الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمِن مسئولية الوالدين التي جعلها الله في أعناقهما، وسيسألان عنها: أن يُربيا أولادهما على الأخلاق والآداب الإسلامية؛ ليتم صرح البناء الإنساني الشامخ للطفل المسلم. ومما ينبغي أن يعلمه الوالدان الكريمان في هذا المنحى التربوي أن: 1- الخُلق نوعان: جبلي، ومكتسب، وكلٌ بقدر. الخُلُق لغة: الدِّين والطبع والسجية: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ) (رواه مسلم). أي: حليم عاقل، متأنٍ غير متعجلٍ. وفي رواية: “قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا) قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ” (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وهذا دليل صريح على أن الأخلاق منها ما هو جبلي جُبل عليه الإنسان، فإنه قد حمد الله -تعالى- على أن جبله على خلقين يحبهما الله ورسوله. قال ابن فارس: “الخُلُق: السجية؛ لأن صاحبه قد قُدِّر عليه”، أي وهو في بطن أمه؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن الله تبارك وتعالى حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكًا فيدخل الرحم فيقول: يا رب ماذا؟ فيقول: غلام أو جارية أو ما أراد أن يخلق في الرحم فيقول: يا رب شقي أم سعيد؟ فيقول: شقي وسعيد. فيقول: يا رب ما أجله؟ ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا. فيقول: يا رب ما رزقه؟ فيقول: كذا وكذا فيقول: يا رب ما خلقه؟ ما خلائقه؟ فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم” (قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات). – ومِن الأخلاق ما هو كسبي، يكتسبه الإنسان من التنشئة والتربية، ويتمرسه حتى يصير سجية فيه، ونحن مأمورون بذلك. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ) (رواه الخطيب في تاريخه، وحسنه الألباني). والتعلم والتحلم على وزن التفعل، وهو وزن يدل على تربية وتمرس مرة بعد مرة، ومنه: التخلُّق أو اكتساب الخُلُق. قال القرطبي -رحمه الله-: “وحقيقة الخُلُق في اللغة هو ما يأخذ الإنسانُ به نفسه من الأدب يُسمَّى خُلُقًا؛ لأنه يسير كالخِلْقة فيه، وأما ما طُبِع عليه من الأدب فهو الخِيم (بالكسر): السَّجيَّة والطبيعة، لا واحد له من لفظه، فيكون الخُلُق الطَّبع المتكلَّف، والخِيم الطبع الغريزي” (تفسير القرطبي). وهذا يجعل مسئولية على الأبوين كبيرة أن يُطبعا أولادهما بالأخلاق الإسلامية بالتعليم والممارسة والدربة مرة بعد مرة حتى يصير طبعًا وسجية تصدر عنهما أفعال الطفل دون روية أو فكر. قال الغزالي -رحمه الله- في تعريف الخُلُق: “الخُلُق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تَصدُر الأفعال بسهولةٍ ويُسرٍ من غير حاجة إلى فِكْر ورويَّة” (إحياء علوم الدين). 2- منزلة الأخلاق في الإسلام: الخُلُق هو صورة الإنسان الباطنة كما أن خَلْقه صورته الظاهرة (لسان العرب). والتربية الأخلاقية هي تربية القلب الذي هو سيد الأعضاء، الذي إن صلح صلحت سائر أعضاء الإنسان، وإن فسد فسدت، وهذا مما يُعظم المسئولية، والله المستعان. والأخلاق في الإسلام هي الدين كله، قال ابن القيم -رحمه الله-: “الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدين” (مدارج السالكين). وصدق -رحمه الله-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) (رواه أبو داود، والترمذي، وصححه الألباني). وقد أثنى الله -تعالى- على أخلاق رسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم أمرنا بالاقتداء به، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)، أي: على أدبٍ ودينٍ عظيمٍ. قال الطبري -رحمه الله-: “يقول -تعالى- ذكره لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه… ثم روي بسنده عن جُبير بن نُفَير قال: حججت فدخلت على عائشة، فسألتها عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن” (تفسير الطبري). كما ثبت في الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه- قال: “خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟”، وعنه -رضي الله عنه- قال: “ «مَا مَسِسْتُ حَرِيرًا وَلاَ دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلاَ شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ أَوْ عَرْفًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ أَوْ عَرْفِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-” (متفق عليه). وعن البراء -رضي الله عنه- قال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُ خَلْقًا؛ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ البَائِنِ، وَلاَ بِالقَصِيرِ” (رواه البخاري). هذا وقد أمرنا الله -تعالى- بالاقتداء به وطاعته، ولا شك أن الاقتداء بمَن مدحه الله هذا المدح العظيم هو الكمال الخلقي الذي يمدح عليه أيّ إنسان، قال الله -تعالى-: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب:21)، وقال -تعالى-: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (النور:54)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وبه يدرك المؤمن درجة الصائم القائم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). وبه ينال قُرْب المجلس من الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). والأدلة في ذلك كثيرة، تدل على أن ديننا دين شامل لكل منحى من مناحي الحياة، وأنه منهاج حياة؛ مَن نهجه واتَّبعه سعد في الدنيا، وفاز وأفلح في الآخرة. والله المستعان. |