شرح باب الصبر من كتاب رياض الصالحين
باب الصبر:
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ﴾ [آل عمران: 200]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]، وقال تعالى: ﴿ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وقال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ﴾ [محمد: 31].
والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله:
الصبر في اللغة: الحبس.
والمراد به في الشرع: حبس النفس على أمور ثلاثة:
الأول: على طاعة الله.
الثاني: عن محارم الله.
الثالث: على أقدار الله المؤلمة.
هذه أنواع الصبر التي ذكرها أهل العلم:
الأمر الأول: أن يصبر الإنسان على طاعة الله لأن الطاعة ثقيلة على النفس، وتصعب على الإنسان، وكذلك ربما تكون ثقيلة على البدن بحيث يكون مع الإنسان شيء من العجز والتعب، وكذلك أيضًا يكون فيها مشقة من الناحية المالية؛ كمسألة الزكاة، ومسالة الحج، فالطاعات فيها شيء من المشقة على النفس والبدن، فتحتاج إلى صبر، وإلى معاناة؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
الأمر الثاني: الصبر عن محارم الله، بكف الإنسان نفسه عما حرَّم الله عليه؛ لأن النفس الأمارة بالسوء تدعو إلى السوء، فَيُصبِّر الإنسان نفسه؛ مثل الكذب، والغش في المعاملات، وأكل المال بالباطل بالربا أو غيره، والزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وما أشبه ذلك من المعاصي الكثيرة.
فيحبس الإنسان نفسه عنها حتى لا يفعلها، وهذا يحتاج أيضًا إلى معاناة، ويحتاج إلى كف النفس والهوى.
أما الأمر الثالث: فهو الصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأن أقدار الله – عز وجل – على الإنسان ملائمة ومؤلمة.
الملاءمة: تحتاج إلى الشكر، والشكر من الطاعات؛ فالصبر عليه من النوع الأول.
ومؤلمة: بحيث لا تلائم الإنسان، تكون مؤلمة؛ فيُبتلى الإنسان في بدنه، ويُبتلى في ماله بفقده، ويُبتلى في أهله، ويُبتلى في مجتمعه، وأنواع البلايا كثيرة تحتاج إلى صبر ومعاناة؛ فيُصبِّر الإنسان نفسه عما يحرم عليه من إظهار الجزع باللسان، أو بالقلب، أو بالجوارح؛ لأن الإنسان عند حلول المصيبة له أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يتسخَّط.
والحالة الثانية: أن يصبر.
والحالة الثالثة: أن يرضى.
والحالة الرابعة: أن يشكر.
هذه أربع حالات تكون للإنسان عندما يصاب بالمصيبة.
أما الحال الأولى: أن يتسخط إما بقلبه، أو بلسانه، أو بجوارحه.
التسخط بالقلب: أن يكون في قلبه – والعياذ بالله – شيء على ربه من السخط والشره على الله – والعياذ بالله – وما أشبه، ويشعر وكأن الله قد ظلمه بهذه المصيبة.
وأما السخط باللسان: فأن يدعو بالويل والثبور: يا ويلاه، ويا ثبوراه، وأن يسب الدهر فيؤذي الله – عز وجل – وما أشبه ذلك.
وأما التسخط بالجوارح: مثل أن يلطم خده، أو يصفع رأسه، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، وما أشبه هذا.
هذه حال السخط، حال الهَلِعِين الذين حُرِموا الثواب، ولم ينجوا من المصيبة، بل الذين اكتسبوا الإثم؛ فصار عندهم مصيبتان، مصيبة في الدين بالسخط، ومصيبة في الدنيا بما أتاهم مما يؤلمهم.
أما الحال الثانية: فالصبر على المصيبة؛ بأن يحبس نفسه، هو يكره المصيبة، ولا يحبها، ولا يحب أن وقعت، لكن يُصبِّر نفسه؛ لا يتحدث باللسان بما يسخط الله، ولا يفعل بجوارحه ما يغضب الله، ولا يكون في قلبه شيء على الله أبدًا، فهو صابر لكنه كاره لها.
والحال الثالثة: الرضا؛ بأن يكون الإنسان منشرحًا صدره بهذه المصيبة، ويرضى بها رضاء تامًّا وكأنه لم يصب بها.
والحالة الرابعة: الشكر؛ فيشكر الله عليها، وكان النبي – عليه الصلاة والسلام – إذا رأى ما يكره قال: «الْحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»[1].
فيشكر الله من أجل أن الله يُرتِّب له من الثواب على هذه المعصية أكثر مما أصابه.
