سيرة الشيخ علي الطنطاوي
أ. مجاهد مأمون ديرانية
عاش جدي الشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله – حياة حافلة بالأحداث زاخرة بالأعمال الجليلة، وقد أتيح له تسجيل بعضها، كما أتيح لغيره تسجيل بعضها الآخر. ومع ذلك فإن كل ما تم تسجيله عن حياته لا يتسع لها لامتدادها، وكثرة أحداثها. ولعلنا في هذا المقال نغطي بعض الجوانب الجديرة من هذه الحياة العظيمة.
أصله وأسرته:
حيث إن لقب جدي هو الطنطاوي فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن أصله من طنطا في مصر، والأمر – بالفعل – كذلك. فقد نزح جده منها إلى دمشق سنة 1255هـ، أي منذ قرن وثلاثة أرباع القرن، برفقة عمه. وكان عمه هذا عالماً أزهرياً، حمل علمه معه إلى ديار الشام، حيث جدد فيها العناية بالعلوم العقلية ولا سيما الفلك والرياضيات.
مات سنة 1306هـ، أي قبل أن يولد جدي بإحدى وعشرين سنة. وترجمته في الكتاب القيم “روض البشر” للشيخ عبد الرزاق البيطار، وفي كتاب “الحدائق” للشيخ عبد المجيد الخاني – وهما تلميذاه – وقد جاء في ترجمته: “هو محمد بن مصطفى، الطنطاوي مولداً، الدمشقي موطناً، الشافعي مذهباً. وكان فقيهاً عالماً بالعربية والفلسفة والعلوم، ومن آثاره “البسيط” وهو آلة فلكية الموضوع في منارة العروس بالجامع الأموي. ومن نظر في تراجم علماء الشام في القرن الماضي وجد الكثير منهم قد قرأ عليه وقعد بين يديه”[1].
هكذا كان ابتداء أمر أسرة الطنطاوي في الشام. أما جد جدي الذي جاء من مصر برفقة عمه الشيخ محمد فهو: أحمد بن علي بن مصطفى، وقد كان إمام طابور متقاعداً في الجيش العثماني. وقد وصفه جدي لنا[2] فعلمنا من وصفه أنه كان نظامياً حريصاً على الترتيب؛ كل شيء في حياته بحساب، المنام والقيام والطعام. وقد سكن أولاً مع عمه في داره الكبيرة وتزوج ابنته؛ لذلك كان يعرف نفسه بأنه سبط الطنطاوي أي ابن بنته[3].
هذا هو جد جدي، أما أبوه الشيخ مصطفى الطنطاوي، فقد كان من العلماء المعدودين في الشام، وانتهت إليه أمانة الفتوى في دمشق، كان من صدور الفقهاء ومن الطبقة الأولى من المعلمين والمربين[4].
وكان الشيخ مصطفى مديراً للمدرسة التجارية التي دَرَس فيها جدي، وكانت مدرسة جامعة، فيها قسم للحضانة، وقسم للابتدائي، وقسم للإعدادي والثانوي، مجموع سنوات الدراسة فيها اثنتا عشرة سنة، وبعد ما ترك مديرية المدرسة ولي منصب رئيس ديوان محكمة النقض عام 1918م إلى أن توفي في عام 1925م وكان عمرُ جدي – حينذاك – ست عشرة سنة وثلاثة أشهر[5].
وأسرة أمه أيضاً من الأسر العلمية في الشام فهي: رئيفة بنت الشيخ أبي الفتح الخطيب، وأصل أسرتها من بغداد، ثم نزلت حماة ونزح فرع منها إلى قرية عذراء (عدرا) شرقي طريق دمشق – حلب مشرفة على الغوطة، وانتقل منهم إلى دمشق الشيخ عبد الرحمن بن محمد الخطيب المدفون في مقبرة الدحداح سنة 1199هـ. وقد بلغت ذريته الآلاف وغدت من أكبر الأسر الدمشقية[6]، وكثير من أفرادها من العلماء المعدودين ولهم تراجم في كتب الرجال، وخاله، أخو أمه، هو محب الدين الخطيب، الذي استوطن مصر وأنشأ فيها صحيفتي “الفتح” و”الزهراء” وكان له أثر في الدعوة فيها في مطلع هذا القرن.
