شهر شعبان
وما اختص به من بين شهور الزمان
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ (آل عمران: 102)
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ (النساء: 1)
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ (الأحزاب: 70- 71)
أما بعد؛
فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أعاذنا الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين.
نحن في شهر شعبان شهر ليس بأفضل الشهور، ولكنه مقدمة لأفضل الشهور، شهرٌ فيه تذكيرٌ برمضان، وفيه وداعٌ لعامٍ كاملٍ قبل رمضان، شهر بين رجبٍ الشهرِ الحرام، وبين رمضانَ شهرِ الصيام.
والشهور العربية كانت قبل الإسلام، العرب يسمونها بأسماء في اللغة العربية العاربة، واندثرت في هذا الزمان فكلامها تستغربونه.[1]
فأسماءُ الشهورِ العربية الهلالية في الجاهلية:
[الـمُؤْتَمِرُ: الـمُحَرَّمُ، وصَفَرٌ: ناجِرٌ، وربيعٌ الأَوَّلُ: خَوَّانٌ وخُوَّانٌ وخَوَان، وربيعٌ الآخِرُ: وَبْصان، وحُكِيَ لنا: بُصَانٌ أيضاً، وجُمادَى الأولى: الحَنِينُ، وحُكِيَت الحُنَيْن، وجُمادَى الآخِرة: رُبَّى والرُبَّةُ، ورَجَبٌ: الأَصَمُّ، وشَعْبان: عاذِلٌ، ورمضان: ناتِقٌ، وشَوَّالٌ: وَعِلٌ، وذو القَعْدةِ: وَرْنَة، وذو الحِجَّةِ: بُرَكٌ]. (الأزمنة وتلبية الجاهلية) لمحمد بن المستنير بن أحمد، أبو علي، الشهير بقُطْرُب (المتوفى: 206هـ): (ص: 47)، ولكل منها معناه، وليس لنا شأن بهذه المعاني، ويكفينا أن شعبان عاذلٌ، ورمضانَ هو ناتقٌ، هذه أسماء الأشهر العربية في الجاهلية، لكن عندنا شهر شعبان تتشعب فيه القبائل بحثًا عن الكلأ والعشب.
شهر شعبان قد خصَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالصيام، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ: (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّهْرِ مِنْ السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ). (م) 177- (782)، 176- (1156)، (خ) (1869)، (س) (2180)، (د) (2434)، (كَانَ يَصُومُهُ إِلَّا قَلِيلًا، بَلْ كَانَ يَصُومُهُ كُلَّهُ). (س) (2178)، (2179)، (2180)، (2354)، (خ) (1869)، (م) 176- (1156).
وفي رواية: (بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ). (س) (2350)، (د) (2431)، (جة) (1649)، (حم) (25589).
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله تعالى عنها قَالَتْ: (لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إِلَّا شَعْبَانَ، يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ). (د) (2336)، (س) (2353)، (جة) (1648)، (حم) (26695)، انظر صحيح الجامع: (4628)، وصحيح الترغيب (1024).
وفي رواية: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، إِلَّا شَعْبَانَ، وَرَمَضَانَ). (ت) (736)، (س) (2352)، (حم) (26604)، صحيح الترغيب (1025).
وَعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: (مَا رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ). (م) 175- (1156)، (خ) (1868)، (س) (2183)، (حم) (24801).
هذه الأحاديث وغيرها كثير تدل على أهمية هذا الشهر بالصيام، وبطاعة الصيام، فـلماذا اختُصَّ شعبانُ بعبادة الصيام تطوعا؟
الجواب في حديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْراً مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟!) قَالَ عليه الصلاة والسلام: (“ذَلِكَ شَهْرٌ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ”). (س) (2357)، (حم) (21801)، صَحِيح الْجَامِع: (3711)، الصَّحِيحَة: (1898).
فالعرب في الجاهلية ينشغلون برجب، ويذبحون فيه الذبائح، ثم جاء الإسلام فانشغل الناس برمضان، فغفلوا عن شعبان.