ولهذا يُذكر عن بعض العابدات أنها أصيبت في أصبعها، فحمدت الله على ذلك، فقالوا لها: كيف تحمدين الله والأصبع قد أصابه ما أصابه، قالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها. والله الموفِّق.
ثم ساق المؤلف – رحمه الله تعالى – الآيات التي فيها الحث على الصبر والثناء على فاعليه، فقال: وقول الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ﴾ [آل عمران: 200]، فأمر الله المؤمنين بمقتضى إيمانهم، وبشرف إيمانهم بهذه الأوامر الأربعة: ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
فالصبر عن المعصية، والمصابرة على الطاعة، والمرابطة كثرة الخير وتتابع الخير، والتقوى تعم ذلك كله؛ ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
فاصبروا عن محارم الله، لا تفعلوها، تجنبوها ولا تقربوها.
ومن المعلوم أن الصبر عن المعصية لا يكون إلا حيث دعت إليه النفس، أما الإنسان الذي لم تطرأ على باله المعصية فلا يقال إنه صبر عنها، ولكن إذا دعتك نفسك إلى المعصية فاصبر، واحبس النفس.
وأما المصابرة فهي على الطاعة؛ لأن الطاعة فيها أمران:
الأمر الأول: فعل يتكلف به الإنسان ويلزم نفسه به.
والأمر الثاني: ثِقَل على النفس؛ لأن فعل الطاعة كترك المعصية ثقيل على النفوس الأمَّارة بالسوء.
فلهذا كان الصبر على الطاعة أفضل من الصبر عن المعصية؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿ وَصَابِرُوا ﴾؛ كأن أحدًا يصابرك كما يصابر الإنسان عدوه في القتال والجهاد.
وأما المرابطة فهي كثرة الخير والاستمرار عليه؛ ولهذا جاء في الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»[2]؛ لأن فيه استمرارًا في الطاعة وكثرة لفعلها.
وأما التقوى فإنها تشمل ذلك كله؛ لأن التقوى اتخاذ ما بقي من عقاب الله، وهذا يكون بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
وعلى هذا فعطفها على ما سبق من باب عطف العام على الخاص.
ثم بيَّن الله – سبحانه وتعالى – أن القيام بهذه الأوامر الأربعة سبب للفلاح؛ فقال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
والفلاح كلمة جامعة تدور على شيئين: على حصول المطلوب، وعلى النجاة من المرهوب.
فمن اتقى الله – عز وجل – حصل له مطلوبه، ونجا من مرهوبه.
وأما الآية الثانية فقال – رحمه الله -: وقوله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]؛ هذه الآية فيها قسم من الله – عز وجل – أن يختبر العباد بهذه الأمور.
فقوله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾؛ أي: لنختبرنكم.
﴿ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ﴾؛ لا الخوف كله؛ بل بشيء منه؛ لأن الخوف كله مهلك ومدمر، لكن بشيء منه.
﴿ الْخَوْفِ ﴾: هو فقد الأمن، وهو أعظم من الجوع؛ ولهذا قدَّمه الله عليه؛ لأن الإنسان الجائع ربما يتعلل ويذهب يطلب، ولو كان لِحَاء شجر، لكن الخائف – والعياذ بالله – لا يستقر لا في بيته ولا في سوقه، والخائف أعظم من الجائع؛ ولهذا بدأ الله به، فقال: ﴿ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ﴾، وأخوف ما نخاف منه ذنوبنا؛ لأن الذنوب سبب لكل الويلات، وسبب للمخاطر، والمخاوف، والعقوبات الدينية، والعقوبات الدنيوية.
﴿ وَالْجُوعِ ﴾: يُبتلى بالجوع.
والجوع يحمل معنيين:
المعنى الأول: أن يحدث الله – سبحانه – في العباد وباء؛ هو وباء الجوع، بحيث يأكل الإنسان ولا يشبع، وهذا يمر على الناس، وقد مر بهذه البلاد سنة معروفة عند العامة تسمى سنة الجوع؛ يأكل الإنسان الشيء الكثير ولكنه لا يشبع – والعياذ بالله – أبدًا؛ نُحدَّث أن الإنسان يأكل من التمر مِخفرًا كاملًا في آنٍ واحد ولا يشبع – والعياذ بالله – ويأكل الخبز الكثير، ولا يشبع لمرض فيه؛ هذا نوع من الجوع.
النوع الثاني من الجوع: الجدب والسنون الممحلة، التي لا يدر فيها ضرع، ولا ينمو فيها زرع، هذا من الجوع.
