في فصل الشتاء تتكرر بعض الأحكام المتعلقة بالصلاة نجملها في الآتي:
أولاً: الجمع بين الصلاتين: وفيه مسائل:
الأولى: مشروعية الجمع بين الصلاتين: أخرج مسلم في صحيحه، عن ابن عباس أنه قال: (صلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا مطر).
وأخرج مسلم في صحيحه -أيضاً-، عن عبدالله بن شقيق، قال خطبنا ابن عباس بالبصرة يوماً بعد العصر حتى غرَبت الشمس، وبدت النجوم، وجعلَ الناسُ يقولون: الصلاة! الصلاة! قال فجاءه رجل من بني تميم لا يَفتُر ولا يَنثني: الصلاة! الصلاة! فقال ابن عباس: أتعلمُني السنة، لا أم لك!? ثم قال: رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء).
قال عبدالله بن شَقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء! فأتيت أبا هريرة، فسألته، فصدق مقالته.
المسألة الثانية: وجه الدِّلالة: قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: (فقول ابن عباس: جمع من غير كذا ولا كذا، ليس نفياً منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثباتٌ منه، لأنه جمع بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضاً، ولو لم يُنقل أنه جمع بها فجمعُه بما هو دُونَها دليلٌ على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل على الجمع للخوف والمطر، وقد جمع بعرفة ومزدَلِفة من غير خوف ولا مطر). وقال: (وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى، فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا جَمَع ليرفع الحرجَ الحاصلَ بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرجُ الحاصلُ بهذه أولى أن يُرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها).
وقال ابن حجر في فتح الباري، والنووي في شرح مسلم: (وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك، وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي، وعن أبي إسحاق المروزي، عن جماعة من أصحاب الحديث، واختاره ابن المنذر).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة مُعلقاً على حديثِ عبدِاللهِ بن شقيق عن ابن عباس: (فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على فعله، فعُلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن؛ كان ابن عباس في أمر مهم من أمور المسلمين؛ يخطبُهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى: أنه إنْ قطعه ونَزل فاتت مصلحتُه، فكان ذلك عِندَه من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بالمدينه لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تَعرِضُ له؛ كما قال: (أراد أن لا يُحرج أُمّته). إلخ. وقال أيضا –رحمه الله-: (وإنما شُرع الجمعُ لئلا يُحْرَجَ المسلمون).
المسألة الثالثة: اختلاف الفقهاء: قال الخطابي في (معالم السنن): (وقد اختلف الناس في جواز الجمع بين الصلاتين للمطر في الحضر، فأجازه جماعة من السلف، رُوي ذلك عن ابن عمر، وفعَلَه عُروة وابن المسيِّب، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عبدالرحمن، وأبو سلمة، وعامة فقهاء المدينة، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ وأحمد).
وقال ابن كثير في (المسائل الفقهية) مبيناً:
(وقال الشافعي بجواز الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعذر المطر في الجماعة لحديث ابن عباس.
وقال مالك وأحمد: يجوز ذلك في المغرب والعشاء، ولا يجوز في الظهر والعصر.
وأبو حنيفة أشد منعاً لهذا وهذا مطلقاً).
المسألة الرابعة: الجمع بين الظهر والعصر:
فإن بعض أهل العلم يُرون الجمع بين المغرب والعشاء، ويمنعونه بين الظهر والعصر! مع أن حديثَ ابن عباسٍ الذي استدلوا به أصلا على مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء، وهو نفسُه الذي فيه –أيضاً- دليلُ مشروعيةِ الجمعِ بين الظهر والعصر على حد سواء!
المسألة الخامسة: صفة الجمع: اختلف أهل العلم في صفة الجمع، فمنهم من حمله على الجمع الحقيقي، بتقديم إحدى الصلاتين إلى وقت الأُخرى، أو تأخيرها، ومنهم من حمله على الجمع الصوري بتأخير الصلاة الأولى إلى آخر وقتها مع تعجيل الصلاة الثانية في أول وقتها.
وينبغي قبل الوقوف على الصواب في ذلك التأكيد على نقطتين في هذه المسألة:
الأولى: أن الجمعَ رخصة، والرخصة عند الأصوليين هي: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر.
الثانية: أنّ هذه الرخصة منوطة بدفع الحرج والمشقة.
