بر الأم في زمن العقوق
مقدمة:
الحمد لله الذي جعل لنا القرآن منهجًا، وأرسل لنا خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وللقرآن مطبقًا علمًا وعملًا، وبعد:
هذا المقال لا يصلح أن يكتب إلا بمداد من دمع العيون على صفحات القلوب، ليبقى أثره على مر الأعوام والسنين يسقي شجرة البر لأغلى وأجمل امرأة في الدنيا، لأجمل مدرسة عرفها تاريخ البذل والعطاء، لأجمل حضن ضم ملايين المشردين في شوارع الضياع، لأحلى زهرة تفوح للدنيا بعطر الأمل لتجدد للبؤساء عطر الحياة ونسيمها.
الأم كلمة عابرة للقارات، تحلق في سماء المكرمات، وتنزل في أعماق الرحماء، وتعيش في أذهان الملايين، يفهمها أهل الأرض بكل لغاتهم بكل ثقافاتهم، بكل نِحَلِهم وأديانهم، الكلمة التي تكتب فتنشئ مدارس الإنسانية، وتُقرأ فيتعلم منها كل البشرية، وترسم فتصنع لوحة أثرية لا تبلى مع عنفوان الحياة، ولا تكسر مع شراسة التنافس، ولا يغطيها غبار وضبابية النفاق وسوء الأخلاق.
ـ في هذا المقال أود أن أصنع خارطة طريق للوصول إلى أسمى وأعلى درجات العطاء لأجمل امرأة في الدنيا، تبدأ هذا الخارطة بالحمل والثقل، ثم ولادة قرة العين، ثم العطاء المستمر، ثم بيان سيل الحب والرحمات من سحائب المكرمات، بعدها صانعة أبواب الخير كيف نرد لها ما لا يمكن رده، وأخيرًا نتلمس الطرق الخفية لعظماء البشرية في بر أجمل امرأة في تاريخ البشرية، ونختم بصورة شعرية رمزية لحب الأم المعطاء.
أولًا: حمل الحبيب:
كلمة الحمل متربطة بالمشقة والتعب والعناء، ولكن هذه المشقة إن كانت مرغوبة وباختيار الفرد لما يعقبها من الخير، فتسمى الكُره بالضم؛ قال تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ﴾ [الأحقاف: 15]، فانظر إلى الحنان المبكر من الأم الغالية، فقد رضيت بل فرحت رغم أن الذي في بطنها من سيدخل عليها الشدائد، وربما كان سببًا في وفاتها، يصور هذه الشدة قوله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، قال ابن عباس: شدة بعد شدة.. ويقال: الحمل ضعف، والطلق ضعف، والوضع ضعف)[1]، هذه الشدة والضعف وأنواع من المخاطر والمضايقات تتحمله الأم من أجل أن ترى هذا المولود يمشي على الأرض، وسبحان الله تصل الأم في لحظات الولادة إلى ما يشبه سكرات الموت، ولكن تنسى عندما ترى وتسمع فلذة الكبد قد استهل مستصرخًا، ثم تعود إلى ما كانت من الحمل وكأن شيئًا لم يكن لتلد الآخر، فالفرحة بالضيف القادم تمسح تسعة أشهر من الشدة والضعف وزفرات الولادة وقرب نهاية الحياة، هذا القلب الرحيم القوي لم يهزمه الجسد النحيل الضعيف، إن الله يعطي الأم من انشراح الصدر ما يجعل الحمل أخف من نسيم الهواء.
هذه الأمومة أعظم غريزة يمتلكها الإنسان، لذا إذا لم تشبع تبقى في فراغ يجعل من الحياة تتحرك بثقل ورتابة مملة قد تؤدي بالبعض إلى السلوك غير السوي، وإذا أردت أن ترى هذا الأمر واقعًا، فشاهد الأرملة صاحبة خمسة الأولاد تعيش كل أشكال الفقر وربما الذل، وتُحرَم من غرائز وشهوات كثيرة، لكن استغنت عن كل ذلك بالأمومة، فبها تصنع الأحلام والآمال، وتمشي بهمة لا يقدر عليها عمالقة الرجال، الأمومة تصنع حياة الفرد صبرًا، وحياة الأسرة محبة، وحياة المجتمعات قوة، وحياة الأمم ازدهارًا، وتعمر الأرض طاعة وخيرًا وبركة.