وحثّ صلى الله عليه وسلم على صيام أيام البيض من شعبان، فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم لِرَجُلٍ: (“هَلْ صُمْتَ مِنْ سُرَرِ شَعْبَانَ شَيْئًا؟”)، -و(سَرَرُ الشهر): قيل: أوَّلَه أي أول الشهر ومُسْتهلَّه، وقيل: وَسَطه، وسرُّ كلّ شيءِ جوفُه، فكأنَّه أرادَ الأيامَ البيضَ الثلاثة.
فعندما سئل هذا الرجل السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم؛ هل صام الأيام البيض؟- قَالَ: (لَا!) -وبعد فوات الأوان، لم يجعله يصوم بعد النصف من شعبان،- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: (“فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ”). (حم) (19984)، (20002)، (م) (199)، 200- (1161)، (د) (2328)، (خ) (1882)، (د) (2328).
وأغلب نسائه صلى الله عليه وسلم وبارك ورضي الله عنهن يغتنمن انشغاله بالصيام في شعبان، فتقضي الواحدة منهن ما كان عليها من صيام، فهذا حديث عَائِشَةَ رضي الله -تعالى- عنها قَالَتْ: (إِنْ كَانَتْ إِحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم، فَمَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَقْضِيَهُ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ بِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم). (م) (151)، 152- (1146)، (خ) (1849)، (ت) (783)، (س) (2178).
في شعبان فُرض صوم ومضان، قال النووي رحمه الله تعالى في كتابه؛ (المجموع: ج6 ص253): (صَامَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم رَمَضَانَ تِسْعَ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ فُرِضَ فِي شَعْبَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّم فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ).
وفي أواخر شعبان حَثُّ الجميع عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: (“أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ”). (ت) (687)، (ك) (1548)، (طس) (8242)، (هق) (7729)
وَعَنْ عَائِشَة رضي الله -تعالى- عنها قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم يَتَحَفَّظُ مِنْ هِلَالِ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ). (حم) (25202)، (خز) (1910)، (حب) (3444)، (ك) (1540)، انظر صحيح موارد الظمآن: (719)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
أما عند التقصير في صيام أوائلِ شعبان حتى ينتصف فلا صوم إلى أن يدخل رمضان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله -تعالى- عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: (“إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فلَا تَصُومُوا حَتَّى يَجِيءَ رَمَضَانُ”). (د) (2337)، (ت) (738)، (جة) (1651)، (حم) (9705)، (ش) (9026)، (عب) (7325).
وفي رواية: (“لَا صَوْمَ بَعْدَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَتَّى يَجِيءَ شَهْرُ رَمَضَانَ”). (حب) (3591)، (طح) (3319)، (قط) (ج2/ ص191/ ح57)، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
وكما اختُصّ شعبان بفرض الصيام، فكذا اختُص بتحويل القبلة؛ قبلةِ الصلاة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهذا كان في السنة الثانية من الهجرة، في شعبان منها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيتُ المقدسِ؛ حرره الله من براثن المغتصبين، وسائر بلاد المسلمين اللهم آمين!! الذي كان قبلةَ المسلمين، بقي على ذلك، وهاجر من مكة إلى المدينة وهو يستقبل بيت المقدس في صلاته، بقي أكثر من بضعةَ عشرَ شهرًا، وهو يصلي إلى القبلة الأولى، لكنَّ في قلبه الحنينَ إلى بيت الله الحرام، إلى التوجه إلى بيت الله الحرام.
فنـزل قول الله جل جلاله ينسخ القبلة الأولى، ثم تكون للمسلمين قبلة خالصة خاصة لا يشاركهم فيها أحد إلى يوم القيامة، قال سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}. (البقرة: 144).