وعليه فأقول:
قال الحافظ العراقي: (إن الجمع رخصة، فلو كان ما ذكروه [من الجمع الصوري] لكان أشدَّ ضِيْقاً وأعظمَ حرجاً من الإتيان بكل صلاة في وقتها). ووصف النوويُّ الجمع الصوري في (شرح مسلم) بأنه: (احتمال ضعيف أو باطل، لأنه مُخِالف للظاهر مخالفةً لا تُحتمل).
المسألة السادسة: النية في الجمع: لا تُشترط النية في الصلاة الأولى لأنها على حالها وفي وقتها، ولم يطرأ عليها شيء، إنما الصلاة الثانية هي التي ستقدّم إلى وقت الأولى، فيشترط إيقاع النية عندها. هذا في جمع التقديم، وعند جمع التأخير يكون العكس. قال شيخ الإسلام: (ولم يَنْقل قطٌ أحدٌ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه أمر أصحابه لا بنية القصر ولا نيةِ جمع، ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك مَن يصلي خلفهم، مع أن المأمومين أو أكثرهم لا يعرفون ما يفعله الإمام).
المسألة السابعة: القربُ والبعد من المسجد: ذكر بعض الفقهاء مَنعُ مَن كان قريباً مِن المسجد من الجمع بين الصلاتين، وأجازوا ذلك فقط للبعيد منه!
وفي (البيان والتحصيل) لابن رشد: «أن الإمام مالكاً سُئل عن القوم، يكون بعضهم قريبَ المنزل من المسجد، إذا خرج منه دخل إلى المسجد من ساعته، وإذا خرج من المسجد إلى منزله مثل ذلك، ومنهم البعيدُ المنزل عن المسجد، أترى يجمعوا بين الصلاتين كلُّهم في المطر؟ فقال: ما رأيتُ الناس إذا جمعوا إلا القريبَ والبعيدَ، فهم سواء يجمعون، قيل: ماذا؟ فقال: إذا جمعوا؛ جمع القريبُ منهم والبعيدُ».
قال ابن رشد متعقّباً عليه: «وهذا كما قال، لأن الجمع إذا جاز من أجل المشقة التي تَدخلُ على مَن بَعُدَ، دخل معهم مَن قَرُبَ، إذ لا يصحّ لهم أن ينفردوا دونهم، فيصلوا كل صلاة في وقتها جماعةً، لما في ذلك من تفريق الجماعة، ولا أن يتركوا الصلاة في جماعة». وهذا اختيار الإمام الشافعي.
المسألة الثامنة: أحكام المسبوق عند الجمع: إذا أدرك المسبوق بعد صلاته الصلاة الأولى جزءً من الصلاة المجموعة مع الإمام جاز له إكمال الجمع؛ بدليل عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). فإن لم يُدرك شيئاً من الصلاة المجموعة لم يَجُز له الجمع.
وهناك أربع صور لِما سبق:
الأولى: من جاء أثناء صلاة الظهر –عند الجمع بين الظهر والعصر- له أن يُتم صلاته، ثم يلحق بصلاة العصر.
ومثل ذلك من جاء أثناء صلاة المغرب عند الجمع بين المغرب والعشاء.
الثانية: من جاء عَقِب انتهاء صلاة الظهر يدخل مع مُصلي العصر بنية الظهر، والجمع يكون فاته لأنه لم يدرك شيئاً من الصلاة الأولى.
الثالثة: من جاء في أول الصلاة العشاء ولم يُصل المغرب ماذا يفعل؟
يقتدي بالإمام الذي يصلي العِشاء وينوي هو صلاةَ المغرب، فإذا قام الإمام إلى الركعة الرابعة نوى هذا المأموم المفارقة بينه وبين الإمام، ثم يجلس ويتشهد ويتم صلاتَه لوحده.
وله أن يقوم بعد فراغه من الصلاة الأولى ليلحق الإمامَ بجزء من صلاة العشاء المجموعة، ثم يُتم ما فاته، كالوضع الطبيعي المعتاد.
الرابعة: من جاء بعد انتهاء الركعة الأولى فما فوق من صلاة العشاء وهي المجموعة، لا يجوز له الجمع، لأنه لم يدرك إلا ما يسعَ الصلاة الأولى، وأما الصلاة المجموعة فلم يدرك منها شيئاً.
المسألة التاسعة: الجمع في غير المسجد: على قسمين: الأول: البيت والمصلى: لا يجمع أحد في بيته أو في مصلى مُلحقٍ بعمله أو مدرسته.