ثانيًا: قرة العين:
إن من أجمل المواقف التي تعبر عن قرة العين قضية أم موسى مع ابنها الرضيع، فقد كان فرعون يقتل مواليد بني إسرائيل في عام ويتركهم في عام آخر، فولد موسى في عام القتل، فأتى الوحي من الله إلى الأم الحنونة بقوله تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، انظُر إلى العناية الربانية والقدرة المطلقة لحفظ عباده، إذا خفتِ عليه فألقيه، ومعلوم أن الأم إذا خافت على ابنها ضمَّته إليها وحضنته، أما هنا فتلقيه لينتقل من حضن الأم إلى الرعاية الإلهية العظيمة، ثم جاء التعليق الدقيق لشفقة الأم، وأنها من هذا الفعل سوف يدركها خوف هلاكه وحزن فراقه، فبشَّرها الله بالعودة وحمل الرسالة، فألقته ثقة بالله وما عنده من الخير والفضل!
وبعد أن ذهب الحبيب أصاب أم موسى ما يصيب قلب الأم، فقال تعالى: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [القصص: 10]، قالوا في التفسير: (فارغًا؛ أي: خاليًا من ذكر كل شيء في الدنيا إلا من ذكر موسى)[2]، أدركتها طبيعة البشر وحنان الأمومة، فأصبحت حياتها يقظة ومنامًا لا تعرف إلا الابن الغالي، فلم ترَ الدنيا دون وجود ابنها في حضنها، هذا هو قلب الأم يتفرغ من كل شغل إلا من محبة أبنائها، ولما أصبح الحبيب بعيدًا، لم تتحمل الوضع فكادت أن تبدي به؛ قال ابن مسعود: (كادت تقول: أنا أمه)[3]، فقدت الطمأنينة وضاق بها الأمر حين انتزعت منها الأمومة، فتريد أن تعيدها، فأعاد الله لها قرة العين وهدأ ما بها من حزن، فقال تعالى: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13]، لن يقر عين الأم إلا برؤية ابنها وضمه إلى حضنها، ولن تشعر بوجود الحياة إلا بقرب ابنها، أرأيتم أعظم من هذه العلاقة الصادقة والحميمية النادرة بين اثنين.
ثالثًا: أمك ثم أمك ثم أمك:
حق الوالدين أتى بعد حق العبودية لله تشريفًا وتعظيمًا، فقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، وفي هذا المعنى قيل: (ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين، فقال: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾؛ أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي؛ لأنهما سبب وجود العبد، ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكُّد الحق ووجوب البر))[4]، هذا الربط الدقيق بين العبودية لله – وهي أعظم حق في الوجود وهي النجاة للعبد في الدنيا والفلاح في الآخرة، جعل الإحسان للوالدين عبودية تكاد تقارب الوحدانية لله فضلًا وأجرًا بدلالة الاقتران، وقد جعلت السنة للأم في هذا الشأن قدم صدق وقصب سبق، فقد جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أبُوكَ[5]، إذا كان في يد الابن بر وإحسان، وازدحمت الأمور، فإن الأم أولى به من ثلاثة أوجه: الأول استحقته بالحمل، والثاني بالإرضاع، والثالث بالتربية والاشفاق، ولذا أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم عدلًا نصابها من الإحسان والبر والعطاء، وهذا فيه توجيه لكل من يقدم الغير على الأم بحجج ليس لها معنى، بل اسمع إلى هذا الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ))[6]، قال النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء: كَانَ الصَّوَاب فِي حَقِّه إِجَابَتهَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاة نَفْل، وَالِاسْتِمْرَار فِيهَا تَطَوُّع لَا وَاجِب، وَإِجَابَة الْأُمِّ وَبِرهَا وَاجِب، وَعُقُوقهَا حَرَام، وَكَانَ يُمْكِنهُ أَنْ يُخَفِّف الصَّلَاة وَيُجِيبهَا ثُمَّ يَعُود لِصَلَاتِهِ…”؛ انتهى[7].