وكان أَوَّلَ من صلَّى إليها؛ إلى القبلة، إلى مكةَ المكرمة، إلى المسجد الحرام؛ الصحابيُّ أبو سعيد بنُ المعلَّى وصاحبٌ له، كما جاء في السنن الكبرى للنسائي (10/ 17)، ح (10937): عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: (كُنَّا نَغْدُو لِلْسُوقِ) -أي يذهبون في الصباح إلى السوق- (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَمُرُّ عَلَى الْمَسْجِدِ) -قبل أن يذهبوا إلى السوق يتباركون بركعتين في المسجد النبوي- (فَنُصَلِّي فِيهِ، فَمَرَرْنَا يَوْمًا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ)، فَقُلْتُ: (لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ)، فَجَلَسْتُ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}. (البقرة: 144)، حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ.. قُلْتُ لِصَاحِبِي: (تَعَالَ نَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَكُونَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى)، -إلى القبلة إلى المسجد الحرام-، (فَتَوَارَينَا) -أي اختبأنا في مكان- (فَصَلَّيْنَا، ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى لِلنَّاسِ الظُّهْرَ يَوْمَئِذٍ).
قال ابن كثير: [… -وفي شعبان- فُرضَ صومُ رمضان، وفرِضت لأجلِه زكاةُ الفِطرِ قُبَيلَه بيوم]. الفصول في السيرة (ص: 127).
وفي هذا الشهرِ توفِّي أحدُ أحبابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عنه إنه أخي، إنه [عثمانُ بن مظعون، بنِ حبيب بنِ وهبِ بنِ حذافةَ بنِ جُمَح، يكنى أبا السائب رضي الله عنه، أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دارَ الأرقم -في مكة المكرمة-، وهاجرَ إلى الحبشة الهجرتين، وحرَّم الخمر -على نفسه- في الجاهلية. وقال: (لا أشرب شيئاً؛ يُذهب عقلي، ويُضحِكُ بي من هو أدنى مني، ويحملني على أن أُنكِحَ كريمتي من لا أريد).
وشهد بدراً وكان متعبِّداً، توفي في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة، وقبَّل النبي صلى الله عليه وسلم خَدَّه -وهو متوفًّى- وسمَّاه؛ السلفَ الصالح، وهو أوَّلُ من قُبِر -ودفن- بالبقيع…]. صفة الصفوة (1/ 169، رقم: 30).
وفي سنة خمس من الهجرة [في شعبان وُلد -السبط- الحسين بن علي -وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم و- رضي الله عنهما]. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (سيرة 1/ 462).
وفيها أيضا في سنة خمس من الهجرة، وفي شعبان منها كانت [غزوة المريسيع؛ وتسمى غزوة بني المصطلق، كانت في شعبان سنة خمس على الصحيح؛ بل المجزوم به]. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (سيرة 1/ 468).
وفي سنة ثمان وثلاثين -من الهجرة-، [في شعبان: ثارت الخوارج -لا أبقاهم الله،- وخرجوا على عليٍّ رضي الله عنه، وأنكروا عليه كونه حكَّم الحكمين]. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (راشدون/ 279).
وسعيد بن حبير وتعلمون قصته مع الحجاج رضي الله عنه ورحمه؛ [كَانَ قَتْلُهُ: فِي شَعْبَانَ، سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِيْنَ]. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 341).
هذه حوادث حدثت في شعبان، فهل تكرَّر؟ لا تكرَّرُ هذه الحوادث، ولن تكرر، بل انتهت؛ لكن من الممكن أن تحدثَ أحداثٌ أخرى، فيها أحكامٌ وعبر، حوادثُ منها ما لا ينساه الناس، وحوادثُ قد تُنْسَى وتطوَى.
