من الشبهات التي تثار حول الإسلام:
موقف الإسلام من المساواة بين الناس في الحقوق السياسية والدينية، وأنه لا يعطِي تلك الحقوق كاملة إلا للمسلمين؛ فهو – مثلًا – لا يسمح لغير المسلمين بتولِّي المناصب العليا في الدولة، ويشترط كون المترشح لها مسلمًا، وهو لا يسمح لغير المسلمين بإظهار شعائرهم الدينية، أو الدعوة إلى دينهم، وإن سمح لهم بحرية المعتقد،بينما الدولة القومية المدنيَّة تعطِي تلك الحقوق كاملة لجميع رعاياها، على مختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم،وهذا معناه: أن الدولة القومية الحديثة التي تقوم على مرجعية الميثاق العالمي لحقوق الإنسان خيرٌ للناس من الدولة الإسلامية التي تقوم على مرجعية الشريعة الإسلامية.
إن الجواب عن هذه الشبهة لا بد أن يتضمن إلقاء الضوء – أولًا – على الأساس الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية، والأساس الذي تقوم عليه الدولة القومية الحديثة؛ إذ هو القاعدة التي تنبني عليها الحقوق والواجبات في كلٍّ من الدولتين.
لو نظرنا إلى الدولة القومية الحديثة، لوجدنا أن أساس الاجتماع، ومعقد الولاء، والرابطة التي ينضوي تحتها جمهور الدولة القومية – هو الوطن أو الأرض (البقعة الجغرافية ذات الحدود المتعارف عليها في عصرنا الحاضر)، ولما كان الأمر كذلك، وكانت الأرض أو الوطن هو الأساس الذي تبنى عليه الدولة، صارت الدولة الحديثة تعطي الحقوق وتُلزِم بالواجبات على أساس المواطنة؛ أي: الانتماء إلى الوطن، وتحديد هذا الانتماء سبيله (جنسية الدولة)، التي يتمتع بها الشخص إذا ما وُلِد في أرض ذلك الوطن، أو هاجر إليه واستقر به إلى أن حصل على تلك الجنسية، التي تعني أنه ابنٌ من أبناء هذا الوطن، وولاؤه لأرضه وشعبه.
أما الدولة الإسلامية فأساس الاجتماع فيها ليس الأرض أو الوطن، بل العقيدة والدين، والأرض والحدود الجغرافية توابع للاجتماع القائم على الدين والعقيدة، وليسوا أساسًا لقيام الدولة في الإسلام.
فلا جرم أن نرى هذه الدولة تعطي الحقوق وتُلزِم بالواجبات تبعًا لذلك الأصل الذي قامت عليه، وهو رابطة الدين.
لقد كانت شبهةُ تمييز الإسلام بين المواطنين على أساس ديني وجيهةً لو كانت الدولة الإسلامية قائمة على أساسٍ قومي ووطنيٍّ، كحال الدولة المدنية الحديثة،لكن حال الدولة الإسلامية مباينة تمامًا لحال الدولة القومية؛ فكيف يحاكَم الإسلام إلى أصولٍ لا يُقِر بها ولا يُقيم دولتَه على أساسها؟!
إن ما يعطيه الإسلام للمسلمين في الدولة الإسلامية من حقوق ومزايا، يحرم منها غيرهم، لا يَعِيبه ألبتة، ما دام لا يناقض الأساس الذي قامت عليه الدولة الإسلامية، بل إننا نقول: إن التمييز الذي يحظى به المسلمون داخل الدولة الإسلامية هو هو نفس التمييز الذي تعطيه الدولة القومية الحديثة لمواطنيها الذين يحملون جنسيتها، وتحرم منه غيرهم من سكانها المقيمين فيها دون أن يحملوا جنسيتها.