نشأته ودراسته:
كان علي الطنطاوي من أوائل الذين جمعوا في الدراسة بين طريقي التلقي على المشايخ والدراسة في المدارس النظامية، وقد عَد من مشايخه الذين قرأ عليهم – في حاشية طويلة في أول كتابه “تعريف عام بدين الإسلام” – طائفة منهم يجاوزون الأربعين.
تلقى دراسته الابتدائية الأولى في العهد العثماني، فكان طالباً في المدرسة التجارية التي كان أبوه مديراً لها إلى سنة 1918م، ثم في المدرسة السلطانية الثانية، وبعدها في المدرسة الجقمقية، ثم في مدرسة حكومية أخرى إلى سنة 1923م، حين دخل مكتب عنبر الذي كان الثانوية الكاملة الوحيدة في دمشق حينذاك، ومنه نال (البكالوريا) الثانوية العامة سنة 1928م. لقد عاش جدي في هذه المدرسة ستاً من أغنى سني حياته، لم ينس أثرها ولم تغب عنه ذكراها إلى آخر أيامه[7].
بعد ذلك ذهب إلى مصر ودخل دار العلوم العليا، وكان أول طالب من الشام يؤم مصر للدراسة العالية، ولكنه لم يتم السنة الأولى، وعاد إلى دمشق في السنة التالية 1929م، فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال (الليسانس) الإجازة الجامعية سنة 1933م. وقد رأى – لما كان في مصر – لجاناً للطلبة لها مشاركة في العمل الشعبي والنضالي، فلما عاد إلى الشام دعا إلى تأليف لجان على تلك الصورة؛ فأُلفت لجنة للطلبة سميت “اللجنة العليا لطلاب سوريا” وانتخب رئيساً لها وقادها نحواً من ثلاث سنين. وكانت لجنة الطلبة هذه بمثابة اللجنة التنفيذية للكتلة الوطنية التي كانت تقود النضال ضد الاستعمار الفرنسي للشام، وهي التي كانت تنظم المظاهرات والإضرابات، وهي التي تولت إبطال الانتخابات المزورة سنة 1931م.
وقد علمتم أن أباه توفي وعمره ست عشرة سنة، فكان عليه أن ينهض بأعباء أسرة فيها أم وخمسة من الإخوة والأخوات هو أكبرهم.
ومن أجل ذلك فكر في ترك الدراسة، واتجه إلى التجارة، ولكن الله صرفه عن هذا الطريق وعاد إلى الدراسة ليكمل طريقه فيها[8].
ثم ماتت أمه وهو في الرابعة والعشرين، فكانت تلك واحدة من أكبر الصدمات التي تلقاها في حياته بعد صدمته بموت والده. ولقد شهدته مراراً يذكرها ويذكر موتها – وقد مضى على موتها أكثر من ستين سنة – وأشهد أنه ما ذكرها إلا وفاضت عيناه[9].
في الصحافة:
نشر علي الطنطاوي أول مقالة له في جريدة عامة في عام 1926م، نشرها له الأستاذ محمد كرد علي في جريدة “المقتبس”، وكان في السابعة عشرة من عمره[10] وبعد هذه المقالة لم ينقطع علي الطنطاوي من الصحافة أبداً، فعمل بها في كل أوقات حياته ونشر في كثير من الصحف، شارك في تحرير مجلتي خاله محب الدين الخطيب، “الفتح” و”الزهراء” حين زار مصر سنة 1926م، ولما عاد إلى الشام – في السنة التالية – عمل في جريدة “فتى العرب” مع الأديب الكبير معروف الأرناؤوط، ثم في “ألف باء” مع شيخ الصحافة السورية يوسف العيسى، ثم كان مدير تحرير جريدة “الأيام” التي أصدرتها الكتلة الوطنية سنة 1931م ورأس تحريرها الأستاذ الكبير عارف النكدي، وله فيها كتابات وطنية كثيرة. وخلال ذلك كان يكتب في “الناقد” و”الشعب” وسواهما من الصحف. وفي سنة 1933م أنشأ الزيات المجلة الكبرى، “الرسالة” فكان جدي واحداً من كتابها واستمر فيها عشرين سنة إلى أن احتجبت سنة 1953م. وكتب – إضافة إلى كل ذلك – سنوات في مجلة “المسلمون”، وفي “الأيام” و”النصر”. وحين جاء إلى المملكة نشر في مجلة “الحج” في مكة، وفي جريدة “المدينة”، وأخيراً نشر ذكرياته في “الشرق الأوسط” على مدى نحو من خمس سنين، وله مقالات متناثرة في عشرات من الصحف والمجلات التي كان يعجِز – هو نفسه – عن حصرها وتذكر أسمائها.
