الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
فإن السنة وسط بين الغالي والجافي، وهذا يصدق في باب الاعتقاد كما يصدق في باب العمليات ومن أكثر الأبواب التي تفرق الناس فيها عن السنة بين غال وجاف باب الرخص، لاسيما في الحج والذي يخرجه التوسع في الرخص عن كونه عبادة يشعث العبد فيها بدنه ويغبر قدمه إلى رحلة ترفيهية لا تعمل في القلب أثرها المقصود، كما أن مجافاة الرخص فيها تحوله إلى ساحة عراك وشجار وتضييع لحرمات المؤمنين مما يخرجه عن مقصوده من وحدة الأمة واجتماعها ولذلك كانت هذه المحاولة لفهم باب الرخصة وتطبيقه على رخص الحج. يعرف علماء الأصول العزيمة بأنها ما شرعت ابتداء، والرخصة ما شرعت بسبب قيام مسوغ لتخلف الحكم الأصلي، وهي تشمل نسخ الحكم الشديد إلى الأخف في حق جميع الأمة على الراجح. ومن ثم يقال على المسح على الخفين أنه رخصة مع أنه مشروع للمقيم والمسافر، ويقال عن نسخ الأضحية من الوجوب إلى الاستحباب أنه رخصة وهكذا. ومن هذا في باب الحج الجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد على هيئة التمتع أو القران فيسمى رخصة للتسهيل فيه من إجراء أعمال واحدة عن عبادتين، كما أن الرخصة تأتي بسبب الضرورة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(البقرة: 173)، وهذه تحتاج إلى فتوى عالم بالشرع وبالواقع لكي يفتي بأن حالة ما ضرورة أو أنها ليست كذلك. وكان الشيخ الألباني – رحمه الله- كثيرا ما يقول: “لقد حفظ الناس قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” ولم يحفظوا معها القاعدة الأخرى التي تضبطها وهي “الضرورة تقدر بقدرها”. كما أن الرخصة تأتي بسبب الحاجة. وقد وردت كثير من النصوص الشرعية بالتيسير في مواطن لا تبلغ مبلغ الضرورة، وبين الله هذا الأصل من أصول التشريع بقوله (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: 78)، ومن أمثلة ذلك الفطر والجمع والقصر في السفر ومن المعلوم أنه لا يبلغ مبلغ الضرورة. وقد جفا كثير من الناس في هذه الرخص فأرادوا أن يقصروا الرخصة فيها على حال الضرورة، وكان هذا سيصح لو لم ترد النصوص المصرحة باعتبار هذه الحاجة، ومعظم رخص الحج من باب رخص الحاجات، من الترخيص للضعفاء بالدفع من مزدلفة قبل الفجر، ومن عدم اشتراط الترتيب في أعمال يوم النحر مع أن الأصل وجوبه لقوله – صلى الله عليه وسلم-: (خذوا عني مناسككم)(رواه مسلم)، وهذه الرخص ما كان فيها منصوصا عليه فلا خلاف في العمل به ولكن هل يمكن أن يقاس عليه غيره أم لا؟ نظر العلماء في المواطن التي وردت فيها الرخص من أجل مصالح حاجية فوجدوا أنها عامة يحتاجها عدد كبير من المكلفين – إن لم يكن كلهم- كرخص السفر ورخص الحج، وبيع السلم وبيع العرايا ونظر الخاطب للمخطوبة، وتضبيب الإناء المكسور بالفضة مع وجود غيره. ومن هنا استنبط العلماء قاعدة “أن الحاجات عند عموم البلوى بها تنزل منزلة الضرورة” وإذا طبقنا هذه على الأمثلة المنصوص عليها ولنأخذ على سبيل المثال نظر الخاطب إلى المخطوبة، فالأصل هو حرمة النظر إلى الأجنبية، ولولا ورود الدليل على جواز النظر من أجل الحاجة لم يكن لقائل أن يجيز النظر إلى المخطوبة من أجل الخطبة لكونها لا ترقى إلى درجة الضرورة، ولكن بالنظر إلى أن عامة الناس يحتاجون إلى النكاح