لماذا القرآن؟
لا يوجد كتاب نزّه الخالق وقدّسه وأمر بالتوحيد والتصديق بالرسل وتنزيههم عن كل نقيصةٍ، والحث على الصالحات الباقيات مثل القرآن؛ منذ كانت الدنيا.
فالقرآن منسوجٌ بالتوحيد والنبوات والغيبيات والحِكم والفقه والتشريع والآداب، كل هذا بحبكةٍ لغويةٍ ونسجٍ لم تعهده العرب. -1-
وكم من ملايين القناطير المقنطرة من الذهب والفضة دُفعت لمحو القرآن، وإذهاب أثره عن القلوب، وتشتيت أتباعه وتشويه مراده عبر الأزمان، طمعًا أن يُفعل به ما فُعل بالكُتب من قبله.
فبقي رغم كل المحاولات رافعًا أعلامه حافظًاً أحكامه.
{إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} ﴿٣٦﴾ سورة الأنفال.
وإذا أنعمت النظر في دين النصارى وجدت أن كل شرائعهم مبدلة محرفة محدثة، فلم يكن المسيح عليه السلام يعرف كنيسةً فضلاً عن أن يبنيها فضلاً عن أن يضع قوانينها، ولم يكن يعرف ناقوسًا ولا صليبًا ولا أسرارًا ولا مطانيات –السجود للقساوسة-، ولا أيقونات –صور قديسين-، ولا مراتب كنسية ولا طقوس كهنوتية. وليس في الإنجيل الذي بين أيدي النصارى اليوم شيءٌ من ذلك!
فهي تشريعات ما أنزل الله بها من سلطان.
ولو انتقلت إلى التوراة لوجدت أن العمل بها صار من الصعوبة بمكان. حيث شدّد اليهود على أنفسهم فما أطاقوا؛ وطقوس التطّهر والنجاسة عندهم تحتاج إلى قرابين وانعزالية تامة عن الحياة!
وقد تعلقت أحكام التوراة بالهيكل السليماني والمذبح وقد خرِب الهيكل ولا أحد يعرف له مكانًا، وهُدم المذبح وزال أثرهما من الوجود وهذا برهانٌ واضح على نسخ الشريعة.
أما الهندوس الذين يتردون من الجبال ويحرقون الأجساد ويغرقون في الماء من أجل التطهر فلم يبتعدوا كثيرًا عن طقوس اليهود، ولو أراد الله بعباده الهلكة للتطهر ما أذِن لهم في صنعة لبوسٍ لتحصنهم من بأسهم. ولما أوجد لهم سرابيل تقيهم الحر! -2-
ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فليس في التوراة ولا الإنجيل مماثلاً لمعاني القرآن:
لا في الحقيقة.
ولا في الكيفية.
ولا الكمية.
بل يظهر التفاوت لكل مَن تدبر القرآن وتدبر الكتب.” -3-
فالقرآن رسالة “اليسرى” للأمم؛ يقول الإمام جلال الدين المحلي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى {ونيسرك لليسرى} ﴿٨﴾ سورة الأعلى .
لليسرى أي: للشريعة السهلة وهي الإسلام.
ولو انتقلت إلى معاني القرآن لوجدتها غير محدودةٍ.
وعلومه غير محصورةٍ ولا معدودةٍ.
فقد اتسع مجاله لكل فن.
يقول الألوسي رحمه الله: “فأنت تجد في كتاب الله أخبارًا وأحكام ومواعظ وأمثال وأخلاق وآداب، وترغيب وترهيب ومدح الأخيار وذم الفجار، وتدبير السياسات ومجادلة الأخصام وإقامة الدلائل على أصول الاعتقاد وإزالة الريب، ووصف الغيب ووصف عوالم الأرض والسماوات، خارجًا بكل ذلك في حسن نظمه عن كل أسلوب فلا هو من الأراجيز البدوية ولا القصائد العربية فكلما تكرر حلا، وسمعته من أي الأفواه غلا مع اقتران معانيه المتغايرة فينقلك من الوعد إلى الوعيد ومن ماضٍ إلى حاضرٍ ومستقبل، ومن حكم إلى جدل، فلا ينبو ولا يتنافر بل تتجانس معانيه في بنيةٍ نظميةٍ بديعة.” -4-
وإعجاز القرآن ليس في بلاغته فقط كما يظن الملحدة.