وقد بقيت الصحافة أبداً العمل الأثير لديه[11]، وفي الذكريات المنشورة – الجزء الثاني، الحلقات 35-37 – تفصيل ممتع وأخبار كثيرة طريفة مفيدة عن اشتغاله بالصحافة وعن الذين اشتغل معهم فيها، فمن شاء فليرجع إليها هناك.
في التعليم:
إذا كانت الصحافة هي المهنة التي أحبها علي الطنطاوي، فإن التعليم هو العمل الذي ملأ حياته كلها، لقد كان يقول عن نفسه إنه أقدم المعلمين في الدنيا أو من أقدمهم. وكيف لا يكون كذلك وهو قد بدأ بالتعليم ولما يزل طالباً في المرحلة الثانوية؟! لقد بدأ بالتدريس في المدارس الأهلية بالشام، في الأمينية والجوهرية والكاملية، وهو في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة ممن عمره في عام 1345 هجرية، وقد طبعت محاضراته التي ألقاها على طلبه الكلية العلمية الوطنية في دروس الأدب العربي عن بشار بن برد في كتاب عام 1930م – أي حين كان في الحادية والعشرين من العمر.
بعد ذلك صار معلماً ابتدائياً في مدارس الحكومة سنة 1931م حين أغلقت السلطات جريدة “الأيام” التي كان يعمل مديراً لتحريرها، وبقي في الابتدائي إلى سنة 1935م. وكانت حياته في تلك المدة سلسلة من المشكلات؛ بسبب مواقفه الوطنية وجرأته في مقاومة الفرنسيين وأعوانهم في الحكومة، فما زال يُنقَل من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، حتى طوف بأرجاء سوريا جميعاً: من أطراف جبل الشيخ جنوباً إلى دير الزور في أقصى الشَّمال والشرق، ولكن شيئاً من ذلك لم يصرفه عن التعليم، أو يقعد به عن المضي فيه، اقرؤوا كيف وصف في ذكرياته[12] تنقله بين المدارس في القرى، وفي الجبال وفي الحرّات، في أيام القُرِّ وفي أيام الحر، يخوض في الثلوج وينام مع العقارب. صور لو قرأها فتيان اليوم لعجبوا كيف يطيقها إنسان، ولكننا نجده ماضياً بعزيمة وهمة لا يني ولا يكل[13].
لقد بدأ جدي التعليم مدرساً في المدارس الابتدائية في القرى، وقد انطلق إلى هذا العمل مشحوناً بحماسة ندَر أن نجد لها مثيلاً لدى معلم صبيان. ولكن طموحه كان أكبر من تعليم صبيان، كان – أبداً – يريد أن يصب ما في رأسه من علم، أو في جَعبته من إبداع حيث عمل، ومع أي أناس اشتغل. ها هو ذا يقول عن عمله مع تلاميذ المدرسة الابتدائية بقرية سلمية التي علم فيها سنة 1932م: “وكنت – من حماستي، ومما وجدت من ذكاء التلاميذ وحسن استجابتهم ورغبتهم في الاستفادة والتحصيل – أريد أن أجعل منهم كُتّاباً وخطباء، وجعلت من دروس التاريخ محاضرات وطنية، لا مجرد معرفة بأحداث الماضي” [14].
ولما نقل إلى قرية سقبا – من قرى الغوطة، قرب دمشق – في السنة التالية صار مسؤولاً عن مدرسة ابتدائية فيها أكثر من مئة من التلاميذ[15].