هل هناك أعظم من تزاحم حقِّ الله وحق البشر، فيقدم بلا شك حقَّ الله في العبادة، فإن كان هذا البشر الأم فيقدم حقَّها في نافلة من أعظم النوافل الصلاة فما دون ذلك من باب أولى، وهذا رسالة قوية لكل عاق كسر عبودية البر بتقديم الغير على أحب الناس وأجمل الناس في هذه الحياة.
رابعًا: الحب والعطاء:
العطاء بحب والحب في العطاء يجتمعان في قلب الأم بلا تعارض إن كان سيصل إلى فلذة كبدها مهما كانت ظروف الحياة، وتغير الأحوال، وهنا وقفة مع حديث أمِّنا عائشة رضي الله عنها قالت: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فأطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فأعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ منهما تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إلى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ، الَّتي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بيْنَهُمَا، فأعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الذي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ قدْ أَوْجَبَ لَهَا بهَا الجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بهَا مِنَ النَّارِ؛ مسلم.
هذه المرأة مسكينة حاجة لا مسكينة عاطفة، وعندما تعارضت الحاجة مع العاطفة والحب لقرة الأعين، قدمت الأمومة المضحية لترتفع بمعاني العطاء على ماديات الدنيا، فشقت التمرتين عدلًا لتوزع الحب أنصافًا بين الابنتين، وهذا الجمال في العطاء الذي اجتمع فيه الرحمة والعدل والتضحية، وكسر رغبات النفس، قابله عطاء الرحمن الذي لا يجاريه عطاء بأن جعل لها الجنة دارًا لا ينقطع فيها العطاء بكل صوره وأشكاله بشقِّ تمرة.
وإذا أردنا أن نرى العطاء بمعناه المشرق، فهو بذل الدين للناس، وإن الأنبياء ما ارتفع ذكرهم إلا أنهم يدلون الناس على الله، وهكذا مَن فعَل فعلهم من العلماء فهم ورثة الأنبياء، ومن يصنع العالم من النشأة هو ولا شك يشاركه الأجر ما امتد علمه وفضلُه، والأم صانعة الإحسان للأمة بتقديمها علمائها تنشئة من الصغر وتربية في الصبي ودعاء في الكبر، ولا أدل على ذلك من علماء المذاهب، فهذا الإمام أحمد يقول: (حفظتني أمي القرآن وعمري عشر سنوات، فلما بلغت السادسة عشرة من عمري، قالت لي: اذهب في طلب الحديث، فإن السفر في طلب الحديث هجرة إلى الله الواحد الأحد، وودَّعته عند السفر قائلة: يا بني، إن الله إذا استودع شيئًا لا يضيعه أبدًا، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه)[8]، هذه صفية الشيبانية والدة الإمام أحمد صوامة قوامة أخذت بيد ابنها وأقامته على الحق من الصغر، فكان يقوم الليل معها، ويصوم ويصلي الصلوات جماعة برفقة أمه حتى استقام له الأمر، فأرادت أن تجعله وقفًا لأمة محمد، فأخرجته في أيام كانت الهلكة فيها أقرب من السلامة؛ ليتعلم ويعلِّم الأمة، هل سمعتم بمثل هذا العطاء الذي استمر لقرون وسيبقى أخرى، هذه الأم التي نريد أن تعطي الحنان والحب في أكثر من صورة، ففي الرخاء يسر وفي الشدة حزم، فالنفس لا تستقيم على حال، فيجعل لكل مقام مقالًا.
وهذه فاطمة بنت عبدالله الأزدية أم الشافعي ألزمته أمُّه حفظَ القرآن الكريم، فأتمَّه وهو ابن سبع سنين، ثم أقبل على مَعين السُّنَّة ينهلُ منها، فحفظ الموطَّأ وهو ابن عشر سنين، ثم أخذ يطلب العلم في مكة حتى أُذنَ له بالفتيا وهو دون عشرين سنة، وقد رهنت دارها من أجل أن يرتحل لطلب العلم[9]، هذا الصدق مع الله ومع النفس، تريد أن تتاجر مع الله بهذا الولد، فقدَّمت برهان صدقها، فرهنت دارها، وضحَّت بوقتها، وسافرت، وتعبت، وقد هان كل هذا عندها لما رأت فلذة كبدها إمام عصره.
