الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن حصول الألفة بين العبد والمسجد دليل جليٌّ ظاهر واضح على صدق إيمان العبد وإخلاصه لربه وخالقه جل وعلا، ولا ريب أن تعلُّق القلوب بالمساجد فيه الرفعة والمنزلة والمكانة العالية في الدنيا والآخرة، فكيف لا يكون كذلك، وهي بيوت الأنقياء الأتقياء الأصفياء وجنان العابدين؛ حيث جاء الخبر الصحيح الصريح أن من السبعة الذين يُظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظِلهُ: رجلٌ قلبه معلق بالمساجد؛ قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «سَبْعَةٌ يُظِلهُمُ اللهُ في ظِلهِ يَومَ لا ظِل إلَا ظِلهُ… ومنهم رجُل قَلبُه مُعَلق في المساجدِ»؛ «أخرجه البخاري (٦٦٠)، ومسلم (١٠٣١)».
ولقد حاز العبد هذا الشرف العظيم يوم القيامة، لكونه شديد الحب والتعلق ببيوت الله جل وعلا، وقلبه يألفها لتردُّده عليها، ولملازمته ومحافظته على صلاة الجماعة فيها، وإن العبد إذا اعتاد الذهاب إلى المساجد، وجعل المسجد كالوطن له يألُفُه ويقيم به ويرتاح إليه، كان فعله هذا سببًا يفرح الله تعالى به، ويفيض عليه بكرمه وبرِّه ورحمته وجوده عليه، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُوطنُ الرجُلُ المسجِدَ للصلاةِ أو لذِكْرِ اللهِ، إلا تَبَشْبَشَ اللهُ به كما يَتَبَشْبَشُ أهلُ الغائبِ إذا قدِم عليهم غائبُهم»؛ شعيب الأرنؤوط، تخريج صحيح ابن حبان ١٦٠٧؛ إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما توطنَ رجلٌ مسلمٌ المساجدَ للصلاةِ والذكرِ، إلا تبشبشَ اللهُ لَهُ كما يتبشبشُ أَهلُ الغائبِ بغائبِهم إذا قدمَ عليهم»؛ الألباني، صحيح ابن ماجه ٦٥٩، أخرجه ابن ماجه (٨٠٠) واللفظ له، وأحمد (٨٣٥٠).
وإنه لمن المعلوم أن المساجد بيوت اللهِ تعالى في الأرض، وفيها تُقامُ الصلواتُ والجَماعاتُ، وللمكوث فيها والتعلق بها فَضْلٌ عظيمٌ وأجْرٌ كبيرٌ، ويدل هذا الحديث كذلك على بيان بعض الفضائل لعُمَّارِ المساجد، وإكرام الله جل وعلا لهم، لكونهم وطَّنوا أنفسهم للصلاة في بيوت الله جل وعلا.
ومعنى «ما توطنَ رجُلٌ مُسلِمٌ المسجِدَ للصلاةِ والذكرِ»؛ أي: اعتاد الذهاب والمشي إلى المساجد التي هي بيوت الله جل وعلا في الأرض، وجعل المسجد كالوطن والمسكن له يألُفُه قلبه وتألُفُه نفسه، بحيث يجلس فيه، ويرتاح ويطمئن إليه.
ومعنى: «إلا تَبَشْبَشَ اللهُ له مِن حينِ يخرُجُ مِن بيتِه»؛ أي: فرِح الله جل وعلا به، وأقبَل عليه وتلقَّاه بكرمه وبره وإحسانه، والبشبشة في حق الله جل وعلا صفة فعلية ثابتة لله جل وعلا، وهي من أنواع الفرح، وهو وصف كمال لا نقص فيه، والتبشبش من الله سبحانه وتعالى معناه إظهار الأفعال المرضية للعبد وتلقِّيه ببره وتقريبه وإكرامه، وتوفيقه للطاعة، ويَغمُره سبحانه بالرأفة والرحمة، وهذا كسائر ما وصف الله تعالى به من أوصاف ذاته العليَّة، وفعله سبحانه مما يقع مُشتَرَكًا بينه وبين خلْقه، فيكون له منه معناه الذي يَصِح في وصفه، ويليق بحكمه من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل بالمخلوقين؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لفظ البشبشة جاء أيضًا أنه يتبشبش للداخل إلى المسجد؛ كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدِم، وجاء في الكتاب والسنة ما يُلائم ذلك ويُناسبه شيءٌ كثير، فيُقال لمن نفى ذلك: لم نفيتَه؟ ولم نفيتَ هذا المعنى؛ وهو وصف كمال لا نقص فيه؟ ومن يتصف به أكمل ممن لا يتصف به؟ وإنما النقص فيه أن يحتاج فيه إلى غيره، والله تعالى لا يحتاج إلى أحد في شيء، بل هو فعَّال لما يُريد)؛ (النبوات، ص163).
ومعنى:لا «كما يَتَبَشْبَشُ أهْلُ الغائبِ بغائبِهم إذا قدِمَ عليهم»؛ أي: المسرة والفرح به والإقبال عليه إذا رجع من سفره، وقدِم إلى أهله، فإنهم يستقبلونه أحسنَ وأفضل استقبال، ويفرحون به أيَّما فرحٍ وانبساط، ويُعدون ويصنعون الولائم بأصنافها وأشكالها المتعددة إكرامًا لغائبهم إذا رجع إليهم.
ويشير الحديث إلى معنى مهم وهو الترغيب في إتيان المساجد، وإقامة شعيرة من أعظم شعائر الإسلام في بيوت الله جل وعلا، والقيام بأنواع الطاعات والقربات ابتغاءً وقربةً لمرضاة رب البريات، وطمعًا بالجنات، وخوفًا من العقوبات، فهنيئًا ثم هنيئًا لمن يوفَّق إلى ارتياد بيوت الله جل وعلا، ويَحبس نفسه على ذلك، وهو علامة حب وقَبول من الخالق والمعبود جل وعلا لعبده المقبل عليه، فإنه سبحانه وتعالى يوفِّق من أحبه لطاعته والقرب منه، والوقوف والتذلل والخضوع بين يديه جل وعلا.
هذا ما تيسَّر إيرادُه، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من خاصته وأوليائه، ونسأله سبحانه أن ينفع به، وأن يكون من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعله لوجهه الكريم خالصًا، والحمد لله رب العالمين.