وأن الزواج بغير نظر سابق يعرضه إلى الفشل بنسبة كبيرة، مما يعرض المجتمع كله إلى حالة من الضيق تساوي حالة الضرورة أو ربما زادت، ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم-: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)(رواه الترمذي وصححه الألباني)، ومعلوم أن هذا عام في حق كل خاطب ومخطوبة. ومقتضى كلام أهل العلم هنا أن هذه الحاجة بعينها لو لم تعم البلوى بها “بمعنى احتياج عامة المكلفين لها” لما جاز الترخص بسببها. وهناك ضابط آخر في مسألة الترخيص في فعل المنهيات من أجل الحاجات، وهي التي يعبر عنها العلماء بقولهم “ما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة”، مما يعني أن المحرمات لذاتها لا تباح إلا للضرورة والمحرمات لغيرها تباح للمصلحة الراجحة (الحاجة) التي عمت بها البلوى، ومثاله في المنصوص عليه ربا النسيئة، فهو محرم لذاته فلم تلحق به أي رخصة في الشرع إلا أن يتعرض مكلف بعينه إلى حالة ضرورة حينئذ يقدرها أهل العلم بقدرها، وأما ربا الفضل فهو محرم سدا للذريعة لأنه يؤدي إلى ربا النسيئة، فأجاز الشرع بعض صوره وهي بيع العرايا بقيود خاصة لعموم حاجة الفقراء لها ودخل معهم الأغنياء تبعا. وفي هذه الرخص المباحة للحاجة – سواء المنصوص عليها أو التي توصل إليها بالنظر والاجتهاد- يجب ضبط الحاجة التي علق الشرع عليها الرخصة أو التي أدى النظر إلى اعتبارها، فلا يجوز مثلا أن يمكن الخاطب من رؤية مخطوبة مع غلبة الظن بوجود موانع أخرى من إتمام الخطبة، بل يجب استقصاء هذه الموانع أولا، ولا يجوز للخاطب أن يطلب تكرار النظر إذا كان قد حسم أمره سلبا أو إيجابا بينما يجوز أن يطلبه إن كان ما زال محتاجا لذلك، ويجوز تمكينه من هذا إن غلب على الظن عدم تلاعبه، واعلم أن الرخصة متى كان في الأخذ بها ممن لا يستحقها ضرر على غيره أو تفويت مصلحة عامة للأمة اقتضى ذلك مزيد من التثبت في مدى استحقاق المرء لها، ومن ذلك رخصة القعود عن الجهاد متى توسع فيها الناس فأخذ بها من ليس من أهلها كان هذا تضييعا لمصالح الأمة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)(التوبة:49)، ورخصة سؤال الناس، فمتى توسع كل محتاج بأي نوع من الحاجات في سؤال الناس عاد هذا بالجهد على المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافا، وهذا أمر نراه واقعا في زماننا، ولذلك حرَّج النبي – صلى الله عليه وسلم- على من جاءا يسألانه وليس عليهما أثر الفاقة فقال: (إن شئتما أعطيتكما ولكن اعلما أنه لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي)(رواه أبوداود وصححه الألباني). ومن أمثلته في الحج – وهذا مما غفل عنه كثير ممن يتبنون إشاعة الرخص في الحج لمنع الحوادث التي تقع فيه- أن رخصة الدفع من مزدلفة قبل فجر يوم النحر هي رخصة خاصة للضعفاء لكي يسبقوا سائر الحجيج في أعمال يوم النحر بقريب من اثنتي عشرة ساعة يتمكنون فيها من رمي جمرة العقبة الكبرى والذبح والحلق أو التقصير ثم إتيان مكة لطواف الإفاضة، كل هذا دون أن يزاحمهم الأقوياء، فلما توسع الناس في الأخذ بهذه الرخصة قويهم وضعيفهم ضاع معناها وهضم حق الضعفاء في وقت خصه الشرع لهم دون غيرهم، وكذلك فتح باب التوكيل في رمي الجمار والأصل فيه أنه للضعيف الذي يعجز عن الرمي