وهذه عالية بنت شريك الأزدية يقول ابنها الإمام مالك: (نشأت وأنا غلام، فأعجبني الأخذ عن المغنين، فقالت أمي: يا بني، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء واطلب الفقه، فتركت المغنين وتبعت الفقهاء، فبلغ الله بي ما ترى..))[10]، هذا والله العطاء وحسن الرعاية، فمالك ليس قبيح الوجه، ولكنها أشارت بهذا لتصده عن الغناء، وتلفته إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة، فمن تفرح بولدها في فسقه، فهذه ليست الأم الصالحة التي أوجب الله عليها حق الرعاية، عالية قد لا يكون دار بخلدها أن ولدها سيكون إمام دار الهجرة، لكنها قدمت ما نحسبه منها صدق نية، وإخلاصًا لله، وأداءً لحق الأمومة، فسبحان الله كم يجري من الخير على يد الأخيار!
وصدق الشاعر بقوله وأوجز:
الأُمُّ مَـدْرَسَــةٌ إِذَا أَعْـدَدْتَـهَـا ♦♦♦ أَعْـدَدْتَ شَعْبـًا طَيِّبَ الأَعْـرَاقِ[11]
إن المدرسة الحقيقة التي تخرج الأجيال قوة لأمتهم، هي مدرسة الأم التي يتخرج منها الابن لا يحمل أوراقًا كتب عليها تقديرات البشر، وإنما يحمل قيمًا تعطي عملًا تعيش به الأمة رغد العيش.
خامسًا: فاتحة أبواب الخير:
حارثة بن النعمان يبر أمه في الدنيا بما أمكن من حطامها، فأعطاه الله النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يبلى، ففي حديث عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِمتُ فرأيتُني في الجَنَّةِ، فسمِعتُ صَوتَ قارئٍ يَقرَأُ، فقُلتُ: مَن هذا؟ فقالوا: هذا حارِثةُ بنُ النُّعمانِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كذلك البِرُّ، كذلك البِرُّ، وكان أبَرَّ النَّاسِ بأُمِّه))[12]، ليس للبر جزاء إلا الجنة، فكل أبواب الخير موصدة في وجه العاق لأمه، ولن يجد المرء بابًا أعظم من باب البر والعطاء للغير وتقديم الإحسان لهم، وتأتي الأم في قمة أبواب الإحسان، فهذا معاوية بن جاهمة السلمي قال: ((يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أبتغي بذلِكَ وجْهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرةَ، قالَ: ويحَكَ أحيَّةٌ أمُّكَ، قُلتُ: نعَم، قالَ: ارجَع فبِرَّها، ثمَّ أتيتُهُ منَ الجانبِ الآخَرِ فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أبتغي بذلِكَ وجهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرَةَ، قالَ: وَيحَكَ، أحيَّةٌ أمُّكَ، قلتُ: نعَم يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: فارجِع إليْها فبِرَّها، ثمَّ أتيتُهُ من أمامِهِ، فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي كنتُ أردتُ الجِهادَ معَكَ أبتغي بذلِكَ وجْهَ اللَّهِ والدَّارَ الآخرةَ، قالَ: ويحَكَ أحيَّةٌ أمُّكَ، قُلتُ: نعَم يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: ويحَكَ، الزَم رِجلَها فثمَّ الجنَّةُ))[13]، وهل أعظم من أن تقف مجاهدًا إلى جانب رسول الله؟ ومع كل محاولة الصحابي أن يقسم له في الجهاد، إلا أن رسولنا صلى الله عليه وسلم بيَّن أن نفعه المتعدي لأمه خير من نفعه لأمته، وعبَّر بقوله: (الزَم رِجلَها فثمَّ الجنَّةُ)، ليعلم أن البر انكسار يجعل تقبيل رأسها وقدمها في المقام سواءَ، وذلك لفضلها ومكانتها، وجعل من تحت قدمها ذلًّا بابًا إلى الجنة عزة وفضلًا.
