الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فإن الفتية أصحاب الكهف يظهر مِن قولهم وحالهم عظيم تضحيتهم وبذلهم لأجل دين الله -عز وجل-، فهم أبناء ملوك ورؤساء، ومع ذلك لما حالت الدنيا الناعمة من القصور والدثور بينهم وبين قضية عقيدتهم، تركوا ذلك كله لله -عز وجل-، واستعذبوا حياة الكهف الخشنة، لكنها أسعد حياة؛ لأن الحياة الحقيقية هي حياة الأرواح والقلوب؛ فالأرواح والقلوب تحيا بالوحي المنزل من الله -عز وجل-، وأما الأبدان فإنها ربما تتألم قليلًا لخشونة عيش أو شدة محنة، ونحو ذلك، لكن الأرواح والقلوب مروحة منعمة بالوحي الذى يهون على الأبدان ما تلاقيه، وموقف الفتية هذا، كان له الأثر العظيم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الاقتداء بهم في بذلهم وتضحيتهم؛ فهذا مصعب بن عمير -رضي الله عنه وأرضاه- أزهى وأرقى وأرفه شباب مكة، لما حال الغِنَى والنعيم الدنيوي بينه وبين دينه، ترك ذلك كله لله -عز وجل-. ولما راوده أهله على المال والدنيا اختار ما عند الله وهاجر، وكان أول سفير في الإسلام يفتح الله -عز وجل- به المدينة. ولقد مر مصعب -رضي الله عنه- يومًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بين نفرٍ مِن أصحابه، وقد تخشف جلده، وبلي ثوبه، فلم يكن له إلا بردة واحدة وثوب واحد، وهو الذي كان في مكة من أزهى شبابها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: “ما رأيت بمكة أحدًا أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير” (رواه بن سعد في الطبقات). ومات مصعب -رضي الله عنه- يوم مات فلم يجدوا له كفنًا يسترونه به، يقول الصحابة -رضي الله عنهم-: “… فَكُنَّا إذا غَطَّيْنا بها رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ، وإذا غَطَّيْنا رِجْلَيْهِ بَدا رَأْسُهُ، فأمَرَنا رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، ونَجْعَلَ علَى رِجْلَيْهِ، شيئًا مِن إذْخِرٍ” (رواه البخاري). لقد ترك مصعب -رضي الله عنه وأرضاه- اللمعان الدنيوي؛ ترك المال، ترك الغنى لما حال بينه وبين قضية عقيدته، وهكذا أصحاب العقيدة يضحون ويبذلون لأجل قضيتهم. كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يعبِّر عن ذلك من أن نعيم الروح والقلب مع وحي الله القرآن والسنة، هو الحياة الحقيقية، فيقول في سجنه: “ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتِي وبستاني في صدري، أين رحتُ فهي معي لا تفارِقُني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة”. ويوم أدخل السجن وأغلقوا عليه الباب، نظر إلى الباب، وتلا قوله -تعالى-: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد:13). وكذلك فإن أصحاب العقيدة يضحون ولا ينظرون إلى تضحياتهم، مثلهم -إن صح التعبير- كمثل الذي ينطلق يريد هدفًا؛ فسقط أثناء انطلاقه من جيبه قرش صاغ، فهل يلتفت إليه كل العقلاء؟! لا يلتفتون؛ لأنه لا قيمة له، كذلك أصحاب العقيدة. لا كما هو حال بعض الناس التائبين حديثًا؛ لا سيما من المشاهير كالممثلين، ولاعبي الكرة، ونحو ذلك، فإن للشيطان على كثيرٍ من هؤلاء مدخلًا، وهو الشهرة، فإذا تركوا هذا المجال؛ ترى كثيرًا منهم يمن على الله وعلى الناس بذلك، ويرى أنه ضحى لأجل ذلك بالمجد والشهرة -كما يقولون!-. ولذلك تراه يبحث عن الشهرة في مجال الدِّين والتدين! وسرعان ما يسقط وينقلب ويعود إلى ما كان عليه في السابق -والعياذ بالله-، والتجارب أمام أعيننا كثيرة؛ ولذلك نوصي إخواننا وشبابنا بعدم تسليط الأضواء على أمثال هؤلاء؛ لاسيما في وسائل التواصل ونحوها؛ مما يكون سببًا في هلاك كثيرٍ منهم، نسأل الله العفو والعافية. وللحديث بقية في وقفاتٍ مقبلةٍ -إن شاء الله-. |