بيان ذلك: أن الدولة القومية الحديثة – كما تقدم – تعطي الحقوق بناءً على المواطنة، ومظهرها الحصول على الجنسية، فإذا كان الشخص مقيمًا في الدولة القومية، لكنه لم يحصل على جنسيتها فإنه سيُحرَم من حقوقه السياسية؛ كالترشح للرئاسة أو لنيابة البرلمان؛ ذلك أنه ليس منتميًا للوطن، وليس يَدِين بالولاء له، فكيف يؤتمن على أن يكون ممثلًا لأبناء ذلك الوطن أو حارسًا لمصالحهم؟!
وهذا غير مستهجَن ألبتة، ولم نجد أحدًا يعيب دولةً ما بأن دستورها ينص على اشتراط أن يكون المترشح لرئاسة الدولة أو عضوية برلمانها حاملًا لجنسيتها، بل هذا منطقي جدًّا؛ إذ لا نأمن أن ذلك الرجل المقيم في الدولة وليس حاملًا لجنسيتها يَدِين بالولاء والطاعة للدولة التي وُلد فيها ويحمل جنسيتها، وقد يكون بين دولته الأم والدولة التي يقيم فيها عداوةٌ؛ فكيف نأمن – إذا صار حاكمًا أو مسؤولًا كبيرًا – أن يكون ولاؤه لدولته الأم، دون الدولة التي كل رابطته بها أن يقيم فيها، ولا يحمل جنسيتها؟!
هذا تعليل الدولة القومية لحصرها الحقوق السياسية على مواطنيها فحسب دون غيرهم من المقيمين فيها ولا يحملون جنسيتها.
والأمر نفسه في الإسلام، تقوم الدولة الإسلامية على أساس العقيدة، لا الأرض والتراب الوطني، فتشترط لحاكمها ولأصحاب المناصب العليا فيها أن يكونوا منتمين إلى الرابطة التي قامت عليها الدولة (الإسلام)؛ لأن الدولة الإسلامية تأخذ على عاتقها القيامَ بمصالح دينية وأخروية، لا يحرص عليها ولا يقتنع بجدواها ابتداءً إلا مَن كان منتميًا للرابطة العقَدية التي قامت الدولة الإسلامية على أساسها.
فإذا كنتم تَعيبون على الإسلام أنه يحرِم غير المسلمين، من الذين يعيشون في كنف الدولة الإسلامية، من الوصول إلى منصب الرئاسة ونحوه، فكذلك عِيبوا على الدولة القومية الحديثة أنها لا تمنح ذلك الحق إلا لحاملي جنسيتها فقط، دون سائر المقيمين على أراضيها،وإذا كان حرمان غير مواطني الدولة من تلك الحقوق ليس يَعِيب الدولة القومية، فكذلك حرمان غير المسلمين منها لا يَعِيب الدولة الإسلامية.
فإن قيل: فما ذنب غير المسلمين الذين وُلدوا في الدولة الإسلامية وحُرموا من تلك الحقوق السياسية؟!
قلنا: لا ذنب لهم إلا كذنب أولئك الأشخاص الذين يقيمون في دولةٍ ما، ولا يسعون للحصول على جنسيتها، ويتمسكون بجنسية دولتهم الأولى، ومع ذلك يتضجرون، ويقولون: لماذا لا تعطينا الدولة التي نقيم فيها نفسَ الحقوق السياسية التي تمنحها لمواطنها الأصليين، وإن كنا لا نحمل جنسيتها؟!
إن الإسلام فتح الباب أمام الجميع لكي يحصلوا على حقوقهم السياسية كاملة، وهو: حصولهم على الجنسية المعتبرة عنده (ألا وهي الإسلام)، فإذا أصبح الشخص مسلمًا صار له نفس الحقوق السياسية التي يتمتع بها المسلمون الأصليون، غير منقوصة،فإذا أبى وآثر البقاء على دينه الذي ورثه عن آبائه أو رضيه لنفسه، فهو وما يشاء، لكن ليس له المطالبة بالمساواة مع المسلمين في الحقوق السياسية؛ لأنه رافضٌ لإبداء الولاء للرابطة التي يقوم على أساسها الاجتماع في الدولة الإسلامية.