بعد ذلك انتقل إلى العراق – عام 1936م – مدرساً في الثانوية المركزية في بغداد، ثم في ثانويتها الغربية، ودار العلوم الشرعية في الأعظمية – التي صارت كلية الشريعة – ولكن روحه – الوثابة التي لم يتركها وراءه حين قدم العراق – وجرأته في الحق – ذلك الطبع الذي لم يفارقه قط – فعلا به في العراق ما فعلاه به في الشام، فما لبث أن نُقل مرة بعد مرة، فعلَّم في كركوك في أقصى الشَّمال وفي البصرة في أقصى الجنوب. وقد تركت تلك الحقبة في نفسه ذكريات لم ينسها، وأحب بغداد حتى ألَّف فيها كتاباً[16]. وكانت تجربته في التعليم الثانوي هناك مختلفة عن تجربته في التعليم الابتدائي في الشام أيما اختلاف، فقد انتقل من تلقين تلاميذ صغار محدودي الإدراك إلى تعليم طلاب كبار يتلهفون للتَّلقي والتعلُّم، فتفجرت قريحته ونَثَر ذخائر علمه بدون حساب[17].
بقي علي الطنطاوي يدرس في العراق حتى عام 1939م، لم ينقطع عنه غير سنة واحدة أمضاها في بيروت مدرساً في الكلية الشرعية فيها عام 1937م.
ثم رجع إلى دمشق فعُين أستاذاً معاوناً في مكتب عنبر الذي صار يدعى مدرسة التجهيز، وهي الثانوية الرسمية حينئذ بالشام، ولكنه لم يكف عن شغبه ومواقفه التي تسبب له المتاعب، وكان واحد من هذه المواقف في احتفال أقيم بذكرى المولد، فما لبث أن جاء الأمر بنقله إلى دير الزور. وهكذا صار معلِّماً في الدير سنة 1940م.
وألقى هناك خطبة جمعة حماسية ثار الناس بعدها غاضبين على الاستعمار الفرنسي، ولم يستطع الجنود الفرنسيون اعتقاله، ولكن لم يسمح له بالعودة إلى التدريس في دير الزور ثانية[18].
في القضاء:
انتهى الأمر بجدي في إجازة قسرية بعد حوادث دير الزور أواخر سنة 1940م. لقد أرادوا له أمراً، وأراد الله له أمراً، وكان الخير فيما اختاره له الله، فلقد هيأت له هذه الحادثة ترك التعليم والدخول في سلك القضاء، دخله ليمضي فيه ربع قرن[19] كاملاً، خمسة وعشرين عامًا من أخصب أعوام حياته. خرج من الباب الضيق للحياة ممَثَّلاً في التعليم بمدرسة ابتدائية في قرية، ودخلها من أوسع أبوابها قاضياً في النبك ثم في دوما من قرى دمشق، ثم قاضياً ممتازاً في دمشق، فمستشاراً لمحكمة النقض في الشام ثم مستشاراً لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوَحدة مع مصر.
هذه المرة أيضاً ظهر نبوغ علي الطنطاوي وبان تميزه. لقد أراد – أبداً – أن يكون متقناً لعمله مجيداً له مخلصاً فيه، وما كان ليقبل أن يستغفله أو يستغله أحد، فلما نجح في امتحان القضاء وعُيِّن قاضياً في النبك – وهي بلدة في جبال القلمون – لم يسارع إلى استلام العمل، بل طلب من الوزارة أن تمهله شهراً، حتى يعرف المعاملات كلها: من عقد النكاح، وحصر الإرث، وتنظيم الوصية، إلى الحكم في قضايا الإرث والوقف والزواج “[20].