القسم الثاني: المنفرد والجماعة: فيه نوعين مِن الجمع:
الأول: إما لعذر المطر والبرد ونحوهما فلا يجوز إلا في جماعة؛ لكونه عذراً عاماً.
أما الثاني: العذر الشخصي؛ كالمرض والأذى والحرج الخاص ونحو ذلك؛ فإنه يجوز لكونه متعلقاً بالمشقة التي تلحق المصلي الفرد ومقدارها. والضابط في هذا العذر أن الإنسان حسيب نفسه؛ كما قال تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره}.
المسألة العاشرة: الجمع بعد الجماعة الأولى: جمهور العلماء على المنع.
المسألة الحادية عشر: صلاة السنن عند الجمع: تُصلى السنن عِقِبَ الجمع، ولا حرج على من صلى السنن مع الوتر عَقِب صلاتي المغرب والعشاء، حتى ولو لم يدخل الوقت الحقيقي للصلاة الثانية المجموعة.
المسألة الثانية عشرة: كيفية الأذان والإقامة عند الجمع؟! ذهب جمهور العلماء أنه يؤذن أذان واحد ويُقام لكل صلاة إقامةٌ خاصة بها. وهذا هو الراجح.
ثانيا: صلاة الاستسقاء:
«الاستسقاء لغة: طلبُ السقيا.
وشرعاً: طلب السقيا من الله –تعالى- عند حصول الجذب بالثناء عليه والفزع إليه بالاستغفار والصلاة.
وسبب الجذب والقحط ارتكاب المخالفات، كما أن الطاعة سبب البركات، قال –تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}، وقال –تعالى-: {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً}. فمما تقدم تعلم أن الجذب وقلة الأمطار وعدم نزول الغيث الذي به حياة كل شيء كارثة من الكوارث، ومن عظمى المصائب، وسببه التجرؤ على الله –تعالى- بارتكاب المخالفات، فلا يكشفها إلا العالِم بأحوال عباده الرحيمُ بهم. ولهذا وجب اللجوء إليه، والوقوف بين يديه، والتضرعُ والتذلُّلُ له، وطلب الغوثِ منه، ليكشف عنهم ما حلّ بهم».
«فالإكثار من الاستغفار والتوبة سببٌ لنزول المطر، والزيادة من القوة؛ قال –تعالى: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مداراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً}، أي: إذا تُبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموهُ كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنبن وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وتتخللها الأنهار الجارية».
روى البخاري عن عبدالله بن زيد قال: «خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى فاستسقى، واستقبل القِبلة، وقلب رداءَه وصلى ركعتين».
قال النووي: «أجمع العلماء على أن الاستسقاء سنة».
وقال: «فيه استحباب الخروج للاستسقاء إلى الصحراء، لأنه أبلغ في الافتقار والتواضع، ولأنها أوسع على الناس».
وعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: شكا الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُحوط المطر، فأمر بمنبر فوُضِع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بدا حاجِبُ الشمس، فقعد على المنبر، فكبر، وحمد الله -عز وجل-، ثم قال: «إنكم شكوتُم جَدبَ ديارِكم، واستئخارَ المطر عن إبَّانِ زمانه عنكم، وقد أمرَكُم الله –عز وجل- أن تدعُوه، ووعدكَم أن يستجيب لكم»، ثم قال: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين}، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أَنْزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين»، ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع، حتى بدا بياض إِبْطيه. ثم حَوَّلَ إلى الناس ظهره، وقلب –أو حَوَّل- رداءَه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونَزَل، فصلى ركعتين، فأنشأ اللهُ سحابة فَرَعَدَتْ وبَرَقَتْ، ثم أَمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سُرعتهم، إلى الكِنِّ [أي: ما يسترهم من المطر]، ضحك –صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبدُ الله، ورسوله }».
– وصلاة الاستسقاء يُجهر بها.
– والخطبة فيها واحدة.
– وهي ركعتان كصلاة العيد.
– وتعيين سورة فيها لم يصح.
– والجمهور على أن تحويل الرداء يكون للناس –أيضاً- كما هو للإمام، ويكون في أثناء الخُطبة عند استقبال القِبلة وإرادة الدعاء.
والسُّنة في التحويل (جعلُ ما على الأيمن على الأيسر وعكسه).
