إن أشد ما يؤلم النفس في ظروفنا الحاضرة أن نرى الكثرة الكثيرة من الأمة العربية التي امتهنت كرامتها، واعتدى على حماها، واغتصبت أجزاء عزيزة من أرضها لم ترتفع بعد إلى مستوى المعركة. وأن نرى أمورًا ثانوية ولا أقول تافهة تحتل تفكيرنا، بينما قضايانا التربوية والاجتماعية والأخلاقية والمصيرية لا تزال تحتل مكانًا ثانويًا من تفكيرنا وعواطفنا ومشاعرنا، ولقد آن الأوان لكل فرد في هذه الأمة صبيًا أو شيخًا، رجلاً أو امرأة، آن للجميع أن يوقنوا بأن لهم ثأرًا لا بد أن يدركوه، وأن لهم عدوًا رهيبًا ماكرًا يجب أن يحذروه، وأن يستعدوا له فيضحكوا بقدر، ويفرحوا بقدر، ويشعروا بفداحة الخطب الذي أصاب العروبة والإسلام في كيانهما المادي والأدبي يوم وقع في بلادنا ما وقع، ويوم شرع أعداؤنا يقتسمون بلادنا كأنها تركة لا صاحب لها، وكأننا أمة ضائعة تائهة لا تجمع أبناءها غاية، ولا تظلهم حضارة، ولا يربطهم هدف.
وأول الطريق أن نعرف أعداءنا .. نعرفهم من كتبهم التي بين أيدينا أولاً، والتي تناولوها بالتحريف حتى صارت مسخًا مشوهًا لا ينبغي أن ينسب إلى اللَّه، ونعرفهم من القرآن الكريم بعد ذلك وهو كتاب اللَّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تحدث عنهم وعن تاريخهم حديثًا لو أننا وعيناه وفهمناه ثم التزمناه بما حواه من توجيهات وتعاليم لبدل اللَّه أحوالنا إلى أحسن، ولتولى بقهره وقوته نصرنا وإعزازنا.
بنو إسرائيل في أسفار العهد القديم:
ففي سفر التكوين بعد ما بين أن اللَّه خلق الكون في ستة أيام ترى في الإصحاح الثاني 1 – 3 أنهم ينسبون إلى اللَّه أنه تعب من عمله خلال الأيام الستة، وأنه استراح في اليوم السابع ((أكملت السموات والأرض وكل جندها، وفرغ اللَّه في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل)).
وفي الإصحاح الثالث 8 – 11 ينسبون عدم المعرفة إلى اللَّه ((وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت، فقال: سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال: من أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها)).
وفي الإصحاح السادس 5 – 7 ينسبون إلى اللَّه أنه حزن وتأسف ((ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه، فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت أني عملتهم)).
وفي الإصحاح الثاني والثلاثين 24 – 29 يثبتون أن يعقوب صارع اللَّه وكاد أن يصرعه: ((فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال لا أطلقك إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل لأنك جاهدت مع اللَّه والناس وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي وباركه هناك)).
هذه عقيدتهم في اللَّه أسوقها دون أي تعليق، أما عقيدتهم في الأنبياء فهم يتهمون نوحًا عليه السلام في الإصحاح التاسع 20 – 23 من سفر التكوين أنه كان سكيرًا، وأنه عندما سكر تعرى وكشف عورته أمام أبنائه، ويتهمون ابنتي لوط عليه السلام في الإصحاح التاسع عشر 30 – 38 أنهما سقتا أباهما خمرًا واضطجعتا معه، وأن كلا منهما حملت منه سفاحًا وولدت الكبرى ابنا دعته موآب، وولدت الصغرى ابنا دعته بن عمى.
وفي الإصحاح الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني 2 – 27 يتهمون داود عليه السلام بالزنا مع بتشيع بنت أليعام زوجة أوريا الحثى أحد قواده ويتهمونه بالخداع والغدر وهم يدعون أنه أصدر أوامره بأن يوضع أوريا في مقدمة الجيش ليضرب ويموت.
ولقد تحدثت عنهم التوراة فوصفتهم ((بأنهم الشعب الغليظ الرقبة)) كناية عن القسوة المتوارثة فيهم والعتو والاستعلاء والغرور، وتحدث عنهم الإنجيل وقال عيسى عليه السلام عنهم: ((إنما بعثت لخراف بني إسرائيل الضالة)) إشارة إلى ضلالهم وبعدهم عن الحق والصواب، وتحدث عنهم القرآن وما أبلغ حديث القرآن: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة: 60].
بنو إسرئيل في القرآن
كلمة عامة:
إن بني إسرائيل في تناول القرآن الكريم لهم يحتاجون إلى فهمنا لهذا التناول، فإنه يتحدث عنهم فيذكرهم بخير أيام كانوا هداة خير، وحملة رسالة، ودعاة توحيد فيقول: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية]. ويقول على لسان موسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، والقرآن إذ ينصفهم هذا الإنصاف وهو يصف فترة من فترات تاريخهم يضم إلى هذا التناول أسلوبًا آخر يذكر فيه مآسيهم ومعاصيهم ومخازيهم وما استحقوه من سخط اللَّه ولعنته وغضبه، وكيف أجرى لعنته على ألسنة أنبيائه ورسله تنزل بهم جزاء وفاقًا على كفرهم وعتوهم وتكذيبهم وقتلهم الأنبياء بغير حق إلى آخر ما جاء في تناول القرآن لهم على حاليهم من فساد وصلاح ونصر وهزيمة وعسر ويسر.