وبعد هذا الاستعداد وفَّقه الله فكان ابتداء عمله بالقضاء خير ابتداء، فقد قابلته في محكمة النبك قضية ضخمة جداً، إضبارتها تعدل في عدد صفحاتها – كما قال – جزأين من القاموس المحيط، لا جزءاً واحداً، وكان كبار المحامين يأتون من دمشق للنظر فيها، فنظر فيها فبدا له أمر لم يكن أحد قد انتبه له، فإذا القرار. انتهت المحاكمة، ونظر إليهم فإذا هم مثل الذي يصحو من حلُم عجيب، وقد تنبهوا إلى أنهم كانوا يسيرون في طريق لا يوصل، ويضحكون من أنفسهم، ويهنئونه على هذا القرار. وذهبوا فحدثوا به في الأوساط القضائية في الشام، فكان – والحمد لله – خير ابتداء لعمله في القضاء”[21].
أمضى جدي في النبك قاضياً نحو أحد عشر شهراً، ثم كانت تنقلات في وزارة العدل بين القضاة فنقل قاضياً إلى دوما، وهي قرية من القرى المحيطة بدمشق، وكانت محكمة دوما هي الطريق إلى محكمة دمشق، فمن ولي قضاءها انتقل منها فصار قاضيا في المحكمة الكبرى في دمشق. قال: “وقد انتُدبت أول الأمر أياماً معدودة إلى محكمة دمشق فكان انتدابي إليها وعملي الرسمي في دوما، ثم صرت قاضياً رسمياً في دمشق، ثم القاضي الأول في المحكمة، الذي كانوا يدعونه القاضي الممتاز”[22].
لقد صار قاضي دمشق الممتاز، فماذا صنع في هذا الموقع الذي شغله عشر سنين كاملات، من سنة 1943م إلى سنة 1953م حين نقل مستشاراً لمحكمة النقض، لقد أحس بالمسؤولية الجسيمة التي ألقيت عليه حين صار إليه أمر المحكمة الشرعية، فلبث ليالي أرِقاً يفكر ماذا يصنع حتى اهتدى إلى فكرة عجيبة انتظم بها أمر المحكمة[23]، وانقطع بها ما كان من علل التسويف على العامة أو المحاباة للخاصة.
أما تفصيل سيرته، وما عمِلَه في محكمة دمشق فله حديث طويل، فانظروه في آخر الجزء الرابع من الذكريات المنشورة.
وقد اقترح – حين كان قاضياً في دوماً – وضْعَ قانون كامل للأحوال الشخصية، فكُلف بذلك عام 1947م وأُوفد إلى مصر مع عضو محكمة الاستئناف الأستاذ نهاد القاسم – الذي صار وزيراً للعدل أيام الوَحدة – فأمضيا تلك السنة كلها هناك، حيث كُلِّف هو بدرس مشروعات القوانين الجديدة للمواريث والوصية وسواها، كما كلف زميله بدرس مشروع القانون المدني. وقد أعدَّ هو مشروع قانون الأحوال الشخصية كلها، وصار هذا المشروع أساساً للقانون الحالي، وأُشِير إلى ذلك في مذكرته الإيضاحية.
وكان القانون يخول القاضي الشرعي في دمشق رئاسة مجلس الأوقاف وعمدة الثانويات الشرعية، فصار علي الطنطاوي مسؤولاً عن ذلك كله خلال عشر السنين التي أمضاها في قضاء دمشق، فقرر أنظمة الامتحانات في الثانويات الشرعية، وكان له يد في تعديل قانون الأوقاف ومنهج الثانويات ثم كلف عام 1960 م بوضع مناهج الدروس فيها فوضعها وحده – بعد ما سافر إلى مصر واجتمع فيها بالقائمين على إدارة التعليم في الأزهر – واعتمدت كما وضعها.
رحلاته:
وقد كانت له مشاركة في طائفة من المؤتمرات، منها حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدتها جامعة الدول العربية في دمشق في عهد أديب الشيشكلي، ومؤتمر الشعوب العربية لنصرة الجزائر، ومؤتمر تأسيس رابطة العالم الإسلامي، واثنين من المؤتمرات السنوية لاتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا. ولكن أهم مشاركة له كانت في المؤتمر الإسلامي الشعبي في القدس عام 1953م، والذي تمخضت عنه سفرته الطويلة في سبيل الدعاية لفلسطين، وقد جاب فيها باكستان والهند والملايو وأندونيسيا.