ولا في لفظه فقط.
ولا في معانه فقط.
بل إعجاز القرآن يشمل اللفظ والمعنى والبلاغة، وينتقل إلى العلوم والأحكام والتشريعات وتحليل النفس وسبر أغوارها وإشباع مراداتها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فالإعجاز في معناه –القرآن الكريم- أعظم وأكثر من الإعجاز في لفظه، وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه.” -5-
وانظر إلى عبارته الأخيرة – رحمه الله- والتي تُسبك بماء الذهب: ” وجميع عقلاء الأمم عاجزون عن الإتيان بمثل معانيه أعظم من عجز العرب عن الإتيان بمثل لفظه.”
فالقرآن معجزٌ وإعجازه لا يتوقف؛ فهو معجزٌ بلفظه ومعناه ومعارفه وفنونه وعلومه.
ولم يقدر أحد من العرب أن يأتى بمثله في لفظه ولا غير العرب في معانيه.
وعدم الفعل مع كمال الداعي يستلزم عدم القدرة.
أما إعجاز القرآن البلاغي فلأنه:
جاء بأفصح الألفاظ.
في أحسن نظوم التأليف.
مضمنًا أصح المعاني.
فاللفظة الواحدة من القرآن لو أخذتها وأدرت لغة العرب كله لتحصل على لفظةٍ أحسن منها ما استطعت. -6-
ولو أردت أن تؤلف بكلماتٍ أخرى غير كلمات القرآن لتوازي حسن تأليفه وحبكته ورونقه لشهدت له بالنصر وعلى نفسك بالعجز.
انظر إيجاز اللفظ مع دقة المعاني وكثرتها وتلاؤم الكلام في قوله تعالى{وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين} ﴿٤٤﴾ سورة هود.
و أنظر إلى الإيجاز القرآني المعجز في قوله تعالى {فلما أسلما وتله للجبين} ﴿١٠٣﴾ سورة الصافات.
وتفسير الآية: ( فلما أسلما ) خضعا وانقادا لأمر الله تعالى ( وتله للجبين ) صرعه عليه ولكل إنسان جبينان بينهما الجبهة وكان ذلك بمعنى وأمر السكين على حلقه فلم تعمل شيئا بمانع من القدرة الإلهية.-7-
هل تستطيع أن تأتي بهذا المعنى المطلوب بنفس هذا العدد من الكلمات في إطار حبكةٍ بلاغية لا تنبو عن سير الآيات قبلها وبعدها؟
ولو انتقلت عن لغة العرب وأردت أن تترجم كلمة مثل ” أنلزمكموها” في قوله تعالى {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} ﴿٢٨﴾ سورة هود.
فأنت تترجمها بعد أن تتفكك ويخفت رونقها إلى سبع كلماتٍ بالإنجليزية Shall we compel you to accept it.
وحبكة اللفظ القرآني واستيعابه للمعنى التام مما سارت بأمثاله الركبان. أنظر إلى كلمة ” فأسقيناكموه” في قوله تعالى {وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} ﴿٢٢﴾ سورة الحجر.
لفظة واحدة بها حرف عطف، وفعل وفاعل، ومفعول أول ومفعول ثانٍ.
ولذا عندما سمع العرب الأقحاح كتاب الله عز وجل خطف أسماعهم بقوة تأثيره ورقراق بلاغته؛ فعن جبير بن مطعم عن أبيه حين سمع قوله تعالى {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ﴿٣٥﴾ أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ﴿٣٦﴾ أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون ﴿٣٧﴾} سورة الطور.
قال: كاد قلبي أن يطير! -8-
إن كل هذا ليقطع بأن الظاهرة القرآنية ما جائت إلا لتتحدى وتهدي وتُصلح!
————————–
1- الفقرة من وحي كتاب: “رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، د. ثامر بن ناصر، مكتبة الرشد.”
2- الإعلام بمناقب الإسلام، أبو الحسن العامري، ص137.
3- الجواب الصحيح 5- 435.
4- الدلائل العقلية/ الألوسي، مخطوط.
5- الجواب الصحيح 5- 434.
6- الفقرة من وحي “رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم”؛ م. س.
7- تفسير الجلالين للآية.
8- صحيح البخاري، 4501.