الإلحاد كموقف فكري قد يأتي كردة فعل قوية لمجموعة من الإخفاقات في الحياة، فشل دراسي، مهني، أسري، مجتمعي، مالي، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن أن نعالج فشلنا باللجوء إلى إنكار الله والدين وتبني مواقف فكرية وسلوكية شاذة؟
الأكيد أن اتخاذ هذا الموقف لن يزيد إلا في عذابنا ومعاناتنا، ذلك أننا بهذا سنلج متاهة وجودية ونفسية لا متناهية لأننا نتبنى عقيدة الفراغ، عدم وجود الإله= فراغ، عدم وجود الدين= فراغ، ضبابية المصير=فراغ، هذه الفراغات كلها عندما تجتمع تشكل بؤرة زلزالية تجثم على ذات الملحد، وفي مثل هذا الوضع هناك من يأخذ مسكنات مادية ليهدئها وهناك من لا يتمكن من المقاومة فيفجرها مدوية “سامحوني حاولت النجاة وفشلت”.
إشكالية الفكر الإلحادي أنه فكر سام toxic يجر صاحبه إلى معضلات وجودية حقيقية، ويجعله يعيش في متاهة وخواء روحي خطير، لأنه يتبنى العدمية Nihilism التي تعني أن الوجود لا معنى له ولا توجد قيمة لأي شيء، وهذه الأخيرة تخرب النفس والفكر وتجعلك في صراع جدلي مع النفس والعقل والمصير والمجتمع.
فلا معنى أن تساعد محتاجاً، ولا معنى لأن تتصدق على فقيرٍ، ولا معنى أن يسعى الإنسان في خدمة مجتمعه، فلا معنى للخير ولا للشر، و قتل الإنسان لأخيه الإنسان لا يهم، ما دامت الحياة عقيمة ولا معنى لها، لأننا ببساطة فقدنا البوصلة وأسقطنا القيمة وانزلقنا في العدم.
أسئلة قلقة حول الظاهرة الإلحادية:
- ماذا لو كان الله موجوداً والدين حقاً؟
- أي عذر سأقدمه لربي عندما أقف بين يديه بعد علمي ببطلان موقفي؟
- هل أستحق خسارة حياة أبدية في سبيل حياة قصيرة وفانية؟
- ما فائدة العمل إذا جئنا من العدم ومصيرنا إلى عدم؟
- كيف تتحقق السعادة في ظل عقيدة العدم؟
صور بليز باسكال في كتابه “خواطر Pensées” معاناة الملاحدة مع منظومة النفي والعدم، فقال تحت باب حتمية الرهان:
يجب أن يُرثى لحال الملحدين، لأن في حالتهم من الشقاء ما به الكفاية، ألا يكفيهم ما هم عليه من الشقاء؟
ليس على النفس أن تكون فائقة السمو لتدرك أن ليس في الأرض مسرة حقيقية ثابتة، وأن جميع ملذاتنا إن هي إلا أباطيل، وأن آلامنا لا نهاية لها، وأخيرا، إن الموت الذي يتهددنا في كل ثانية يضعنا حتماً بعد سنوات قلائل أمام الضرورة المرعبة التي تقضي بأن نكون إلى الأبد تعساء.
هل يُعقل أن أخاطر بمصيري الآخروي بين العدم وإله ساخط؟ دون أن أعلم أي المصيرين سيكون قسمتي!
وجود بشر لا يأبهون بالهلاك والشقاء الأبدي ليس بالأمر الطبيعي [1].
يطرح باسكال هنا أسئلة عقلانية حول هذا الموقف المتهور الذي يتجاهل سؤال المصير وما بعد الموت، وما من شك أن أي إنسان تنتابه أسئلة قلقة من قبيل هذا، يكفي فقط أن تتصور حجم العذاب بعد أن تكتشف فساد موقفك وكساد عدميتك.
الإنسان له أبعاد أساسية في حياته والتي تتجلى في الجسد والعقل والروح، فهل يمكن أن نتصور إنساناً أزال دماغه من رأسه وعاش بدون عقل؟ طبعا هذا أمرٌ مضحك وغير مستساغ، كما لا يمكننا أيضا أن نتصور إنساناً يعيش بالروح دون الجسد، فهذا شبح وليس إنسانا، فإذا لم نتصور الفكرتين السابقتين وبدا لنا أنهما فاسدتان منطقاً وعقلاً، فكيف نتصور إذا إنساناً بلا روح؟!
إننا عندما نهدر الجانب الروحي لدينا نقع في اختلالات نفسية لا حصر لها، لن أمدك هنا بدراسات علمية جامدة حول Spirituality benefits [2]، فهذا الأمر واضح كالهلال لا يحتاج إلى استدلال، لكن من تذوق حلاوة الإيمان لا يمكنه أن يتركه إلى الجحود والنكران.
إن الإلحاد يضع صاحبه في وحشة مخيفة ومرعبة، فيعيش مختل الأركان يسعى إلى حياة مطلقة ومثالية يحقق فيها كل ما عجز عنه من إخفاقات وسقطات، وينسى أن الكمال لو كان من صفة الوجود لما كان للآخرة وجود ولا للعدل معنى.
هذا الصراع النفسي والوجودي الذي يخلقه الموقف الإلحادي لدى الإنسان، يجعله داخل نفق مظلم يبحث فيه صاحبه عن ثغرة أو فجوة للاطمئنان، حتى إذا ما تعذر عليه ذلك لجأ إلى الخلاص الاضطراري عن طريق إزهاق الروح وإنهاء معاناتها في الوجود.
———————–
المراجع:
[1]– Blaise Pascal, Pensées, P 24 – 67
[2]– Research on religion, spirituality, and mental health: A review. Candian journal of Psychiatry, 283.(Koenig, H.G.(2009