بم يُختم رمضان؟
وقوله تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ﴾
وملخص أحكام زكاة الفطر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومَن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، هكذا جاء ختام ما ذكر الله جل وعلا من آيات الصيام، بعد أن بيَّن الله جل وعلا أصول أحكامه ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، فبلوغ مناسبات الفضل وإدراك أوقات الشرف، نعمة من الله جل وعلا عظمى على العبد، فإن المسلم كلما أدرك موسم خير وفضل، لا ريب أن الموفق يزداد فيه قربًا من ربه، يزداد إيمانًا، يزداد في العمل الصالح، يزداد في القرب من ربه والمسارعة إلى الخيرات، هكذا هو حال المؤمن من مرحلة إلى مرحلة، ومن محطة إلى أخرى في حياته يتزود من الخير: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
ونحن على مشارف نهاية هذا الشهر الكريم، ينبغي للمسلم أن يكون خاتمًا له بالخير، وأن يكون مضاعفًا فيه من العمل الذي تقدم فيه بالخير، وأن يزداد فيه منه، وبخاصة حفاظه على سلامة صيامه واستمراره في قيام هذا الشهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرن المغفرة بهذين الأمرين من جهة الحفاظ على الصيام والحفاظ على القيام؛ كما في الصحيحين: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدم من ذنبه).
أيها الإخوة الكرام، إن من المقرر في الشريعة أن الأعمال بالخواتيم؛ كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم، فمن أحسن الختام كان هذا حكم عمله، ومن أساء الختام كان هذا حكم عمله، ويوضحه ما جاء في حديث آخر أن الأعمال كالإناء إن طاب أعلاه طاب أسفله، وإن فسد أعلاه فسد أسفله، فالموفق من يجعل ختام شهره على الخير، فيكون له حكمه، ويكون له فضله، وإن كان قد سبق منه التقصير، ولا زال في شهرنا من أيامه ولياليه ما ينال به المرء بإذن الله عتقًا من النار، وحجزًا لمكانه في الجنة، ومضاعفةً للثواب، والله يعلم مِن عباده مَن ينال هذا الفضل العظيم.
أيها الإخوة الكرام، إن الاستمرار والمحافظة على العمل، ينبغي أن تكون هاجس المسلم، وأهم عنده من حفاظه على ماله، وأهم عنده من حرص التاجر على تجارته، فإن فوت المال وخسارته غايته خسارة الدنيا، لكن فوت العمل الصالح وعدم إدراكه، والتفريط فيه، منتهاه خسارة الدنيا والآخرة: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام، إنَّ من سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في ختام هذا الشهر الكريم، ما شرع لنا وأوجب علينا من زكاة الفطر؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر)، فقوله: (فرض) دليل على وجوبها وتعيُّنها.
ثم بيَّن مما تكون، فقال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة)، وجاء في رواية عند مسلم: (أمر بزكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير).
فدل هذا الحديث وهذا الهدي النبوي على فرضية زكاة الفطر، وتعيُّنها على كل أحد، فكل من فَضُل عنده شيء من الزاد عن يومه – يوم عيده – فإنه تجب عليه زكاة الفطر.
ثم بيَّن أن هذه الزكاة تكون من الطعام، وهو عامة قوت البلد، ولذا قال: من تمر أو من شعير، أو من بُر، وهكذا تكون أيضًا من الأرز الذي هو عامة قوت البلد، ثم إن مقدارها صاع، والصاع هو ما يعادل على وجه التقريب بالنسبة للأرز كيلوين وربع الكيلو، أو نحو ذلك على تفاوت في هذا الأمر.
والمقصود أن المسلم يخرجها بهذا القدر إذا كان بالنسبة للأرز؛ لأن الصاع من التمر يختلف وزنه عن الصاع من البر أو الشعير، فهذا يختلف عن هذا، لكن بالنسبة للأرز فهذا هو الذي قدَّره أهل العلم، وهو ألا يقل عن كيلوين وربع الكيلو.
وأيضًا يكون مؤداها إلى الفقراء والمساكين، فلا تُعطى للأغنياء، وإنما تعطى للفقير حتى تتحقق حكمتها؛ كما جاء في الحديث: (إنها طعمة للمساكين)؛ حتى لا يحتاجوا في يوم العيد لأن يسألوا الطعام، ولأن يطلبوه، والطعام هو أبرز مظاهر الحياة، بل هو مظهرها الأكمل، ولا يمكن للجائع أن يفرح بمناسبة، ولا أن يستمتع بشيء، ولذا جاءت الشريعة ليكون الاحتفال بالعيد مظهرًا شاملًا للجميع، وأن يكون أُسُّه وأساسه – وهو الطعام – حاضرًا وبيد الجميع.