وفي هذا المقام العظيم وأبواب السعادة وطرق الخير المفتحة مع البر للأم خاصة – نورد هذا الحديث العظيم القدر في البر والإحسان، فعن أسير بن جابر كانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إذَا أَتَى عليه أَمْدَادُ أَهْلِ اليَمَنِ، سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ؟ حتَّى أَتَى علَى أُوَيْسٍ فَقالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: مِن مُرَادٍ ثُمَّ مِن قَرَنٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَكانَ بكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ منه إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: لكَ وَالِدَةٌ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ: يَأْتي علَيْكُم أُوَيْسُ بنُ عَامِرٍ مع أَمْدَادِ أَهْلِ اليَمَنِ، مِن مُرَادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ، كانَ به بَرَصٌ فَبَرَأَ منه إلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، له وَالِدَةٌ هو بهَا بَرٌّ، لو أَقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لكَ فَافْعَلْ فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ له..))[14]، لا إله إلا الله تابعي يستغفر لصحابي من المبشرين بالجنة وخليفة راشد عدل، أي مقام وصل له أويس؛ حيث لو أقسم على الله لأبرَّه، ولو دعا واستغفر لأحد استجاب الله له، إنه البر بالأم، ترك الهجرة إلى رسول الله برًّا فلما توفِّيت هاجر لكن بعد موت رسول الله بأعوام، ولكن بقي له أعظم شهادة تشهد لبره من توقيع النبي المصطفى استلمها من فم خليفة المسلمين.
والبر بالأم خاصة له عند الله مقام ويفتح الله به أبواب من الرحمات والمغفرة، وقد سأل رجل ابن عباس، فقالَ: إنِّي خَطبتُ امرأةً فأبَت أن تنكِحَني، وخطبَها غَيري فأحبَّت أن تنكِحَهُ، فَغِرْتُ علَيها فقتَلتُها، فَهَل لي مِن تَوبةٍ؟ قالَ: أُمُّكَ حَيَّةٌ؟ قالَ: لا، قالَ: تُب إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وتقَرَّب إليهِ ما استَطعتَ، قال الراوي عطاء بن يسار: فذَهَبتُ فسألتُ ابنَ عبَّاسٍ: لمَ سألتَهُ عن حياةِ أُمِّهِ؟ فقالَ: إنِّي لا أعلَمُ عملًا أقرَبَ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ مِن برِّ الوالِدةِ[15]، هذا حبر الأمة يفتي لمن سفك دمًا حرامًا أن له مخرجًا من ذنبه وقربة إلى ربه، وذلك ببر الأم، فبرها يحط الخطايا وينزل الرحمات، ويفتح أبواب الرزق ويغلق أبواب الشر، ويدخل السعادة إلى القلب ويدخل الجنة، وينجي من عذاب الله.
سادسًا: البر بالأمهات:
قد يتوهم الولد ذكرًا أو أنثى أنه يمكنه أن يرد بر الأم بالعطاء، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه:
الأول: الأم تعاني ألم الحمل وهي في غاية السعادة، والولد قد يحملها على ظهره أو في حجره وهو في غاية التعب، وربما الضجر، يصور هذا أنَ ابنَ عمرَ رضي اللهُ عنهُما شهدَ رجلًا يمانيًّا يطوفُ بالبيتِ، حَمَلَ أُمَهُ وراءَ ظَهرِهِ يَقُولُ: إني لها بعيِرُها المذَلَّلُ، إن أُذْعِرَتْ رِكَابُها لمْ أُذْعَرْ، اللهُ ربي ذُو الجلالِ الأكبرِ، حمْلتُها أكثرَ مما حَمَلتْنِي، فهل تُرى جازيتُها يا بنَ عمر؟ قالَ ابنُ عمرَ: لا، ولا بزفرةٍ واحدةٍ))[16].