هذا هو شهر شعبان:
زمنٌ طُوِيَت فيه الحوادث، وتستجدُّ فيه الأحداث، ولن تتكرر فيه الأحداث الماضية، لكن تتكررُ فيه الأحكام والنفحات الربانية، فيتعرض لها المؤمنون، ففيها إلى ربهم يتقربون، وفيها لما يجلب لهم رضا الله سبحانه وتعالى يتعرضون، فشعبان شهرٌ يسبق رمضان، فيتطوع فيه المؤمنون؛ كما يسبقون فريضة الظهر بركعات، وبعد الظهر بركعات، فيصومون تطوعا قبل رمضان في شعبان، ويصومون تطوعا بعد رمضان في شوال، فمن استطاع من المؤمنين الصيام فيه صام، اتباعا واقتداء للنبي صلى الله عليه وسلم.
لكن بعد النصف من شعبان، يحظُر الصيامُ على من لم يصمْ قبل النصف، أما من كان قد تعوّد أن يصومَ اثنين وخميس، أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فلا مانع أن يستمر بالصوم بعد النصف من شعبان، ولو صام يوما قبل النصف، جاز له أن يصوم بعده، فهذا يصوم أو ابتدأ صوما من قبل انتصاف شعبان، فكل ذلك لا يمنعهم من الصوم بعد انتصاف هذا الشهر.
فمن لم يصم قبل منتصف شعبان ولا يوما واحدا، فلا يصوم بعد منتصف شعبان أي يوم، فمن لم يصم قبل ذلك فلا يصم بعد النصف من شعبان.
وليلة النصف من شعبان لها شأن وأيّ شأن! عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -عبدِ الله بن قيس- رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (“إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَان، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ”). (جة) (1390)، (حب) (5665)، صَحِيح الْجَامِع (1819)، الصَّحِيحَة: (1144).
وفي رواية: (“فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِين، وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ”). (طب) (ج 22/ ص 224/ ح 593)، انظر صَحِيح الْجَامِع: (771)، (1898).
والمشرك غير مغفور له حتى يُسْلِمَ ويوحّدَ الله سبحانه وتعالى، أما المشاحنة؛ فقد فسَّر الأوزاعيُّ رحمه الله هذه الشحناءَ المانعةَ من المغفرة؛ بالذي في قلبه شحناءُ وبغضٌ وكراهيةٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أعلى أنواع الشحناء، ولا ريب أن هذه الشحناءَ أعظمُ جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا.
وعن الأوزاعي -رحمه الله- أنه قال: (المشاحن كلُّ صاحب بدعة فارقَ عليها الأمَّة).
وكذا قال ابن ثوبان: (المشاحنُ هو التاركُ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الطاعنُ على أمته، السافكُ دماءهم)، وهذه الشحناء؛ أعني شحناءَ البدعة؛ توجب الطعن على جماعة المسلمين، واستحلالِ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، كبدع الخوارج والروافض ونحوهم.
قال بعض السلف: أفضلُ الأعمال سلامةُ الصدور، وسخاوةُ النفوس، والنصحُ للأمة، وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصوم والصلاة، فنقِّ قلبك يا عبد الله.
إخواني وأحبابي في دين الله!
اجتنبوا الذنوبَ والمعاصي والسيئاتِ التي تَحرِم العبدَ مغفرةَ مولاه الغفار، في مواسم الرحمة والتوبة والاستغفار.
أما الشرك فقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ (المائدة: 72).
وأما القتل؛ قتل المسلم لأخيه المسلم؛ فـ«لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ». (ت) (1398).
وأما الزنا يا عباد الله؛ فحذارِ حذارِ من التعرض لسخط الجبار، الخلق كلُّهم عبيد الله وإماؤه، والله يغار، النبي محمد صلى الله عليه وسلم ينادي فيقول: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ؛ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِي، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا». (خ) (5221)، فمن أجل ذلك حرم الفواحش، وأمر بغض الأبصار.
