأمل في أن تعلو كلمة الحق، ويسعد الناس بدين الله كما أنزله الله، فالشباب هناك في غاية الحماس في هذا المجال، والشيوخ لا يقلون عنهم حماسًا في مجال التوجيه ورعاية الدعوة والإرشاد إلى دين الله، والناس مُتقبِّلون ما يُقدَّم لهم من دين الله، أو فِطرة الله التي فطر الناس عليها، مُدبِرون عما يَميل بهم عن سبيل المؤمنين، ومتلهِّفون على كل ما هو حق، وهذه حال تبشِّر بخير – إن شاء الله – وأنَّ ركْب الدعوة إلى الإسلام في السودان قد يسير منها إلى ما حولها من الأقطار المُجاوِرة في إفريقيا، فمد الإسلام في السودان أراه عاليًا مرتفعًا، وسيعلو شامخًا بإذن الله.
وما رأيته في السودان رأيتُ منه هنا في مصر عند عودتي، فالحمد لله قد عرف الناس الحق من الباطل، وأدركوا أن الحق خير وأبقى، وأن الآخرة خير لهم من الأُولى، وأن دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، فأرجو ألا أكون فيما أقول أو فيما أرى متفائلاً أكثر من الواقع، فإني رأيتُ الكثيرين والكثيرات قد أدبروا عن طريق الشر وعن مظاهِر الشر، وولوا وجوههم نحو الخير، ونحو طريق الله ودين الله وشريعة الله، رأيت الكثيرين والكثيرات شيبًا وشبانًا يقدِّرُون الإسلام، أو بدؤوا يُظهرون تقديرهم له، وأقبلوا يتفكرون فيه، ويستفسرون عن حكمه وتشريعه بإيمان وإقبال على العمل، والاستِمساك بحبله.
ومن دلائل ذلك ظاهرة الحجاب التي بدأت تَغلِب، وبدأت الفتيات والنساء يتفكَّرْن فيها، ويُقبِلن عليها، ويَشعُرْن بأنها دين الله حقًّا، وأن إهمالها إدبار عن سماع كلام الله وهدْيه.
فمزيدًا من الصبر، ومزيدًا من الثبات عليه في بث الدعوة إلى الله وفي بيان دين الله وشرعه وتوصيلِه إلى الناس.
ومزيدًا من الثبات على قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
المصدر: مجلة التوحيد، عدد جمادى الآخرة 1400 هـ، صفحة 26.