ولذلك فإن فهمنا لتناول القرآن لهم ينبغي أن ننتفع به في أنفسنا وفي مجتمعنا وفي إعدادنا واستعدادنا ونحن على أهبة الانطلاقة الكبرى، والانتفاضة العظمى لإعلاء كلمة اللَّه والانتصار له ولدينه.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار: إن اسم موسى عليه السلام ذكر في القرآن ما يقرب من مائة وعشرين مرة وهو رقم لم يشاركه فيه نبي ولا ملك. وقد تكررت قصة بني إسرائيل في القرآن كما لم تتكرر قصة أخرى لأمة بادت، أو حضارة انتهت .. تكررت القصة في عشرين سورة من سور القرآن الكريم، وهذا التكرار لحكمه بالغة، وهدف تربوي رفيع، وقد يظن القارئ أن القرآن الكريم كان حفيًا بالحديث عن بني إسرائيل في العهد المدني بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة هو وصحبه فجمعهم مع اليهود جوار قريب، وحوار يدور بين الفريقين يتبعه قضايا تثار، وخلافات تنشأ، وخصومات تنشب. وهذا أمر طبيعي وتناول القرآن لهم في فترة ما بعد الهجرة وحديثه عنهم كان كثيرًا وغزيرًا .. ولكن دارس القرآن الكريم يلمس في وضوع أن حديث القرآن عنهم وتناوله لهم في الفترة المكية ربما كان أكثر من حديثه عنهم في الفترة المدنية، وأن قصة بني إسرائيل درست، وتاريخهم شرح للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة قبل التقاء المسلمين بهم في المدينة، وقبل أن يجمع الفريقين ما يستحق هذا الشرح وتلك الدراسة. فالقرآن الكريم في سورة (الأعراف) وهي مكية يتناول اليهود تناولاً لا نظير له. وكذلك في سورة (الأنعام)، وسورة (طه) أكثرها في بني إسرائيل، وسورة (الإسراء) تسمى سورة بني إسرائيل، وسورة (إبراهيم) فيها تناول لبني إسرائيل، أما سورة (يوسف) فهي في إسرائيل وأبنائه، الحواميم كلها ما من سورة فيها حم إلا وتناولت بني إسرائيل، والحواميم كلها سور مكية. وسور الطواسين كلها أيضًا تناولت بني إسرائيل وهي كلها سور مكية. كذلك سور الأنبياء والذاريات .. وأكثر السور المكية تناولت بني إسرائيل، وما كان بنو إسرائيل في مكة شيئًا يستحق الذكر، أو يستحق التناول بهذا التفصيل.
فما سبب ذلك؟ السبب في تقديري أن بني إسرائيل أمة تمثل في تاريخها المبكر وفي تاريخها المتأخر النشاط الإنساني الذي يعلو ويهبط، ويسفل ويرتفع وهي في حاليها يدركها من ثواب اللَّه وعقوبته ما ينبغي أن ينشر ويعلن في الآفاق، حتى يكون عبرة للناس إلى أن تقوم الساعة … فهم في حالات ضعفهم وهزائمهم تعرضوا لمذابح ونكبات تقصم الظهور فصبروا على ذلك، وكان صبرهم تاريخًا يروى للمستضعفين من المسلمين بمكة، الذين يتحملون من التنكيل والتعذيب والهوان والسخرية من كبراء مكة ورؤسائها ما يجعل الأرض تميد تحت أقدامهم، فيسوق اللَّه لهم قصة بني إسرائيل وهم يرون أبناءهم يذبحون أمام أعينهم وهم يصبرون على ذلك، لا تذوب شخصيتهم ولا تمحى رغم الضعف الذي نزل بهم، ليتعلم الناس من بعدهما درسًا في الصبر على البلاء، والصمود أمام المتاعب ثم تجيء مع الصبر عقباه حيث يقول اللَّه في سورة السجدة المكية: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، ثم يقول في سورة الأعراف: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ}.
هذا استعراض لأحداث يوضحها اللَّه سبحانه وتعالى في أروع عرض، وأبلغ بيان أمام أبصار أهل مكة المؤمنين كي يتحملوا ما ينزل بساحتهم من عذاب ومتاعب في سبيل الحق الذي بين أيديهم، وكي يعلموا أن التعصب للحق والانتصار له يسببان بعض المغارم، وينبغي للمؤمنين أن يتحملوا هذه المغارم بجلد وصبر وقوة، وألا تنهار عزائمهم، أو تلين قناتهم، مهما أصيبوا حتى تنالهم مثوبة اللَّه، ويتوج صبرهم وصمودهم بالنصر الحاسم العزيز المؤزر.