وقوله: (أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ)، أي: أو كان بحالة السفر، وأصل (عَلَىٰ) الدلالة على الاستعلاء، ثم استعملت مجازاً في التمكن كما تقدم في قوله تعالى: (عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) ثم شاع في كلام العرب، أن يقولوا: فلان على سفر؛ أي: مُسافر ليكون نصاًّ في المتلبس؛ لأنَّ اسم الفاعل يحتمل الاستقبال، فلا يقولون على سفر للعازم عليه، وأما قول :
مَاذَا عَلَى الْبَدْرِ الْمُحَجَّبِ لَوْ سَفَرْ *** إِنَّ الْمُعَذَّبَ فِي هَوَاهُ عَلَى سَفَرْ
أراد أنَّه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية، فنبَّه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل في التلبس بالفعل، على أن المسافر لا يفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية، والمسألة مختلف فيها، فعن أنس بن مالك أنَّه أراد السَّفر في رمضان، فرحلت دابته ولبس ثياب السفر، وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب، وقال: هذه السنة، رواه الدارقطني، وهو قول الحسن البصري، وقال جماعة: إذا أصبح مُقيماً، ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه، ذلك وهو قول الزهري، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة، وبالغ بعض المالكية فقال: عليه الكفارة، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس هذا بشيء؛ لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب، ولقد أجاد أبو عمر، وقال أحمد وإسحاق والشعبي: يفطر إذا سافر بعد الصبح، ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صحيحي البخاري ومسلم ((خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه، فأفطر حتى قدم مكة))، قال القرطبي: “وهذا نص في الباب، فسقط ما يخالفه” ..
وإنما قال تعالى: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يقل: فصيام أيام أخر، تنصيصاً على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر؛ إذ العدد لا يكون إلا على مقدار مماثل .. فمن؛ للتبعيض إن اعتبر (أَيَّامٍ) أعم من أيام العدة؛ أي: من أيام الدهر أو السنة، أو تكون (مِّنْ) تمييز (عِدَّةٌ) أي: عِدَّةٌ هي أيام، مثل قوله: (بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ)، ووصف الأيام بأُخر، وهو جمع الأخرى اعتباراً بتأنيث الجمع؛ إذْ كل جمع مؤنث، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفا: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) قال أبو حيان : واختير في الوصف صيغة الجمع، دون أن يُقال أُخرى، لئلا يظن أنه وصف لعدة، وفيه نظر؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لبس؛ لأنَّ عدة الأيام هي أيام، فلا يعتنى بدفع هذا الظن، فالظاهر أنَّ العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ ..
ولفظ (أُخَر) ممنوع من الصرف في كلام العرب. وعلَّل جمهور النَّحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل، أما الوصفية فظاهرة، وأما العدل فقالوا: لما كان جمع آخر، ومفرده بصيغة اسم التفضيل، وكان غير مُعرف باللاَّم كان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير جرياً على سنن أصله، وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللاَّم، ومن الإضافة إلى المعرفة، أنه يلزم الإفراد والتذكير، فلمَّا نطق به العرب مُطابقاً لموصوفه في التثنية والجمع، علمنا أنهم عدلوا به عن أصله، والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان؛ لأنه غير معتاد الاستعمال، فخففوه لمنعه من الصرف، وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما، وفيه ما فيه ..
ولم تُبين الآية صفة قضاء صوم رمضان، فأطلقت (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، فلم تُبين أتكون مُتتابعة أم يجوز تفريقها، ولا وجوب المبادرة بها أو جواز تأخيرها، ولا وجوب الكفارة على الفطر متعمداً في بعض أيام القضاء، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليل التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص، ودليل أنَّ الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية ..
فأمَّا حكم تتابع أيام القضاء، فروى الدارقطني بسند صحيح، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، نزلت: (فعدة من أيام أخر مُتتابعات) فسقطت (مُتتابعات)، تُريد: نُسخت، وهو قول الأئمة الأربعة، وبه قال من الصحابة أبو هُريرة، وأبو عُبيدة، ومعاذ بن حبل، وابن عباس، وتلك رُخصة من الله، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله: (مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار، وفي كفارة قتل الخطأ ..
فلذلك ألغى الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي، ولم يُقيدوا مُطلق آية قضاء الصوم بما قيدت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ .. وفي الموطأ عن ابن عُمر رضي الله عنهما، أنه يقول: يصوم قضاء رمضان مُتتابعاً من أفطره من مرض أو سفر، قال الباجي في المنتقى: “يُحتمل أن يُريد به الوجوب، وأن يُريد الاستحباب ..
وأما المبادرة بالقضاء، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها، وقوله هنا: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مُراد به الأمر بالقضاء، وأصل الأمر لا يقتضي الفور، ومضت السُّنَّة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور، بل هو مُوسع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلاَّ في شعبان)) .. وهذا واضح الدِلَالة على عدم وجوب الفور، وبذلك قال جُمهور العلماء، وشذّ داوود الظاهريّ، فقال: “يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم شوال المعاقب له” ..
وأمَّا من أفطر مُتعمداً في يوم من أيام قضاء رمضان، فالجمهور على أنَّه لا كفارة عليه؛ لأنَّ الكفارة شُرعت حفظاً لحرمة شهر رمضان، وليس لأيام القضاء حُرمة، وقال قتادة: “تجب عليه الكفارة؛ بناء على أن قضاء العبادة يُساوي أصله” ..
_____________