وقوله: ﴿ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ ﴾؛ يعني: نقص الاقتصاد، بحيث تصاب الأمة بقلة المادة والفقر، ويتأخر اقتصادها، وتُرْهَق حكومتها بالديون التي تأتي نتيجة لأسباب يقدرها الله – عز وجل – ابتلاء وامتحانًا.
وقوله: ﴿ وَالْأَنْفُسِ ﴾؛ أي: الموت؛ بحيث يحل في الناس أوبئة تهلكهم وتقضي عليهم؛ وهذا أيضًا يحدث كثيرًا، ولقد حُدِّثنا أنه حدث في هذه البلاد – أي: البلاد النجدية – حدث فيها وباء عظيم، تُسمى سنته عند العامة: (سنة الرحمة)، إذا دخل الوباء في البيت لم يبق منهم أحد إلا دفن – والعياذ بالله – يدخل في البيت فيه عشرة أنفس أو أكثر، فيُصاب هذا بمرض، ومن غد الثاني والثالث والرابع، حتى يموتوا عن آخرهم، وحُدِّثنا أنه قدم هذا المسجد – مسجد الجامع الكبير بعنيزة – وكان الناس بالأول في قرية صغيرة، ليس فيها ناس كثير كما هو الحال اليوم، يُقدَّم أحيانًا في فرض الصلاة الواحد سبع إلى ثمان جنائز، نعوذ بالله من الأوبئة؛ هذا أيضًا نقص من الأنفس.
وقوله: ﴿ وَالثَّمَرَاتِ ﴾؛ أي: أن لا يكون هناك جوع، ولكن تنقص الثمرات، تُنزع بركتها في الزروع والنخيل وفي الأشجار الأخرى، والله – عز وجل – يبتلي العباد بهذه الأمور ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
فيقابل الناس هذه المصائب بدرجات متنوعة، بالتسخط، أو بالصبر أو بالرضا، او بالشكر، كما قلناه فيما سبق. والله الموفق.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
﴿ يُوَفَّى الصَّابِرُون ﴾؛ أي: يُعطى الصابرون ﴿ أَجْرَهُمْ ﴾؛ أي: ثوابهم.
وقوله: ﴿ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ وذلك أن الأعمال الصالحة مضاعفة؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
أما الصبر فإن مضاعفته تأتي بغير حساب من عند الله – عز وجل – وهذا يدل على أن أجره عظيم، وأن الإنسان لا يمكن أن يتصور هذا الأجر؛ لأنه لم يقابل بعدد، بل هو أمر معلوم عند الله ولا حساب فيه، لا يقال مثلًا: الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف، بل يقال: إنه يوفى أجره بغير حساب.
وفي هذه الآية من الترغيب في الصبر ما هو ظاهر.
ثم قال المؤلف:
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]؛ أي: أن الذي يصبر على أذى الناس ويحتملهم ويغفر لهم سيئاتهم التي يسيئون بها إليه؛ فإن ذلك ﴿ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾؛ أي: من معزوماتها وشدائدها التي تحتاج إلى مقابلة ومصابرة، ولا سيما إذا كان الأذى الذي ينال الإنسان بسبب جهاده في الله – عز وجل – وبسبب طاعته؛ لأن أذية الناس لك لها أسباب متعددة متنوعة؛ فإذا كان سببها طاعة الله – عز وجل – والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن الإنسان يثاب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: من الأذية التي تحصل له.
والوجه الثاني: صبره على هذه الطاعة التي أوذي في الله من أجلها.
وفي هذه الآية حث على صبر الإنسان على أذية الناس، ومغفرته لهم ما أساؤوا إليه فيه.
ولكن ينبغي أن يعلم أن المغفرة لمن أساء إليك ليست محمودة على الإطلاق؛ فإن الله تعالى قيَّد هذا بأن يكون العفو مقرونًا بالإصلاح، فقال: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، أما إذا لم يكن في العفو والمغفرة إصلاح فلا تعف ولا تغفر.
مثال ذلك: لو كان الذي أساء إليك شخصًا معروفًا بالشر والفساد، وأنك لو عفوت عنه لكان في ذلك زيادة في شره؛ ففي هذه الحال الأفضل أن لا تعفو عنه، بل تأخذ بحقك؛ من أجل الإصلاح، أما إذا كان الشخص إذا عفوت عنه لم يترتب على العفو عنه مفسدة؛ فإن العفو أفضل؛ لأن الله يقول: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، وإذا كان أجرك على الله لكان خيرًا لك من أن يكون ذلك بمعاوضة تُؤخذ من أعمال صاحبك الصالحة.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]؛ أمر الله – سبحانه وتعالى – أن نستعين على الأمور بالصبر عليها؛ لأن الإنسان إذا صبر وانتظر الفرج من الله سهلت عليه الأمور.