وهذا عين العدل، ولا ظلم فيه، إلا إذا قلنا بظلم الدولة الحديثة في منعها غيرَ مواطنيها من الحقوق السياسية، وهذا لا يقول به أحدٌ من أنصار فكرة الدولة القومية الحديثة.
فإذا كانت (الجنسية) هي كلمة السر في الدولة القومية، فـ: (العقيدة) هي كلمة السر في الدولة الإسلامية، ولا فرق!
فإذا قيل: إن كان هذا مسلَّمًا به فيما يتعلق بالحقوق السياسية، فليس الأمر كذلك في الحقوق الدينية؛ إذ تعطي الدولةُ القومية الحديثة الحق لجميع مواطنيها والمقيمين فيها، بأداء شعائرهم والاستعلان بها، وبناء دور العبادة فيها، بلا تفرقة على أساس الدِّين أو اللون أو العِرق.
قلنا: إن الإسلام – أيضًا – لا يفرِّق بين الناس بسبب أعراقهم أو ألوانهم أو لغاتهم، اللهم إلا في مسألة الدِّين، وإن السبب الداعي لعدم التفات الدولة القومية الحديثة لعامل الدين في توزيع الحقوق السياسية إنما يرجع لكون أساس اجتماعها كان على الأرض والوطن، وكان مَن حقَّق الانتماء إلى ذلك الوطن وتلك الأرض قد جاء بالولاء المطلوب منه تجاه الدولة، الذي يضمن إخلاصَه لها، ويترتب عليه حصوله على حقوقه السياسية؛ فصار الدِّين بذلك شيئًا ثانويًّا لا معنى لاعتباره عاملًا مفصليًّا في توزيع الحقوق، كما أنه لا معنى لاعتبار اللون أو العرق.
وإذا صار الدِّين بهذه الصفة من الثانوية في مفهوم الدولة الحديثة لم يكن ليترتَّبَ عليه أية اعتباراتٍ، إيجابًا أو سلبًا، فما المانع – والحال هذه – أن تعطي الدولة الحديثة حرية ممارسة الشعائر الدينية والدعوة لأي دين من الأديان على أرضها، وتكفل ذلك لمواطنيها والمقيمين فيها؟! ما الذي يضيرها في ذلك، والدين شيء هامشي في مفهومها؟! لا ضير ولا خطر على أمنها القومي بسبب تلك الحرية، كما أنه لا ضيرَ ولا خطر على أمنها القومي بسبب حرية المواطنين والمقيمين في الملبس والمأكل، ونحو ذلك من الحريات.
من هنا كان صدر الدولة القومية الحديثة واسعًا في باب الحريات الدينية، ولو من قبيل التنظير على الأقل.
أما في الدولة الإسلامية فالأمر مختلف تمامًا، ليس الدين شيئًا هامشيًّا في مفهوم تلك الدولة، بل هو أساس بنائها وقيامها، وهو جوهر اجتماع المنتمين إليها؛فالمطالبة بالتساوي بين المسلمين وغيرهم في الاستعلان بشعائر دينهم وإظهارها والدعوة إليه بمثابة تقويض وتهديد لـ(لأمن القومي) في المصطلح المعاصر، ولا فرق بين أن نطالب الدولة الإسلامية بأن تترك الحرية لأصحاب الديانات الأخرى في الدعوة إليها والاستعلان بها، وبين أن نطالب دولة قومية ما بأن تسمح بحرية الدعوات التي تنادي بحلها وتفكيكها وتقسيمها.
وإذا كان الثاني غير سائغ ولا معقول؛ لكونه مخالفًا للدستور الذي تقوم عليه الدولة القطرية المعاصرة، ومفككًا للرابطة التي بُنِيَ عليها اجتماع الناس فيها، فكذلك الأول غير سائغ ولا معقول؛ لأنه يخالف الشريعة التي هي دستور الدولة الإسلامية، ويفكك ويقوض الرابطة التي تقوم عليها هذه الدولة (العقيدة).