فالرسول عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة يوشع بن نون، قال: «غزا نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فقال: لا يتبعني أحد ثلاثة نفر: لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولما يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا يتبعني رجل له خلفات ينتظر نتاجها» ، أي إنسان من هؤلاء أنا في غنى عنه: رجل تزوج ولم يبن -أي: لم يدخل بالمرأة- فهذا يجلس بجانبها.. لماذا؟ لأن الرجل يتمنى أن يتزوج، و«يعيش في ثبات ونبات ويخلف صبيان وبنات»، فهذا أول ما يرى بارقة السيف تلمع يفر كالجبان.. هذا لا ينفع. «ورجل بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها»، رفع الجدران وما زال السقف والدور الثالث والرابع والخامس، هذا الرجل يتمنى أن يرجع ليتمم ما بنى، فهذا يقعد.
«ورجل له خلفات ينتظر نتاجها» له غنم، وهو ينتظر الغنم تلد، فبدل أن يكون لديه رأس غنم واحد يكون عنده رأسان وثلاثة وأربعة ويمني نفسه بالغنى.
وهذا يذكرني بالرجل الفقير الذي كان له «قلة» سمن، وهذا الفقير كان في كل سبت يذهب ليبيع قلة السمن هذه ويشتري بطتين، ثم يبيعها ويشتري وزتين، فيوم من الأيام رأى بطاً ووزاً، فقال: هذا البط سأبيعه وآتي بشياه، ثم أبيع الشياة وأتي بخرفان، ثم أبيع الخرفان وآتي ببقر وجواميس، وبذلك سأصير غنياً جداً، وأبني قصراً منيفاً، وأتزوج أجمل امرأة في البلد، وأخلف من هذه المرأة ولداً جميلاً أربيه وأؤدبه.. وهذا الرجل كان يمشي على عكاز، انظر إلى هذه الأحلام كلها! وهو يمشي على عكاز ويحمل القلة، وهو ذاهب إلى السوق ليبيعها ويرجع، وهو مستغرق في أحلامه: وهذا الولد لابد أن أحسن تربيته -وهو في ذلك الوقت كان قاعداً والعكاز بجانب السرير- وأنا لا أحب الحال المشين ولا الكلام الفارغ، لابد أن أجعله ولداً جيداً، فإذا قال لي: لا؛ سأضربه هكذا.. فضرب على القلة فكسرها.. وانتهت أحلامه!.
فهذا رجل له خلفات ينتظر نتاجها ويقول: إن شاء الله تلد وسوف نبني ونترك ونفعل… فالقلب هو الذي يعطي قوة الجارحة، فإذا أدبر القلب سحب تأييده للجارحة، وإذا أقبل أعطاها القوة، فلما يكون الإنسان يتمنى أن يرجع فهل يريد أن يموت؟ !! ولذلك أحسن هذا النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم- غاية الإحسان حينما استثنى هؤلاء، فخرج بالجيش وكان ذاهباً إلى حرب العماليق، وليس الجبناء هؤلاء.
فيوشع بن نون عليه السلام أخذ جنوده، وكان ذاهباً لمحاربة العماليق، ويذكرون في الإسرائيليات أن العماليق هؤلاء الواحد منهم كان طويلاً جداً، وكانت خلقتهم عظيمة. يقولون: من ضمن الحكايات أن واحداً من جيش يوشع بن نون ذهب إلى بستان حتى يتجسس على العماليق ويأتي بأخبارهم، مع العلم أن هذا الجندي ربما كان طوله كطولي مرتين -فالخلق ما زال يتناقص إلى يوم القيامة- فجاء أحد العماليق ودخل البستان فوجده مختبئاً في جذع شجرة، فأخذه ووضعه في كمه -الرواية تقول هكذا- وذهب به للأمير وقال له: وجدت هذا.
فتخيل جماعة هذه صفتهم وذاهبون لمحاربة عماليق! أنا أقول هذا الكلام لتعرف أن الجبان لا ينتفع بالقنبلة في يده، الجبان يسلم لك مباشرة لو أنك أجرأ منه قلباً، فالرءوس الذرية التي يتحدثون عنها والتي يمكن لها أن تحرق الشرق الأوسط كله من أوله إلى آخره.. لا تهب قوتها ولا تخف منها؛ لأن الله عز وجل ناصرك، ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ﴾ [المائدة:52].
