دار حديثنا – في الجزء الأول من هذه السلسلة – حول أسماء الله الحسنى، من حيث تعريفها، وأهميتها، والحكمة من تعددها، وما يقتضيه ذلك من التعظيم والتوقير الواجبين لله – تعالى -. وعرفنا معنى قوله – تعالى -: ﴿ فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، ومعنى قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: “مَن أحصاها”، كما عرفنا القول الراجح في عددها.
وسنحاول – إن شاء الله تعالى – أن نتناول – تباعاً – بعض هذه الأسماء، ونبدأ اليوم باسم الجلالة: “الله” – جل وعلا -، باعتبار أن من فَقِه كُنْهَ هذه الأسماء الجليلة، فقد أمسك بمفتاح معرفة الله – تعالى -، والتقرب إليه، بل وتحقيق محبته. قال ابن القيم – رحمه الله -: “من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، أحبه لا محالة”.
ولفظ الجلالة “الله”، هو علم على الذات، فهو الدال على جميع الأسماء الحسنى، والصفات العليا. ولهذا يضيف الله – سبحانه وتعالى – سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم، كقوله – تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف: 180]. وقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [طه: 8]. ويقال: الرحمن، الرحيم، القدير، العليم.. كلها من أسماء الله، ولا يقال: “الله” من أسماء الرحمن، ولا من أسماء العليم.
وهو مشتقّ من الألوهيّة والإلهيّة، وهي العبوديّة. تقول العرب: ألَهَ الشّيءَ، أي: عبده وذلّ له. فأصل كلمة “الله” – كما قال الكسائي والفرّاء -: الإله. أي: المعبود. وقرأ ابن عبّاس – رضي الله عنهما -: “وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ”، أي: وعبادتك. ولذلك قال – تعالى -: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 3]. وقال – تعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾ [الزخرف: 84].
ولفظ الجلالة “الله” وصف في الأصل، لأنه بمعنى المعبود، ولكن غَلَبَتْ عليه العَلَمِيَّة، فتجري عليه بقية الأسماء أخبارًا وأوصافًا، فيقال: الله: رحمنٌ، رحيمٌ، سميعٌ، عليمٌ، كما يقال: اللهُ: الرَّحمنُ الرَّحيمُ.
وللفظ الجلال: “الله” خصائص كثيرة منها:
1- أنّه علم اختصّ بالله وحده، فلم يتسم به أحد لا حقيقة ولا مجازا، فصرف عنه جبابرة الأرض، فلم يجرؤ أحدهم أن يسمي به نفسه.
2- أنّه لا يصحّ إسلام أحد من النّاس إلاّ بالنّطق به، فلو قال: لا إله إلاّ الرّحمن، لم يصحّ إسلامه عند جماهير العلماء.
3- ولا تنعقد صلاة أحد من النّاس إلاّ بالتلفّظ به، فلو قال: الرّحمن أكبر، لم تنعقد صلاته.
4- ومنهم من جزم بأنه اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
5- ومن خصائصه أنه لا يسقط عنه الألف واللام عند النداء، فنقول: يا الله، ولا نقول: يالرحمن، يالرحيم.. وكذلك سائر الأسماء.
6- غالب الأذكار مقترنة به، تقول: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبنا الله ونعم الوكيل…
7- لفظ الجلالة هو أكثر الأسماء ورودا في القرآن الكريم بما يزيد على 2000 مرة، وافتتح به – عز وجل – ثلاثا وثلاثين آية.
ومن ثمرات فقه لفظ الجلالة “الله”، أنه يقتضي التسليم بأنه وحده المستحقّ للعبادة دون سواه، وهذا هو تحقيق التّوحيد الذي جاءت به الرّسل، وأُنزلت لأجله الكتب، وهو توحيد العبادة، حيث كل رسول كان يقول لقومه: ﴿ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
يقول معاذ بن جبل – رضي الله عنه -: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: “يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟”. قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: “فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى الله – عَزَّ وَجَلَّ -، أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا” متفق عليه.