وليس لها وقت معين يُخرج فيه، ولكنها لا تُفعل في أوقات النهي.
ثالثاً: صلاة الجمعة:
1- بوب البخاري في «صحيحه» (كتاب الجمعة): «الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر».
ثم روى حديث ابن عباس في ذلك، وفيه قوله –رضي الله عنه- لمن استنكروا قوله: «صلوا في رحالكم»: «فعَلَه مَن هو خير مني، إن الجمعة عَزْمَةٌ، وإني كرهتُ أن أحرجك فتمشون في الطين والدَّحض».
2- وبوّب الإمام البخاري –أيضاً- في «صحيحه» (كتاب الأذان): «هل يَخطُب يومَ الجمعة في المطر؟». ثم أخرج الحديث الذي رواه تحت تبويبه المتقدم نفسِه.
3- وبوب الإمام البخاري في «صحيحه» (كتاب الاستسقاء): «باب الاستسقاء في خُطبة الجمعة غير مُستقبل القِبلة»، ثم روى بسنده حديث أنس: أن رجلاً دخل المسجدَ يوم الجمعة مِن باب كان نحو دار القضاء ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب- فاستقبل رسول اللهِ –صلى الله عليه وسلم- قائماً، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السُّبل، فادع الله يُغيثنا، فرفع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يديه، ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا…». فذكر الحديث.
وقال الحافظ في «الفتح»: «وفيه إدخال دُعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر، ولا تحويل فيه، ولا استقبال، والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء».
وفي هذا الدعاء الخاص بالاستسقاء صح رفع الأيدي في الدعاء للإمام والمأمومين، كما بوب البخاري في «صحيحه»: (باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء)، و: (باب رفع الإمام يده في الاستسقاء).
(تنبيهان):
الأول: روى مسلم في «صحيحه» عن عمارة بن رُؤيْبة أنه رأى بِشر بن مروان على المنبر [يوم الجمعة] رافعاً يديه، فقال: قبح اللهُ هاتين اليدين، لقد رأيتُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأُُصبعه المسبّحة.
قال النووي: «هذا فيه أن السُّنّة أن لا يرفع اليد في الخطبة، وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السَّلف وبعض المالكيَّة إباحته؛ لأنَّ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى!
وأجاب الأوَّلون بأنَّ هذا الرَّفع كان لعارض».
قلتُ: وهو الصواب، ويؤيده حديث أنس قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع حتى يُرى بياضُ إبطيه».
«والحديثان المذكوران يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء، وأنه بدعة».
فجواز الرفع في الخطبة –إذن- مخصوص بالاستسقاء حال طروئه.
التنبيه الثاني: روى مسلم في «صحيحه» عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء.
نقل النووي في «شرح مسلم» عن جماعة من الشافعية وغيرهم أن «السُّنَّة في كلِّ دعاء لرفع بلاء -كالقحط ونحوه- أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفَّيه إلى السَّماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفَّيه إلى السَّماء»!
أقول: وهذا استدلال ضعيف من وجهين:
الأول: أنه وردت نصوص كثيرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم- في دعائه عند رفع البلاء، وليس في شيء منها هذا القلب، فدل ذلك على خُصوصية الاستسقاء دونها، فسَحْبُ هذا القلب على غيره خطأ بيّنٌ.
ويدل عليه:
الوجه الثاني: أنّ قلب اليدين في الاستسقاء صاحبه تحويل الرداء، فالذين جوّزوا القلب مُطلقاً هل يُسوِّغون التحويل مُطلقاً؟!
مِن أجل ذا قال بعض أهل العلم: «الحكمةُ في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره للتفاؤل بتقلب الحال ظهراً لبطن، كما قيل في تحويل الرداء».
رابعاً: أحكام عامة في الصلاة
الأول: تغطية الفم: [ومنه التَّلثُّم]
صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه: «نهى عن السَّدْل في الصلاة، وأن يُغطّيَ الرجل فاه»، والأصل في النهي التحريم إلا بقرينة، ولا قرينة، نعم؛ لا يَمنعُ هذا صحةَ الصلاة.
الثاني: السَّدل: كما في الحديث السابق.
والسدل كما قال ابن الأثير: «هو أن يَلتحف بثوبه، ويُدخِلَ يديه مِن داخل، ويركع ويسجُد وهو كذلك»، والمعنى ظاهر، وهو وضع الملابس –كالمعطف والعباءة مثلاً- على الكتفين دون إدخال الأيدي في الأكمام.