لا في النهار ولا في الليل فيوكل، فلما توسع المفتون في القول بجواز التوكيل صارت الرحلات الفاخرة تؤجر راميا يذهب ليرمي عن عشرات من الناس وصار هؤلاء الرماة المحترفون يحتلون المواقع المميزة للرمي الأوقات الطويلة محتجزين الحجيج الحقيقيين ورائهم، ورحم الله زمانا كنا نتندر فيه على هؤلاء وعلى من أفتاهم بهذه الفتاوى التي كانت في عرف كل دارس لفقه الكتاب والسنة من الترخص الجافي، فإذا بنا نفاجأ ولأجل حدوث حوادث معظمها راجع إلى قصور بشري في تنظيم توافد الحجيج على الجمرات، ببعض من ينتسب إلى السنة ينادي بفتح باب الرخص على مصراعيه رغم أنه يؤدي إلى ظلم الضعفاء على النحو الذي ذكرنا. أضف إلى ذلك العسر والمشقة الناجمة عن الإسراف في الرخصة فكم من سائل يسأل بعد رجوعه إلى بلده من أنه قد وكله عدد كذا من الضعفاء فقبل الوكالة ثم تأخر في الرمي فعاد إليهم ينفض يده من هذه الوكالة فلم يجدهم وعاد إلى بلده فعلى من تكون الفدية؟ ومما يقرب من ذلك إهمال كثير من المفتين لبيان الصفات الفضلى في العبادات، مع أن بيانها مطلوب نصيحة لمن أراد الأكمل، ولأنه يمكن أن يكون بابا من أبواب التيسير لا العكس، ومثاله في الحج فضيلة طواف الإفاضة في يوم العيد مع بيان جواز تأخيره، وفضيلة رمي الجمرات بالنهار ورمي جمرات كل يوم في موعده على الرغم من جواز التأخير، فصار كثير ممن يتكلم في هذه المسألة يهمل الترغيب في الحرص على الوجه الأكمل لمن استطاع، على الرغم من أنه لو حرص من لديه القدرة على فعل هذه العبادات أول وقتها لكان ذلك أرفق بغيرهم. ومن رأى الزحام الشديد على الرمي في الليل لعلم أنه لو وجد الترغيب الكافي في أن يدرك من استطاع الرمي في أول وقته لكان في هذا إفساح المجال لغيرهم بالليل. فحصل من ذلك أن الرخص الشرعية ثلاث أنواع: الأول: تخفيف بعض الأحكام على الرغم من قيام مقتضيها وغني عن الذكر أن هذا القسم لا يقاس عليه. الثاني: رخص الضرورات وبعضها منصوص عليه مع بقاء القاعدة عامة تقبل التطبيق على وقائع أخرى بشرط أهلية المطبق ومعرفته بحدود الضرورة الشرعية. الثالث: رخص الحاجات وبعضها منصوص عليه، ويمكن القياس عليه بالضوابط المشار إليها آنفا من عموم البلوى وكون حكمة النهي الأصلي كان من باب سد الذرائع. هذا وقد خلط بعضهم بين مفهوم الرخصة الشرعية وبين تتبع أسهل أقوال العلماء في المسائل الخلافية المعروفة بمسألة تتبع رخص المذاهب، وحاصل ذلك أن العلماء متى اختلفوا في ترخيص الشارع في مسألة أو عدمه، فما زال الواجب على المكلف أن يجتهد في معرفة حكم الله لا حكم غيره، وكل مكلف بحسب قدرته على فهم الأدلة، فمتى استبان له الدليل أن العالم الذي قال بالرخصة أخطأ أو وهم، فكيف يمكن له أن يترخص برخصة يعلم أن الله لم يأذن بها وأن القائل بها قد أخطأ في نسبة هذا للشرع؟ ومثال ذلك ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من أن للمرأة أن تزوج نفسها ظنا منه أن الشرع أذن في ذلك، إذ رأى أن الشرع أذن للمرأة أن تتصرف في مالها فألحق به بضعها، وقد تبين لنا بالحديث الصحيح أن الشرع لم يأذن في ذلك بل قال – صلى الله عليه وسلم-: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)(رواه أحمد وصححه الألباني)، كما أن قياس الإمام أبي حنيفة – رحمه الله- منتقض بكون الزواج أمرا يخص أولياءها ربما أكثر مما يخصها بخلاف مالها. ومن رأى ما آل إليه حال الناس في زماننا نتيجة شيوع الزواج بدون ولي “رسميا كان أو عرفيا وإن كان الغالب عليه أن يكون عرفيا” أدرك المغزى الشرعي في ذلك، فهل يمكن لأحد بعد ذلك أن يقول هذه رخصة من الله؟ وإن لم يجرؤ على الزعم أنها رخصة من الله فلا تكون رخصة حينئذ. وقد بالغ العلماء في الرد على هذا القول حتى قال ابن عبد البر – رحمه الله-: “من أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله”، وقد حكى الخطابي عن بعضهم قوله: “أن الناس لما أجمعوا على تحريم خمر العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اتفقوا عليه وأبحنا ما سواه”، فقال الخطابي تعليقا على هذا الكلام: “وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة لأن الأمة اختلفت فيها وليس الاختلاف حجة وإنما السنة حجة المختلفين من الأولين والآخرين” ا.هـ كلام الخطابي فيما نقله عنه الشاطبي في الموافقات في ثنايا رده على القائلين بهذه البدعة ثم قال: “وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة والحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك ما يوافق الغرض حتى إذا نزلت مسألة لا ضرورة فيها ولا حاجة أخذ بالقول الراجح فهذا أيضا من الطراز المتقدم” ا.هـ مختصرا. وأما ما ورد عن بعض المحققين من الاستفادة من اختلاف العلماء في مراعاة تغير الزمان والمكان، وهذا يكون في مسائل يسيرة بنيت على الواقع كاختلافهم في أقل الحيض وأكثره مثلا فعلمنا من كلامهم أنهم ردوه إلى الإحصاء الطبي في واقعهم، فكذلك يمكن أن نفعل نحن، ومن ذلك مسألة هل تحيض الحامل؟ فظاهر الدليل في قوله – صلى الله عليه وسلم- في السبي: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة)(رواه أبوداود وصححه الألباني) أن الحامل لا تحيض، ولما وجد بعض الفقهاء أن بعض النساء يذكرن أنهن يحضن وهن حوامل أوَّلوا الحديث، بينما قال بظاهره آخرون. ثم جاء الطب الحديث ليؤكد ما دل عليه ظاهر الحديث وأن الدماء التي تنزل على الحامل مع استقرار حملها دم علة وفساد، مما يفرض أخذ هذه المعلومات بعين الاعتبار حين إعادة بحث المسألة. كما أنه يرد ذلك في المسائل التي مبناها على الاستحسان وهو التردد في قياس فرع على أصلين مختلفين في الحكم، فربما قضى المجتهد بقول في المسألة تغليبا لأحد القياسين، وقضى الأخر بخلافه ثم استجدت أمور ربما تجعل أحدهما يرجع إلى قول الآخر، ومثاله ما ذكره الجويني من النزاع بين العلماء في جواز أن يتفق الخصمان على الذهاب إلى محكم غير القاضي المعين من الإمام، فقال ما حاصله: “فإذا خلا الزمان عن الإمام وجب أن يكون ما كان مختلفا فيه متفقا عليه وذلك لأن المانعين من الذهاب إلى المحكم حال وجود القاضي الشرعي إنما منعوا من ذلك للافتئات على حقه، وأما مع شغوره فيبقى الأمر بالرد إلى أهل الذكر سالما عن المعارضة”. وأما إطلاق القول به فهو ضرب من تتبع رخص العلماء كما بين الشاطبي. والحاصل أن باب الرخص لا سيما في الحج هو أكثر الأبواب حاجة للتوسط والقصد والاعتدال، لأنه من أكثر الأبواب التي ينتهي الإفراط في التيسير فيها إلي تعسير من حيث لا ندري. وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم-. |