فانظر إلى دقة الجواب من الصحابي الجليل ابن عمر، فالرجل اعتقد أن القضية مجرد الحمل، فأعطاه صورة مصغرة عن حملها وهي زفرة من زفراتها، ومعناها تردُّدُ النَّفَسِ حتى تختلفَ الأضلاع، وهذا يعرض للمرأة عند الوضع والولادة، وهذا لحظات الموت، فكم زفرة ترددها فلا يمكن أن يحصل للولد ذلك ولن يفعله مهما بلغ بره؛ حيث لو عرض عليه الموت وزفراته، لما تذكر ربما نفسه، فكيف يتذكر غيره، أو يتذكر أمه في هذه الزفرات!
الثاني: أن الأم تتعب في العناية بابنها تعبًا مرًّا، ومع ذلك لا تتمنى بعده عنها بحال، بل تدعو وتتضرع أن يُبقيه أمدًا بعيدًا، أما الولد فإذا أصابه التعب من أبويه، ضاقت نفسه وربما تمنى موتهما، وهذا ما قاله عمر رضي الله عنه، فقد جاءَ رجلٌ إلى عمرَ بنَ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ فقالَ: إنِّ لي أُمًّا بَلَغَ بها الكبرُ، وإنها لا تَقضِي حوائِجَها إلا وظَهرِي مطيةٌ لها، وَأُوَضِّئُها وأَصرِفُ وجهيَ عَنها، فَهل أَدَّيتُ حَقَّها؟ قَالَ: لا، قَالَ: أَلَيسَ قَد حَمَلتُها على ظَهرِي، وَحَبستُ نفسِي عليها؟ فقالَ عمرُ: إِنها كانتْ تَصنعُ ذلكَ بِكَ وهي تَتَمنَّى بَقاءَكَ، وأنتَ تَصنَعُه وأنتَ تتمنى فِراقَها، ولكِنكَ مُحسنٌ، واللهُ يُثيبُ الكثيرَ على القليلِ[17]، هذا أمر لا يمكن يدفعه الولد عن نفسه، ولو لم يكن إلا مجرد الوسوسة به، وهذا لا يخطر ببال الأم بحال، فكيف يكون قادرًا على أداء حقها؟!
الثالث: أن الأم أعطاها الله من أوجه العطاء ما لا يستطيع أحد أن يوفيه، فقد جعل الله لها قلبًا رحيمًا يتعلق بأولادها، لدرجة أن الدنيا في نظرها سعادة أبنائها وراحتهم، وعندما يحدث لاحدهم ما تكره، شعرت بذلك المكروه نفسيًّا، بل حتى ربما أثر على صحتها الجسمانية، وربما يغيِّر مجرى حياتها، فمثل هذا الشعور لا يمكن أن يصدق على الولد مهما بلغ بره!
سابعًا: عظماء البر:
مهما تحدثنا عن بر الأم، فهناك جوانب تَخفَى بين طيات الكلام، ولا يبرزها إلا الجانب العملي والقدوة الحسنة في هذا الباب، نستقيها من عظماء البر، فقد خلد لهم التاريخ مواقف الشرف في هذا المضمار، ومن ذلك: عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ يقول: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت، علَّمه الإسلام كيف يكون البر أجرًا وثوابًا وجنة عرضها السماوات والأرض، فجعله إيمانًا عمليًّا يرقى إلى مراتب المستحيل في تاريخ أهل العقوق، ولكنه واقع في تفكير أهل البر.
أم أبي هريرة تناديه، فقال بصوت عالٍ من غير قصد: لبيك، فتذكر أن صوته أرفع من صوت أمه، فقال: أستغفر الله، رفعت صوتي على أمي، فذهب إلى السوق واشترى عبدين وأعتقهما كفارة لذلك، رفع صوته بالبر، فكفَّر عن الرفع؛ لأن الصوت عند الأم يجب أن يحمل معاني الذل وخفض الجناح، هذا والله الفقه في معاني البر من أبي هريرة.