ولقد كان أهل الجاهلية يعتقدون وجود الله، ويؤمنون بربوبيته، وأنه الخالق، كما قال – تعالى -: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 87]، ولكنهم لا يصرفون العبادة له وحده، بل قالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، فلم يعملوا بمقتضى ما يعتقدونه، لأنه إذا كان الله – سبحانه وتعالى – هو الخالق المربي لجميع عباده، فهو المستحق للعبادة وحده دون غيره.
ولذلك نجد كتاب الله من أوله إلى آخره، يحذر من كل أنواع الشرك. قال – تعالى – على لسان لقمان يعظ ابنه: ﴿ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. بل حذر منه الأنبياءَ بمن فيهم سيد الموحدين نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقال – تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65].
ولا شك أن العاقبة شديدة. فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ: “يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لاَ تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لاَ أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْىٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ (أي: من رحمة الله)؟ فَيَقُولُ الله – تَعَالَى -: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ (والذيخ: ذكر الضبع، أي: يمسخه الله ضبعا)، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ” البخاري.
وفي الصّحيحين عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – يرفعه: “إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا (أي: أقلهم وأيسرهم عذابا): لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: “فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي، فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ”.
ومن ثمرات فقه لفظ الجلالة “الله”، أنه يورث المحبة. قال ابن القيّم – رحمه الله -: “فإنّ الإله هو الّذي يألَه العبادَ حبًّا، وذلاًّ، وخوفا، ورجاءً، وتعظيما، وطاعة له، بمعنى مألوه، وهو الّذي تألَهه القلوب أي: تحبّه وتذلّ له”.
وفي حديث معاذ، يقول الله – تعالى – لنبيه: “سَلْ”. فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ. أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إِلَى حُبِّكَ”. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: “إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا ثُمَّ تَعَلَّمُوهَا” صحيح سنن الترمذي.
ومن أعظم ثمرات فقه لفظ الجلالة “الله”، تحقيق الطمأنينة القلبية، كما قال – تعالى -: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
يقول ابن القيم – رحمه الله -: “إذ استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا، فافرح أنت بالله، وإذا أنس الناس بأحبائهم، فأنس أنت بالله، وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق، ويتوددون إليهم، فتودد أنت إلى الله”. ولذلك جاء في الحديث: “إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ” صحيح سنن الترمذي.
فهل الذي يسأل الأموات الضر والنفع، ويتمسح بالجدران ويقبل الأعتاب والتراب، حقق فقه لفظ الجلالة؟
وهل الذي يعتمد في حياته على حب استطلاع الغيب بالذهاب عند العرافين والمشعوذين، له علم بدلالات لفظ الجلالة؟
وهل الذي يتحايل بكل الوسائل لتحصيل المال بطرق الحرام، من رشوة، وسرقة، ونهب، وغش، وتدليس.. يعرف حقيقة لفظ الجلالة؟
وهل الذين يمشون بين الناس بالفتك، والظلم، والتقتيل، والتشريد، حتى ضحوا بمليونين ونصف من القتلى والجرحى في الشام، وضحى الآخرون بقرابة 200 ألف في العراق، منها أزيد من عشرة آلاف في سنة 2016 وحدها.. يعرف الله، ويرجو رحمة الله، الذي يقول – عز وجل – مناديا الخلائق في المحشر: “لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟”، فلا يجيب أحد من شدة الهول، فيجيب نفسه – سبحانه -: “لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ”؟.
أرُوحُ وَقد خَتَمتَ على فُؤادي *** بحُبّكَ أنْ يحِلّ بهِ سِوَاكَا
وَقَد حَمّلْتَني شُكْراً طَوِيلاً *** ثَقِيلاً لا أُطيقُ بِهِ حَرَاكَا
فلوْ أنّي استَطَعتُ غَضَضْتُ طرْفي *** فَلَمْ أُبْصِرْ به حتى أرَاكَا
امقال لاول
النبع الصافي ……. شرح أسماء الله الحسنى (1)…الدكتور / محمد ويلالي
https://hidayat-alhayara.com/wp-admin/post.php?post=6958&action=edit