وأما الشحناء؛ فالمؤمنون ليسوا من أهلها فيا من أضمر لأخيه السوء، وقصدَ له الإضرار، لا تنسَ قول اللهِ العليِّ الجبار: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ (إبراهيم: 42)، يكفيك حرمانُ المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الآخرة:
الحمد لله حمد الشاكرين الصابرين ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين وبعد؛
لقد [اشتَهَر بعضُ الصالحين بكثرةِ الصيام، فكان يجتهدُ في إظهارِ فطرِه للناس]، -هو لا يرائي الناس؛ بل يري الله إخلاصه، يبين أن عمله خالصا لله، فيبين أنه ليس بصائم، هذا في غير رمضان يجتهد حتى لا يَظهرَ للناس صيامُه- [حتى كانَ يقومُ يومَ الجمعةِ] -وهو صائم- [والناسُ مجتمعون في مسجد الجامع، فيأخذُ إبريقا فيضع بُلْبُلَتَه في فيه ويمصُّه]، -ويظهرُ للناس أنه يشرب منه- [ولا يزدرد] -ولا يبتلع- [منه شيئا، ويبقى ساعة كذلك]، -أي مدة- [ينظر الناسُ إليه فيظنون أنه يشرب الماء، وما دخل إلى حلقه منه شيء]. فأين نحن من هؤلاء؟
-وبعضهم كان لا يظهر للناس أنه صائم، فيذهب إلى دكانه من عند أهله بطعامه وفُطورِه، فيظنُّ أهله أنه يفطر في الدكّان، ويضعه عنده إلى غروب الشمس، ويظنه الناس أنه أفطر عند أهله، وأين نحن من هؤلاء المخلصين يا عباد الله؟!-
[كم سترَ الصادقون أحوالهم؟ وريحُ الصدق يَنِمُّ عليهم؟ ريحُ الصيام أطيبُ من ريح المسك، تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي، وكلما طالت عليه المدة؛ ازدادت] -وازدانت- [قوةُ ريحه]. بتصرف من (لطائف المعارف) لابن رجب (ص: 132)
[فيا أيها الْغَافِلُ! تَنَبَّهْ لِرَحِيلِكَ وَمَسْرَاكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تُسْتَلَبَ عَلَى مُوَافَقَةِ هَوَاكَ، انْتَقِلْ إِلَى الصَّلاحِ قَبْلَ أَنْ تُنْقَلَ، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ عَلَى مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ، وَلا تَغْفُلْ عَنِ التَّدَارُكِ؛ اللَّهَ اللَّهَ لا تَفْعَلْ]. التبصرة لابن الجوزي (2/ 48).
[اللَّهُمَّ صَلِّ وسلم وبارك عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وصحبه أجمعين، وَاجْعَلْ ذِكْرَ الآخِرَةِ لِقُلُوبِنَا مُلازِمًا، وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ تَوْفِيقًا جَازِمًا، وَذَكِّرْنَا رَحِيلَنَا -يا الله- قَبْلَ أَنْ نَرَى الْمَوْتَ هَاجِمًا، وَاقْبَلْ صَالِحَنَا، وَاغْفِرْ لِمَنْ كَانَ آثِمًا].
اللَّهُمَّ أَعِنّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ يَغْلِبَنا دَيْنٌ أَوْ عَدُوٌّ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ قهرِ الرِّجَالِ.
اللهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللهُمَّ آتِ نفوسَنا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا، اللهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا.
﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ (العنكبوت: 45).
[1] قد نظم بعضهم المحدثين -وهو الصاحب بن عبّاد- أسماء الشهور فقال شعرا:
أَرَدْتَ شُهُورَ العُرْبِ في جَاهِلِيَّةٍ
فَخُذْهَا عَلَى سَرْدِ المُحَرّم تشتَرِكْ
فمؤتمرٌ يأتي ومِن بَعْدُ ناجرٌ
وخَوَّانُ مع وبْصَانَ يُجْمَعُ في شَرَكْ
حَنينٌ ورُبّى والأصَمُّ وعاذلٌ
وناتِقٌ مَعْ وَعِلٍ وَوَرْنَة مَعْ بُرَكْ
|
من كتاب (الأزمنة والأمكنة)..