وفي ليلة من الليالي وقد طَلبتْ أمُ ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنها من ابنها عبدِاللهِ ماءً، فذهبَ فجاءَها بِشربةٍ، فوجدَها قد ذهبَ بها النومُ، فثَبتَ بالشَربِة عندَ رأسِها حتى أَصبحَ، ليلة قائم بين يدي أمه أليس هذا إجلال وعظمة البر؟! ولا يقال: لو تركه، لو وضعه، لو أقامها، فكل هذا في نفس ابن مسعود المؤمنة عقوق، والعبادة لا تتم إلا بما فعل، وفي هذا الصدد يقولُ محمدُ بنُ المنكدرِ: باتَ أخي عمرُ يُصلي، وبِتُ أَغمِزُ رِجلَ أُمي، وما أُحِبُ أنَّ ليلتي بليلِته، القيام للصلاة لنفسك والغمز أجره متعد لأمِّك، وهو لنفسك أولًا، فكان القيام لخدمة الأمهات خير من القيام لصلاة نافلة من أعظم النوافل.
واسمع لهذه الدقيقة اللطيفة في البر: روى عن علي بن الحسين رضي الله عنه أنه كان يخشى أن يأكل مع أمه على مائدة، فقيل له في ذلك فقال: “أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتُها))، رحمك الله من عابد ورع، هذا البر الذي تفتح به أبواب السماء ويستسقى به رحمات المولى عز وجل.
ومما يستملح في البر أن أبا حنيفة قال عن أمه: ((وفي مرة استفتتني أمي عن شيء، فأفتيتها فلم تقبله، وقالت: لا أقبل إلا بقول زرعة الواعظ، فجئت بها إلى زرعة وقلت له: إن أمي تستفتيك في كذا وكذا، فقال: أنت أعلم وأفقه، فأفتها، فقلت: أفتيتُها بكذا، فقال زرعة: القول ما قال أبو حنيفة، فرضيت، وانصرفت))، هذا العلم الذي ينفع صاحبه في أحلك المواقف، فأي قلب لأبي حنيفة صبر على مثل هذا، إنه قلب الموقن بوعد الله ووعيده وفضله ورحمته، فالعالم مهما بلغ من منزلة ليس له بحال أن يعلو على منزلة أمه، ومما يقال في هذا أن حيوة بن شريح – وهو أحد أئمة المسلمين – كان يقعد في حلقته يعلِّم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة، فألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويترك المجلس ويفعل ما أمرته أمه.
هؤلاء العظماء في البر قدوات الدنيا في أي زمان ومكان، والحمد لله لا يخلو من مثلهم ولا يجف نهر البر، وله ساقٍ من إيمان.
الخاتمة:
في خاتمة هذا المقال أجدني متعلقًا بمقطوعة شعرية رمزية رائعة تبيِّن مدى حب الأم لأولادها قالها الشاعر بإحساس عميق مرهف أجدها أجمل ما يكون للخاتمة:
أغرى امرؤٌ يومًا غلامًا جاهلًا
بنقوده حتى ينال به الوطر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى
ولك الدراهم والجواهر والدُّرر
فمضى وأغمد خنجرًا في صدرها
والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط دهشته هوى
فتدحرج القلب المعفر إذا عثر
ناداه قلب الأمِّ وهو معفرٌ
ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
فكأنَّ هذا الصوت رغم حُنوِّه
غضب السماء على الولد انهمر
فاستلَّ خنجرَه ليطعن نفسَه
طعنًا سيبقى عبرةً لمن اعتبر
ناداه قلب الأمِّ كفَّ يدًا ولا
تطعن فؤادي مرتين على الأثر[18]
|
بهذه الخاتمة أُنهي المقال منبهًا أني لم أتعرَّض لصور العقوق؛ حتى لا أكدِّر منابع البر المعطاء وصفحات وجهه الرقراق.
[1] تفسير البغوي.
[2] تفسير القرطبي.
[3] تفسير القرطبي.
[4] تفسير السعدي.
[5] البخاري ومسلم.
[6] البخاري.
[7] الموسوعة الفقهية.
[8] كتاب المحنة.
[9] آداب الشافعي ومناقبه.
[10] مالك بن أنس إمام دار الهجرة.
[11] حافظ إبراهيم.
[12] صححه الألباني وشعيب الأرنؤوط في المسند.
[13] ابن ماجه وصححه الألباني.
[14] مسلم.
[15] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
[16] أخرجَه البخاري في الأدبِ المفردِ وصححه الألباني.
[17] البر والصلة لابن الجوزي.
[18] إبراهيم المنذر.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/134661/#ixzz6pk750dl6