فخرج يوشع بن نون عليه السلام هو والجيش صباح يوم الجمعة -كما في مستدرك الحاكم- وظلوا يقاتلون العماليق قتالاً عنيفاً إلى أن غربت الشمس ولم يفتح لهم، حينئذ قال يوشع عليه السلام للشمس: «إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم ردها علينا» فرجعت الشمس كما كانت، فظل يقاتل حتى فتح له، وغلب وانتصر.. لماذا؟ لأن معه رجالاً، والأزمة الموجودة في أمتنا الآن: أزمة رجال، وليست أزمة موارد ولا أزمة سلاح ولا أزمة خطط، وإنما أزمة رجال فقط.
فلما جمعوا الغنائم كانت العادة أن النار تنزل من السماء فتحرق الغنائم، فهذا يدل على أن الله تقبل غزوهم، فلما نزلت النار لتأكل الغنائم لم تطعمها وارتفعت مرة ثانية، فمباشرة يوشع عليه السلام قال: «فيكم غلول»، هناك لص في الجيش سرق شيئاً وغل مالاً، فمن يعترف؟ لم يعترف أحد.. إذاً: «فليبايعني من كل قبيلة رجل أو رجلان»، وكان من علامة «الغال» آنذاك أن تلتصق يده بيد النبي، فالتصقت يد رجل أو رجلين بيده فقال: فيكم الغلول؛ فأخرجوا من رحالهم مثل رأس البقرة من ذهب، فلما أرجعوه نزلت النار من السماء فأحرقت الغنائم.
هذه القصة عقب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: «فلما رأى الله عجزنا وضعفنا أباحها لنا» التي هي الغنائم «لما رأى عجزنا وضعفنا أباحها لنا» مع الحديث الآخر: «إن الغنائم لم تحل لسود الرءوس غيركم» إذاً نحن الأمة الوحيدة المتفردة بحل الغنائم، فنكون قد ضيعنا على أنفسنا خيراً كثيراً على المستوى الاقتصادي بضياع كل هذه الغنائم.
الغنائم أباحها الله لنا بعد قصة مطاردة أبي سفيان لما هرب بالعير، والرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يأخذ عير قريش جزاءً وفاقاً، أيأخذون أموال الصحابة، ويحرمونهم من مالهم ونتركهم؟ ! لا، فعلى الأقل نأخذ هذه العير في مقابل ما أخذوه من مال. فلما هرب بالمال عوضهم الله عز وجل خيراً من هذه الصفقة برافد إلى يوم القيامة، والتي هي الغنائم، تطبيقاً لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه» ، فالشيء الذي نتركه لله محضاً وخالصاً يعوضنا الله خيراً منه فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ونحن نقرأ في هذه الآية: ﴿فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ﴾ أننا نغلب وننتصر، ونظهر عليهم، ونستبيح بيضتهم، وفي ذلك شفاء لصدور المؤمنين.
إذاً السلاح الماضي لنا هو العبودية.. ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء:5].
بختنصر الذي ظهر على اليهود أول مرة، دخل مرة على البلد فوجد أن هناك دماً يفور على كومة من القمامة، فقال: ما هذا؟ قالوا له: وفق عقيدة ورثناها عن آبائنا فإن هذا الدم سيظل يفور حتى نرويه من دم أعدائنا، هل تعلم أنه لكي يطفئ هذا الدم -كما تقول الروايات- قتل سبعين ألف يهودي وصب دمهم على هذا الدم، قالوا: حتى إنه لم يبق أحد يقرأ التوراة، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [الأعراف:167] فإذاً لا يعذبهم بعباده المؤمنين فقط، بل بكل الناس.
حتى هتلر النازي كان يشويهم في الأفران شيّاً، وقد ذكرت قبلاً أنهم طلبوا من الرئيس الأمريكي أن يعتذر عما فعل هتلر.. لماذا؟ لأنهم لم ينسوا ضحاياهم، وهم يتحركون بهذه العقيدة، فهل نحن نتحرك بهذه العقيدة، نحن نسينا أن اليهود أعداؤنا، ونسينا أن النصارى أعداؤنا، ونسينا أن المجوس أعداؤنا… كل هذا لأن الجذوة التي تتقد منها عقيدة الولاء والبراء ذهبت، وهذه الجذوة هي الإيمان بالله عز وجل، ونحن على يقين أننا سننتصر؛ إذا فعلنا ما أمرنا به من تحقيق العبودية لله عز وجل قال تعالى: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد:7]..
نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.