ثم إن الذي يخرجها هو الإنسان بنفسه عن نفسه، أو عمن هو مسؤول عنهم، فيخرجها عن أولاده من بنين وبنات وعن زوجه، ولكن إذا كان أحد من أولاده أو زوجه مستقلاًّ بنفسه، وعنده المال الذي يملكه، فالأصل أنه يخرجها عن نفسه؛ لأن بعض الناس قد يخرجها عن ولده أو عن زوجه، مع أنه مستطيع أن يخرجها، ولا يستأذنهم في ذلك ولا يُخبرهم، والأعمال تفتقر إلى النية؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، ولذا إذا أراد المسلم أن يخرجها عن أهل بيته – وفيهم القادر كالزوجة والولد الكبير – فإنه يستأذنهم ويخبرهم بذلك؛ حتى يكون وكيلًا عنهم في هذا الأمر.
وأيضًا حدد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه الزكاة من طعام، ليس من مال، فالمال لا يجزئ على الوجه الصحيح، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد حدد الطعام وبيَّن الحكمة، وأنها تفرج عنه.
ثم إن وقتها يجب أن يكون قبل الصلاة، هذا هو الوقت الفاضل في يوم العيد قبل الصلاة، ولو قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، فإنه يصح منه هذا.
وكذلك أن تكون في البلد الذي وافاه فيه نهاية شهر الصيام أن يخرجها فيه، ولو أخرجها في بلد آخر صح وأجزأ بإذن الله.
والمقصود أن هذه الزكاة فريضة ينبغي للمسلم أن يكون حريصًا عليها معتنيًا بها، معتنيًا بالوقت ومعتنيًا بنوع الطعام، وأن يكون من أجوده، ومعتنيًا أيضًا بمن يقدمها إليهم؛ لأنه كما تقدم ربما قُدِّمت للأغنياء ووضعها في يد غني، فحينئذٍ لا تجزئ، ولو كانت أضعافًا مضاعفة من الطعام.
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، فشرع حينئذٍ في ختام هذا الشهر التكبير؛ إظهارًا للفضل والنعمة، والحمد لله جل وعلا الذي أنعم وتفضل وجاد على عباده، فالله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، يقولها المسلم من حين ما يُرى هلال شوال، ويستمر في ذلك إلى حين حضوره لصلاة العيد.
فطيبوا نفسًا بهذا الشرع، وطيبوا نفسًا بالعمل الصالح، فلا طعم للحياة إلا بالاستقامة والعمل الصالح، لا طعم للحياة إلا بالعمل الصالح، والاستمرار عليه والمحافظة عليه، وإن من مقتضى العمل الصالح أن يكون المسلم مستشعرًا حال إخوانه، وأن يكون مبادرًا بما أنعم الله عليه كما في زكاة الفطر حتى تسد حاجة المحتاجين، ومن مقتضى العمل الصالح أن يستشعر المسلم أيضًا آلام إخوانه، ولا يخفى ما حل بأهلنا وإخواننا في غزة، إنها فاجعة عظيمة، وظلم كبير، ونسأل الله أن يجعل لهم من ذلك الفرج العاجل، وكلٌّ عليه مسؤولية في هذا الجانب، كلٌّ بحسب ما حمَّله الله من مسؤولية، وأنت أيها الأخ المسلم واجب عليك استشعار هذا الأمر بالتألم لأجلهم والحزن لما أصابهم، وكذلك أمر آخر عظيم، وهو الذي دلَّ عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو الدعاء لهم، الدعاء لهم في كل مناسبة يشرع فيها الدعاء، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يبادر بالدعاء لمن يُصاب، ولما يكون من أحوال وفواجع في زمانه، كما حصل حينما قنت شهرًا كاملًا بعد ما كان ما كان من الاعتداء على الصحابة، فمكث شهرًا يقنت بعد الفجر: اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنج المستضعفين، اللهم أنج فلانًا وفلانًا، ويدعو على الأعداء والكفار، اللهم سنين كسني يوسف، هكذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام.
فحقٌّ لإخواننا أن يكون لهم منا الدعاء، ولا أقول هو أقل شيء، بل هو أمر عظيم، فإن دعوات المسلمين هي العسكر الذي لا يُهزم، والجند الذي لا يغلب، متى صدق المسلم في دعواته.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك، فقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم رحمة على رعاياهم، ونفعًا للإسلام والمسلمين.
اللهم عجِّل بالفرج لإخواننا المبتلين المحاصرين في غزة وفي الشام، وفي غيرها من البلاد.
اللهم عجِّل لهم بالفرج يا رب العالمين، اللهم عليك بأعداء دينك من اليهود المحتلين، اللهم اشدد وطأتك عليهم، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل في ختام هذا الشهر الكريم فرجًا لكل مبتلًى برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك، وبالعتق من النار يا حي يا قيوم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(مقطع صوتي )بم يختم رمضان ؟وقوله تعالى: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ﴾ وملخص أحكام زكاة الفطر ……… الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع