عناصر الخطبة
1/اتفاق ذوي العلم والعقل على أن الجماعة رحمة
2/وجوه خيرية الألفة والاجتماع
3/معنى الشذوذ وأنواعه
4/انتكاس الفطرة وعواقبه الوخيمة
5/بعض أسباب ودوافع الشذوذ 6/متى يكون النشوز والانفراد خيرا؟
الخطبة الأولى:
الحمد لله، العلِيِّ الأعلى، الذي خلَق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، له الحمد كلُّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يُرجَع الأمرُ كلُّه، له الحمدُ حتى يرضى، وله الحمدُ إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا، وله الحمد على كل حال، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه مِنْ خَلقِه، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، وترَكَنا على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلا هالكٌ، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامينِ، ومن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، والخلوة والجلوة، والاعتصام بكتابه، وبهدي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهما النور في الظُّلَم، والنجاة في المحن، ما خاب مَنِ انتهجهما، وما أفلَح مَنْ قلاهما، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 132].
عبادَ اللهِ: يتفق ذوو العلم والعقل طُرًّا، أن الجماعة رحمة، والفُرْقة عذاب، وأن الخُلْطةَ خيرٌ من العزلة، وأن الشذوذ عن المجموع نشوز وإعراض، وأن الثلاثة رَكْب، والراكب شيطان، والراكبان شيطانان، وأن الرماح تأبى التكسرَ عند اجتماعهما، وإذا افترقت تكسَّرت آحادًا، وأن الفردَ ضعيفٌ بنفسه، قويٌّ بإخوانه، هذا هو منطقُ ذوي العلم والحِجَا، وهو الذي به عمارة الأرض على ما يحبه الله ويرضاه لعباده، (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النِّسَاءِ: 115]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما من ثلاثة في قرية ولا بدوٍ لا تُقام فيهم الصلاةُ إلا قد استحوذ عليهم الشيطانُ؛ فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ“(رواه أبو داود)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: “عليكم بالجماعة، وإياكم والفُرْقَةَ؛ فإنَّ الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعةَ، ومَنْ سرَّتْه حسنتُه، وساءته سيئتُه فذلك المؤمن“(رواه الترمذي).
إن الله -جل شأنه- بعَث الأنبياء كلَّهم بإقامة الدِّين، والألفة والجماعة، وترك الفُرْقة والمخالَفة، كما قال في محكم كتابه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آلِ عِمْرَانَ: 103]، وقد روى شيخ المفسرين ابن جرير عن قتادة قوله: “إن الله -عز وجل- قد كَرِهَ لكم الفُرْقَةَ وقدَّم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمعَ والطاعةَ، والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتُم، ولا قوة إلا بالله”، إذا فُهِمَ ذلكم عبادَ اللهِ فاعلموا أن المجتمعات الواعية، هي تلكم التي تجعل من ضرورياتها حفظ منظومتها بتأليف مجموعها، وضَمّ بعضه إلى بعض، وحماية تلك المنظومة، مِنَ انفراطِ جمعِها، أو نقض غزلها، أو فَتْق غرزها، واعتبار كل انفرادٍ خارجٍ عن سبيل مجموعها شذوذًا ونشازًا، فإن الشذوذ -عباد الله- هو الانفراد، والمفارَقة عن السواد الأعظم، باعتقادٍ أو فكرٍ أو قولٍ أو فعلٍ، أو هيئةٍ مخالِفةٍ للحق تارةً، أو الجماعة تارةً أخرى، أو الأخلاق تارةً ثالثةً.
والشذوذ -عبادَ اللهِ- ضربانِ اثنانِ؛ إمَّا بالقلب، وإمَّا بالجوارح، فأمَّا الشذوذ بالقلب فإنه يكون بالاعتقاد الفاسد، والفكر الشاذّ المخالِف لِمَا عليه أهلُ الحقِّ في التوحيد والإيمان، وأمَّا الشذوذُ بالجوارح، فإنه يكون بالتَّرْكِ تارةً، وبالفعل تارةً أخرى، فأما الشذوذ بالتَّرْك: فهو مفارَقة الجماعة، وترك السمع والطاعة، لِمَنْ ولَّاه اللهُ أمرَها، فإن هذا مسلك خارجي خطير، ورسمُ شرٍّ مستطيرٌ، قد أجمع أهلُ العلم قاطبةً على نكيره، والتحذير منه، وأنه شذوذ ومنكَر لا تهاوُن مع فاعله كائنًا مَنْ كان؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حسَم ذلك بقوله: “مَنْ خلَع يدًا من طاعة لَقِيَ اللهَ يومَ القيامة ولا حجةَ له، ومَنْ مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتةً جاهليةً“(رواه مسلم).
وأمَّا الشذوذُ بالفعلِ عبادَ اللهِ: فقد يكون بالفتاوى الفقهية، التي يُعرَف عنها بُعْدُها عن مسار الفقه الإسلامي، مع تبايُنٍ ظاهرٍ بينَها وبينَ الخلاف الفقهي المعتَبَر، بل إنها تجاوَزَتْه إلى حد الشذوذ، وهي التي تُعرَف بالآراء الفقهية الشاذَّة، أو الفتاوى الشاذَّة، التي تخالِف إجماعًا صريحًا، ولا تنسجم مع مقاصد الشريعة والعقل الصريح، وهذا ضربٌ لا يخلو منه عصرٌ ولا قُطرٌ، يشوِّش بها أصحابُها منظومةَ الفتوى في المجتمعات، ويُلَبِّسون على المتلقِّينَ شريعتَهم؛ فيقعون في الخلط والتشويش، ثم يضطربون في مصدرية الفتوى لديهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم إنه قد يكون الشذوذ كذلكم في الهيئة واللباس؛ كلباس الشهرة، التي خالَف بها فاعِلُها ما عليه عامةُ الناس، حتى يصبح شاذًّا عن لباسهم، منفرِدًا عن هيئتهم، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ لَبِسَ ثوبَ شهرةٍ في الدنيا ألبَسَه اللهُ ثوبَ مذلةٍ يومَ القيامةِ“(رواه أحمد وأبو داود)، والمراد بثوب الشهرة ما كان فيه ترفُّعٌ خارجٌ عن العادة، يُفضِي إلى الكبرياء، وكذلك ما كان فيه تخفُّضٌ وزهدٌ خارجٌ عن العادة، إلى درجة تكلُّف التواضع، فإن السلفَ كانوا يكرهون الشهرتينِ؛ ثوبَ الترفعِ، وثوبَ التخفُّضِ.
ثم اعلموا يا -رعاكم الله- أن من الشذوذ بالفعل مخالَفة فطرة الله التي فطَر الناسَ عليها في غرائزهم، وما شرعه لهم من النكاح، بكلمة الله، في قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)[النِّسَاءِ: 3]، نعم -يا رعاكم الله-، إنَّ شذوذًا غريزيًّا يتخذه مُواقِعُوه نمطَ حياة لهم، لهو انتهاكٌ للناموس السائد في الكون، فضلًا عن نسفه ملةَ الإسلامِ والفطرة السوية، ويزداد ذلكم الشذوذُ شذوذًا، حينما يتحوَّل مُواقِعُوه ومُشِيعُوه من حال الدفاع عن شذوذهم إلى حال الهجوم لفرضه واقعًا ملموسًا، عبرَ الانتقال من اللفظ الوحشي للشذوذ إلى الإغراء بلفظ “المثلية”؛ مِنْ أجلِ أن تَخِفَّ وطأةُ اللفظِ على مسامع الناس، حتى تألَفَه؛ ومِنْ ثَمَّ تتوهَّمُه حقًّا شخصيًّا سائغًا ولو على تخوُّف أو استحياء، وإنه -واللهِ وتاللهِ وباللهِ- لَهو طبع تأباه جميعُ الملل، ومحرَّم في جميع الكتب المنزَّلة، وقد قال لوط -عليه السلام- لقومه: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 165-166]، وإنه لَمَّا كان جُرم قومِه فيه انتكاسٌ عن الفطرة، كانت عقوبتُهم مُلائِمةً جُرمَهم، حيث جعَل اللهُ عاليَ أرضِهم سافِلَها، وأمطَر عليها حجارةً من سجيل منضود.
اللهم إنَّا نعوذ برضاكَ من سخطكَ، وبمعافاتِكَ من عقوبتِكَ، وبكَ منكَ، لا نُحصِي ثناءً عليكَ، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِكَ.
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي كان غفورًا رحيمًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأصلِّي وأسلِّم على عبده ورسوله المصطفى، وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومَنْ شَذَّ عنهم شَذَّ في النار.
ثم اعلموا -يا رعاكم الله-، أن الشذوذَ شرٌّ كلُّه، وهو ميلٌ عن الفطرة، وصدود عن العلم، واستغناء عن الجماعة، الشذوذ عن السبيل غفلة تُورِث انحرافًا يؤزُّه غرورٌ وبطرٌ وغمطٌ في آن واحد، وسبيل الجماعة ليس تبعيَّةً مقيتةً، ولا صاحِبُها إمعةً ممقوتًا، بل إنَّ لزومها وتَرْك الشذوذ عنها هو عين العقل، وعين الحكمة، وعين العلم، وعين السلامة، والشذوذ -كغيره من الأدواء- له أسبابه ودوافعه، فمنها الذاتي، ومنها الاجتماعي.
فمن الذاتي: ضَعْف الوازع الديني لدى مَنْ شَذَّ، أو خُلُوُّه منه أصلًا، وكذا اعتدادُه بنفسه، وحبُّه المخالَفة حتى يحصل الشهرة، على حد المقولة الرائجة: “خَالِفْ تُذكَرْ”.
ومن الأسباب الاجتماعية: قرناء السوء، والمؤثِّرات المتنوعة، إبَّان غفلة عن مصادر التلقِّي الموثوقة، التي يعوِّل عليها الباحثون عن الحكمة؛ فإن لوسائل التواصل الاجتماعي -على اختلاف تنوُّعِها- أثرًا بالغًا فيما يقع فيه المرءُ من شذوذ وانفراد، من خلال ما يُبَثّ فيها من تحريض على الجماعة والحكمة والعقل والمنطق والصبغة الشرعية، والذوق العامّ؛ نتيجةَ انسياقٍ وراءَ شائعاتٍ مِنْ أَمْنٍ أو خوفٍ أَذَاعُوا به.
وإنه إذا كان الشذوذ المذموم هو النشوز والانفراد عن السواد الأعظم الذي تدثَّر بالحق في مجموعه، وهذا هو الغالب في كل عصر ومِصْر، إلا أنَّ القاعدة قد تتخلَّف في نطاق ضيِّق نادر؛ حالَ حصولِه آخِرَ الزمانِ، فإن الانفراد يكون حينئذ محمودًا كما دلَّت على ذلكم نصوصُ السُّنَّةِ النبويةِ، فإن المرء قد يكون على الهدى والحق إبَّان كثرة سالِكِي ضدِّه، ففي مثل ذلكم يُحمَد الشذوذُ؛ بمعنى مخالفتهم والانفراد عنهم واعتزالهم، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “يُوشِكُ أن يكون خيرُ مالِ المسلمِ غنمًا يتبَع بها شعفَ الجبالِ، ومَقَاطِعَ القَطْرِ، يفرُّ بِدِينِه مِنَ الفِتَنِ”(رواه البخاري).
وكما في قصة حذيفة -رضي الله عنه- حينما ذكَر له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فتنَ آخرِ الزمانِ، قال حذيفة بعد: “فما تأمرني إن أدركَنِي ذلك؟ قال صلوتُ اللهِ وسلامُه عليه: تَلزَمُ جماعةَ المسلمينَ وإمامَهم، قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: فاعتَزِلْ تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تعضَّ بأصلِ شجرةٍ، حتى يُدرِكَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك“(رواه البخاري ومسلم).
اللهم إنَّا نعوذ بكَ من الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن، ونعوذ بكَ اللهم أن نُشاقِقَ الرسولَ مِنْ بَعدِ ما تبيَّن لنا الهدى، ونتبِع غيرَ سبيل المؤمنينَ، ونسألك الثباتَ على دِينِكَ، ولزومَ جماعة المسلمينَ وإمامَهم، حتى تَقبِضَنا إليكَ غيرَ مُبدِّلينَ ولا مَفتُونِينَ.
هذا وصلُّوا -رحمكم الله-، على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر صحابة نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معَهم بعفوكَ وجودكَ وكرمكَ، يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ، وعبادَك المؤمنين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وَاجْعَلْ ولايتَنا فيمَن خافَكَ واتقاكَ، واتبع رضاكَ، يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانتَه يا ذا الجلال والإكرام، الله وفِّقه ووليَّ عهدِه لِمَا فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ.