داية الخلق ليس بداية غامضة أو هلامية كما يصوّرها الفكر الغربي المادي الحديث، الذي يتيه في شعاب من التجارب والنظريات المتناقضة في كثير من الأحيان، وما زال المفكرون الغربيون وعلماء الفيزياء والفلك في حيرة من أمرهم في مسألة تحديد بداية الخلق ونشأة الكون، بل لقد أفضت بهم تلك الحيرة إلى الإلحاد في التصور العام الشائع الآن بين المشتغلين بالعلوم الطبيعية –كما يقول جعفر شيخ إدريس- هو مع الأسف تصور مادي إلحادي؛ يفترض أنه لا واقع إلا الواقع المادي، وأن الحقائق إنما هي الحقائق المادية، وأن الكون مكتفٍ بنفسه، غني عن أيِّ شيءٍ خارجي.

 

ولذا جاء تفسير بداية خلق الإنسان بعيداً عن الدين، وجاء تبعاً لذلك الفكر الاجتماعي والتربوي الإنساني منطلقاً من هذه النظرية المادية الملحدة التي ترفض الدين والإيمان بالله وبما جاء عن الله في تفسير سلوك الإنسان، وارتباطه بالإيمان بالله، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وهذا يؤكد ما سبق ذكره من أهمية الحديث عن قصة الخلق وارتباطها بكثير من القضايا الكبرى في عقيدة المسلم وحياته.

الله هو الأول:

فأول تلك المعالم حقيقة أن الله سبحانه وتعالى هو الأول، فهو الأول بلا ابتداء، وهو الأول فليس قبله شيء، كما قال سبحانه: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة الحديد: 3]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء…).

  التفكير في مبدأ الخلق دون هديٍ من الوحي مدخل من مداخل الشيطان ووسوسته، والشيطان -لعنه الله- لا يترك سبيلاً للتشويش على ابن آدم إلا سلكه

قال ابن تيمية رحمه الله: وإنما الغرض هنا أن الله سبحانه لما كان هو الأول الذي خلق الكائنات، والآخر الذي إليه تصير الحادثات، فهو الأصل الجامع؛ فالعلم به أصل كل علم وجامعه، وذكره أصل كل كلام وجامعه، والعمل له أصل كل عمل وجامعه، وليس للخلق صلاح إلا في معرفة ربهم وعبادته، فهو سبحانه هو الأول دون بداية، فلا يُسأل متى ولا كيف. ولذلك قال ابن جرير الطبري في تفسيره: هو الأول قبل كل شيء بغير حد. ويقول الشيخ السعدي: الأول: يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويجب على العبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية؛ إذ السبب والمسبب منه تعالى.

 الله (عز وجل) يتحدّى الملحدين:

أقام الله عز وجل الحجَّة العقلية الدامغة على الملحدين والمشركين، وتحدّى عقولهم وكل قواهم في نفي الإلحاد وفي نفي الشريك؛ وذلك من خلال تقرير مبدأ الخلق في قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۝ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ۝ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [سورة الطور: 35-37]. وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ۝ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ۝ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [سورة الطور: 35-37] كاد قلبي أن يطير.

فهذه الآية تنفي مبدأ الإلحاد من خلال الإلزام بوجود خالق، إذ إنهم لم يُخلقوا من غير خالق، فكل مخلوق له خالق. ففي قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ بيان واضح بأن وجودهم من غير شيء أمرٌ ينكره منطق الفطرة ابتداءً، ولا يحتاج إلى جدل كثير أو قليل، أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه ولا يدَّعيه مخلوق. وإذا كان هذا الفرضان لا يقومان بحكم منطق الفطرة فإنه لا تبقى إلا الحقيقة التي يقولها القرآن؛ وهي أنهم جميعاً من خلق الله الواحد الذي لا يشاركه أحد في الخلق والإنشاء، فلا يجوز أن يشاركه أحد في الربوبية والعبادة، وهو منطق واضح وبسيط. كذلك يواجههم بوجود السماوات والأرض حيالهم فهل هم خلقوها؟ فإنها لم تخلق نفسها بطبيعة الحال كما أنهم لم يخلقوا أنفسهم: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾. وهم -ولا أي عقل يحتكم إلى منطق الفطرة-لا يقولون إن السماوات والأرض خلقت نفسها، أو خُلقت من غير خالق، وهم كذلك لا يدَّعون أنهم خلقوها، وهي قائمة حيالهم سؤالاً حياً يتطلب جواباً على وجوده، قد كانوا إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض قالوا الله، ولكن هذه الحقيقة لم تكن تتضح في إدراكهم إلى درجة اليقين الذي تنشأ آثاره في القلب، ويحركه إلى اعتقاد واضح دقيق: ﴿بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾. ثم يهبط بهم درجة عن درجة الخلق والإبداع لأنفسهم أو للسماوات والأرض فيسألهم: هل هم يملكون خزائن الله، ويسيطرون على القبض والبسط، والضر والنفع؟

 

– ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ؟﴾: وإذا لم يكونوا كذلك ولم يدعوا هذه الدعوى فمن ذا يملك الخزائن؟ ومن ذا يسيطر على مقاليد الأمور؟ القرآن يقول: إنه الله القابض الباسط، المدبر المتصرف، وهذا هو التفسير الوحيد لما يجري في الكون من قبض وبسط وتصريف وتدبير، بعد انتفاء أن يكونوا هم المالكين للخزائن المسيطرين على تصريف الأمور. ثم يهبط بهم درجة أخرى فيسألهم إن كانت لهم وسيلة للاستماع إلى مصدر التنزيل: ﴿أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُوْنَ فِيْهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِيْنٍ﴾ [الطور: 38].

سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء

إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول لهم إنه رسول يوحى إليه، وإن هذا القرآن يتنزل عليه من الملأ الأعلى، وهم يكذّبونه فيما يقول، فهل لهم سلّم يستمعون فيه فيعلمون أن محمداً لا يوحى إليه، وأن الحق غير ما يقول؟ ﴿فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِيْنٍ﴾: أي ببرهان قوي يحمل في ذاته سلطاناً على النفوس يُلجئها إلى التصديق، وفي هذا تلميح إلى سلطان القرآن الذي يطالعهم في آياته وحججه، وهم يكابرون فيها ويعاندون.

 

وقال سبحانه وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ۝ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ۝ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [سورة الفرقان: 1-3]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سورة لقمان: 11]. كما جعل الله التذكير بمبدأ الخلق باباً من أبواب مقتضيات الإيمان به سبحانه وتوحيده في العبادة، وأنه المستحق لذلك وحده دون ما سواه، وذلك في أكثر من آية في كتاب الله؛ مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة: 21]. وقوله تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ۝ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ [سورة نوح: 13‑14]. إلى غير ذلك من الآيات المبثوثة في القرآن الكريم.

القضاء على وسوسة الشيطان في مسألة الخلق:

التفكير في مبدأ الخلق دون هديٍ من الوحي مدخل من مداخل الشيطان ووسوسته، والشيطان -لعنه الله- لا يترك سبيلاً للتشويش على ابن آدم إلا سلكه، فمن ذلك ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم مما يعرض للإنسان في مسألة الخلق من وساوس الشيطان التي تجرُّه للسؤال عمن خلق الله -تعالى الله عن ذلك- وما ينبغي له حينما يعرض له ذلك الأمر. فقد روى البخاري من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟). قال ابن حجر: وفي رواية بدء الخلق: (من خلق ربك؟)، وزاد: (فإذا بلغه فليستعذ به ولينتهِ)، وفي لفظ لمسلم: (فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنت بالله)، وزاد في أخرى: (ورسله)، ولأبي داوُد والنسائي من الزيادة؛ فليقل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص: 1-4]، ثم ليتفل عن يساره، ثم ليستعذ. وفي رواية أخرى: (فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه).

 

وهذه من الشبه التي يلقيها الشيطان على ابن آدم ولا يكاد يسلم من التعرّض لها أحد، ولذا نبه لها النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يقع فيها المسلم، وبيّن طريق التخلص منها، وأنها وسوسة من الشيطان للتشويش على إيمانه، وجرِّه إلى دوامة من الوهم.  روى أبو داوُد عن أبي هريرة قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه فقالوا: يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به، ما نحب أن لنا الدنيا وأنّا تكلمنا به فقال: (أوجدتموه؟ ذلك صريح الإيمان). ولابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أحدث نفسي بالأمر لأن أكون حُمَمَةً أحب إليَّ من أن أتكلم به، فقال: (الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة). ثم نقل الخطابي: المراد بصريح الإيمان هو الذي يعظم في نفوسهم أن تكلَّموا به، ويمنعهم من قبول ما يلقي الشيطان، فلولا ذلك لم يتعاظم في أنفسهم حتى أنكروه، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، بل هي من قبل الشيطان وكيده.

 

وكذلك بيّن ابن عباس كيفية علاج الوسوسة الشيطانية، فعن أبي زميل قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قلت: بلى. فقال لي: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [سورة يونس: 94]. قال: فقال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة الحديد: 3]. ويعلق ابن القيم على هذا الأثر فيقول: فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه لكان ذلك هو “الرب” الخلاق، ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالقٍ غير مخلوقٍ، وغني عن غيره، وكل شيء فقير إليه، قائم بنفسه وكل شيء قائم به، موجود بذاته وكل شيء موجود به، قديم لا أول له وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه باقٍ بذاته، وبقاء كل شيء به، فهو “الأول” الذي ليس قبله شيء، و”الآخر” الذي ليس بعده شيء، “الظاهر” الذي ليس فوقه شيء، “الباطن” الذي ليس دونه شيء.

===================================

المراجع:

1- علي محمد محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، دار ابن كثير، ص 118:104.

2- جعفر شيخ إدريس، الفيزياء ووجود الخالق مناقشة عقلانية إسلامية لبعض الفيزيائيين والفلاسفة الغربيين، الناشر مجلة البيان، ط 1، 2001، ص 15.

3- محمد بن عبد الله الخرعان، قصة الخلق، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض، ط 1، 2008، ص 15، 18، 19، 20.

4- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط 1، 2000، ص 27/124.

5- عبد الرحمن بن ناصر السعدي، شرح أسماء الله الحسنى، تحقيق عبيد بن علي العبيد، الجامعة الإسلامية، المدينة النورة، العدد 112، السنة 33، 1421ه، ص 169.