الثالث: اشتمال الصَّماء: روى البخاري عن أبي سعيد الخُدْريِّ أنه قال: «نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن اشتمال الصَّماء»، قال ابن قتيبة: سُميت صماءَ، لأنه يَسُدُّ المنافذَ كلَّها فتصير كالصخرة الصماء التي ليس فيها خَرْق.
أي: ليس فيها أكمام، ولا منافذٌ؛ كالبُرنس يُلبَس على الجسد كله، والطَّيلسان يلبس فوق الكتفين، وكلاهما دون أكمام.
وبعض أهل العلم لا يُفرّق بين السدل واشتمال الصّماء! ولا أَرى ذلك صحيحاً، والله تعالى أعلم.
(تنبيه): النهي عن السدل واشتمال الصماء نهي عام في الأوقات كلِّها صيفاً وشتاءاً، ويكثر في الشتاء، فهذا لا يجوز فعلَه…
ولكن:
روى أبو داود بسند صحيح من حديث وائل بن حُجْر في صفة صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم- قال في آخره: «ثم جئت بعد ذلك في زمان فيه بردٌ شديد، فرأيت الناسَ عليهم جُلُّ الثياب تُحَرَّكُ أيديَهم تحت الثياب» فهذا تخصيص بالبرد الشديد لضرورة، فتنبه.
الرابع: لُبْس القفازين:
ففي الأيام الباردة يلبس بعض الناس قفازات تقي أيديهم من شدة البرد، فينهاهم بعض الناس عن ذلك! والصحيح أنه لا مانع من ذلك.
الخامس: الصلاة إلى النار:
تكثر المدافئ في الأيام الباردة في المساجد وتكون هذه المدافئ أحيانا في قِبلة المصلين، فتتوهج النار أمامَ أعينهم وهو يصلون، وهذا الفعل ممنوع وغير جائز، لأمرين:
الأول: أن هذا الفعل فيه تشبه بعبّاد النار من المجوس، وقد حذر النبي –صلى الله عليه وسلم- من التشبه بقوله: «مَن تشبه بقوم فهو منهم»، ونص أهل العلم على كراهة استقبال الشمع والنار في الصلاة، وإن كان المصلي لا يقصد ذلك، كما نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة بعد الفجر والعصر لأنه وقت سُجود المشركين للشمس. وقال الشيخ القرعاوي: «وأما استقبال النار في الصلاة فهو من التشبه بأعداء الله، ومن وسائل الشرك وذرائعه الموصلةِ إليه، ورسول الله حمى حِمى التوحيد، وسد كلَّ طريق يؤدي إلى الشرك، ومن المعلوم أن باب سد الذرائع باب مهم جدا ينبغي للمفتي أن يجعله على باله، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب «إعلام الموقعين» في الوجه الحادي والثلاثين: أنه –صلى الله عليه وسلم- كره الصلاة إلى ما قد عُبد من دون الله تعالى. قطعاً لذريعة التشبه بالسجود إلى غير الله تعالى»اهـ.
الأمر الثاني: دخول ذلك في عُموم نهي النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يَستقبل المصلي شيئاً يُلهيه في صلاته، كما وقد ورد في ذلك أحاديثُ وآثار….
السادس: الصلاة على الراحلة أو السيارة خشية الضرر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وتصح صلاةُ الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرِّفقة، أو حصول ضررٍ بالمشي».
وقال ابن قدامة في «المغني»: «وإن تضرر بالسجود وخاف من تلوث يديه وثيابِه بالطين والبلل، فله الصلاةُ على دابته، ويومئ بالسجود». ثم قال: «وقد رُوي عن أنس أنه صلى على دابته في ماء وطين، وفعلَه جابر بن زيد، وأمر به طاوس، وعُمارة بن غَزيّة».
وقال الإمام الترمذي في «سننه»: «والعمل على هذا عند أهل العلم، وبه قال أحمد وإسحاق».
السابع: التبكير بالصلاة في يوم غيم:
فقد روى البخاري عن أبي المَليح قال: كنا مع بُريدة في غزوة في يوم ذي غيم، فقال: بكروا بصلاة العصر، فإنه النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «من ترك صلاة العصر حَبِط عملُه». قال ابن حجر في «الفتح»: «المراد بالتبكير: المبادرة إلى الصلاة في أول الوقت…».