فأنت إذا أُصبت بشيء يحتاج إلى الصبر فاصبر وتحمل، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.
وأما الصلاة فإنها تعين على الأمور الدينية والدنيوية، حتى إن الرسول – عليه الصلاة والسلام – ذكر عنه أنه إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة[3].
وبيَّن الله في كتابه أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا استعان الإنسان بالصلاة عل أموره يسَّر الله له ذلك؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، فيقف الإنسان فيها بين يدي الله، ويناجيه، ويدعوه، ويتقرب إليه بأنواع القربات التي تكون في هذه الصلاة؛ فكانت سببًا للمعونة.
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾؛ يعني ذلك المعية الخاصة؛ لأن معية الله – سبحانه وتعالى – تنقسم إلى قسمين:
1- معية عامة شاملة لكل أحد، وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ [الحديد: 4]، وفي قوله تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ﴾ [المجادلة: 7].
وهذه المعية العامة شاملة لجميع الخلق، فما من مخلوق إلا والله – تعالى – معه؛ يعلمه، ويحيط به سلطانًا، وقدرة، وسمعًا، وبصرًا، وغير ذلك.
2- أما المعية الخاصة فهي المعية التي تقتضي النصر والتأييد؛ وهذه خاصة بالرسل وأتباعهم؛ ليست لكل أحد؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على هذه المعية الخاصة.
ولكن المعيتين كلتيهما لا تدلان على أن الله – سبحانه وتعالى – مع الناس في أمكنتهم، بل هو مع الناس، وهو – عز وجل- فوق سماواته على عرشه، ولا مانع من ذلك؛ فإن الشيء يكون فوق وهو معك.
والعرب يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا. وكُلٌّ يعلم أن القمر في السماء، ويقولون: ما زلنا نسير وسهيل معنا؛ وهو نجم معروف، وهو في السماء؛ فما بلك بالخالق – عز وجل – هو فوق كل شيء استوي على عرشه، ومع ذلك هو محيط بكل شيء، مع كل أحد؛ مهما انفردتَ فإن الله – تعالى – محيط بك؛ علمًا، وقدرة، وسلطانًا، وسمعًا، وبصرًا، وغير ذلك.
وفي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ دليل على أن الله يعين الصابر ويؤيده ويكلأه حتى يتم له الصبر على ما يحبه الله عز وجل.
الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ﴾: لنختبرنَّكم: فالابتلاء بمعنى الاختبار، أو البلوى بمعنى الاختبار.
يعني: أن الله اختبر العباد في فرض الجهاد عليهم؛ ليعلم من يصبر ومن لا يصبر؛ ولهذا قال الله – تعالى – في آية أخري: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾ [محمد: 4- 6].
وقوله عز وجل: ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ﴾؛ قد يتوهم بعض من قَصُرَ علمه أن الله – سبحانه – لا يعلم الشيء حتى يقع؛ وهذا غير صحيح؛ فالله – تعالى – يعلم الأشياء قبل وقوعها؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70].
ومن أدعى أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه؛ فإنه مكذِّب لهذه الآية وأمثالها من الآيات الدالة على أن الله – تعالى – قد علم الأشياء قبل أن تقع.
لكن العلم الذي في هذه الآية ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ﴾؛ هو العلم الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب؛ وذلك لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون لا يترتب عليه شيء من جهة فعل العبد؛ لأن العبد لم يُبْلَ به حتى يتبين الأمر؛ فإذا بُليَ به العبد، واختُبر به، حينئذ يتبين أنه استحق الثواب أو العقاب؛ فيكون المراد بقوله: ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ﴾؛ أي: علمًا يترتب عليه الجزاء.
وقال بعض أهل العلم: المراد بقوله: ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ﴾؛ أي: علم ظهور؛ يعني: حتى يظهر الشيء؛ لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأنه سيكون، وعلمه بعد كونه علم بأنه كان، وفرق بين العلمين.
فالعلم الأول علم بأنه سيكون، والثاني علم بأنه كان.
ويظهر لك الفرق لو أن شخصًا قال لك: سوف أفعل كذا وكذا غدًا، فالآن حصل عندك علم بما أخبر به، ولكن إذا فعله غدًا صار عندك علم آخر؛ أي: علم بأن الشيء الذي حدَّثك أنه سيفعله قد فعله فعلًا؛ فهذان وجهان في تخريج قوله تعالى ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ ﴾.
الوجه الأول: أن المراد به العلم الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب، وهذا لا يكون إلا بعد البلوى، بعد أن يبتلي الله العبد ويختبره.
الوجه الثاني: أن المراد به علم الظهور؛ لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأنه سيكون، فإذا كان صار علمه تعالى به علمًا بما كان.
وقوله: ﴿ الْمُجَاهِدِينَ ﴾؛ المجاهد: هو الذي بذل جهده لإعلاء كلمة الله، فيشمل المجاهد بعلمه، والمجاهد بالسلاح، فكلاهما مجاهد في سبيل الله، فالمجاهد بعلمه؛ الذي يتعلم العلم ويُعلِّمه وينشره بين الناس، ويجعل هذا وسيلة لتحكيم شريعة الله، هذا مجاهد.
والذي يحمل السلاح لقتال الأعداء هو أيضًا مجاهد في سبيل الله، إذا كان المقصود في الجهادين أن تكون كلمة الله هي العليا.
وقوله: ﴿ وَالصَّابِرِينَ ﴾؛ أي: يصبرون على ما كلفوا فيه من الجهاد ويتحملونه ويقومون به.
وقوله:﴿ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾؛ أي: نختبرها وتتبين لنا وتظهر لنا ظهورًا يترتب عليه الثواب والعقاب.
لَمَّا ذكر الله هذا الابتلاء قال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾؛ والخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكل من يبلغه هذا الخطاب؛ يعني: بشر يا محمد، وبشر يا من يبلغه هذا الكلام الصابرين الذين يصبرون على هذه البلوى فلا يقابلونها بالتسخط، وإنما يقابلونها بالصبر، وأكمل من ذلك أن يقابلونها بالرضا، وأكمل من ذلك أن يقابلونها بالشكر، كما مَرَّ علينا أن المصاب بالمصائب من أقدار الله المؤلمة له أربع حالات: تسخط، وصبر، ورضًا، وشكر، وهنا قال: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156]، وقوله: ﴿ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ ﴾؛ إذا أصابتهم مصيبة اعترفوا لله – عز وجل – بعموم ملكه، وأنهم مِلك لله، ولله أن يفعل في ملكه ما شاء؛ ولهذا قال النبي – عليه الصلاة والسلام – لإحدى بناته، قال لها: «إِنَّ اللهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى»[4]، فأنت مِلك لربك – عز وجل – يفعل بك ما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته تبارك وتعالى.
ثم قال: ﴿ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾؛ يعترفون بأنهم لابد أن يرجعوا إلى الله فيجازيهم؛ إن تسخطوا جازاهم على سخطهم، وإن صبروا – كما هو شأن هؤلاء القوم – فإن الله تعالى يجازيهم على صبرهم على هذه المصائب؛ فيبتلي – عز وجل – بالبلاء ويثيب الصابر عليه.
قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 157].
﴿ أُولَئِكَ ﴾؛ يعيِّن الصابرين، ﴿ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾، والصلوات جمع صلاة؛ وهي ثناء الله عليهم في الملأ الأعلى، يثني الله عليهم عند ملائكته.
وقوله: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾؛ الذين هداهم الله – عز وجل – عند حلول المصائب، فلم يتسخطوا؛ وإنما صبروا على ما أصابهم.
وفي هذه الآية دليل على أن صلاة الله – عز وجل – ليست هي رحمته، بل هي أخص وأكمل وأفضل، ومن فسرها من العلماء بأن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، ومن الآدميين الاستغفار؛ فإن هذا لا وجه له، بل الصلاة غير الرحمة؛ لأن الله تعالى عطف الرحمة على الصلوات، والعطف يقتضي المغايرة؛ ولأن العلماء مجمعون على أنك يجوز لك أن تقول لأي شخص من المؤمنين: اللهم ارحم فلانًا، واختلفوا؛ هل يجوز أن تقول: اللهم صلِّ عليه، أو لا يجوز، على أقوال ثلاثة: فمنهم من أجازها مطلقًا، ومنهم من منعها مطلقًا، ومنهم من أجازها إذا كانت تبعًا.
والصحيح أنها تجوز إذا كانت تبعًا، كما في قوله: «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد»، أو لم تكن تبعًا ولكن لها سبب؛ كما قال الله: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 103]، فإذا كان لها سبب، ولم تُتَّخذ شعارًا، فإن ذلك لا بأس به؛ فلا بأس أن تقول: اللهم صل على فلان، فلو جاءك رجل بزكاته، وقال لك: خذ زكاتي وفرقها على الفقراء، فلك أن تقول: صلى الله عليك، تدعو له بأن يصلي الله عليه كما أمر الله نبيه بذلك.