ولم تكن تلك أول رحلة طويلة يرحلها – وإن كانت الأبعد والأطول – فقد شارك في عام 1935م في الرحلة الأولى لكشف طريق الحج البري بين دمشق ومكة، وقد حفلت تلك الرحلة بالغرائب، وحُفت بها المخاطر، ومن أحب الاطلاع على تفاصيلها فلينظره في كتاب: “من نفحات الحرم”.
في المملكة العربية السعودية:
في عام 1963م قدم جدي إلى الرياض مدرساً في الكليات والمعاهد؛ وكان هذا هو الاسم الذي يطلق على كليتي الشريعة واللغة العربية، وقد صارت – من بعد – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وفي نهاية السنة عاد إلى دمشق لإجراء عملية جراحية بسبب حصوة في الكُلْية عازماً ألا يعود إلى المملكة في السنة التالية، إلا أن عرْضاً بالانتقال إلى مكة للتدريس فيها حمله على التراجع عن هذا القرار.
وهكذا انتقل علي الطنطاوي إلى مكة ليمضي فيها وفي جُدَّة خمساً وثلاثين سنة، فأقام في أجياد مجاوراً للحرم إحدى وعشرين سنة من عام 1964م إلى عام 1985م، ثم انتقل إلى العزيزية – في طرف مكة من جهة منى – فسكنها سبع سنوات، ثم إلى جُدّة فأقام فيها حتى وفاته – يرحمه الله – في عام 1999م.
بدأ جدي هذه المرحلة الجديدة من حياته بالتدريس في كلية التربية بمكة، ثم لم يلبث أن كلف بتنفيذ برنامج للتوعية الإسلامية[24]، فترك الكلية وراح يطوف على الجامعات والمعاهد والمدارس في أنحاء المملكة؛ لإلقاء الدروس والمحاضرات، وتفرغ للفتوى يجيب عن أسئلة الناس في الحرم – في مجلس له هناك – أو في بيته ساعات كل يوم، ثم بدأ برنامجيه: “مسائل ومشكلات” في الإذاعة، و”نور وهداية” في الرائي اللذين قدر لهما أن يكونا أطول البرامج عمراً في تاريخ إذاعة المملكة ورائيها.
هذه السنوات الخمس والثلاثون كانت حافلة بالعطاء الفكري للشيخ، ولا سيما في برنامجيه اللذين استقطبا – على مر السنين – ملايين المستمعين والمشاهدين وتعلق بهما الناس على اختلاف ميولهم وأعمارهم وأجناسهم وجنسياتهم، ولم يكن ذلك بالأمر الغريب، فلقد كان علي الطنطاوي من أقدم مذيعي العالم العربي، فقد بدأ يذيع من إذاعة الشرق الأدنى من يافا في أوائل الثلاثينيات، وأذاع من إذاعة بغداد سنة 1937م، ومن إذاعة دمشق من سنة 1942 م لأكثر من عَقدين متصلين، وأخيراً من إذاعة المملكة العربية السعودية ورائيها نحو ربع قرن متصل من الزمان.
هذا العمل ملأ عليه وقته كله خلال تلك السنوات، وقد عشت معه – عليه رحمة الله – بعضاً من تلك الأيام، ما زلت أسترجع ذكراها إلى اليوم. لقد جئت إلى المملكة في مطلع عام 1977م لدراسة الهندسة في جامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة، وكنت أمضي في نهاية كل أسبوع يومين أو ثلاثة أيام في بيته بمكة، فأراه كيف يصنع. كان يمضي كل يوم ساعات عاكفاً على أسئلة المستمعين والمشاهدين قراءة وفرزاً ليختار منها ما يصلح للإجابة، وما كان يسعه أن يجيب عن كل سؤال يأتيه؛ لأنه كان يستلم من الأسئلة في كل أسبوع مئاتٍ – حقيقة لا مجازاً – ووقت البرنامجين لا يكاد يتسع لغير عشر منها أو عشرين، ثم كان يراجع المسائل في أمهات الكتب، ويضع تعليقات على الأسئلة بخطة في بعض الأحيان. وكان – فوق ذلك – يتفرغ للإجابة عن أسئلة المستفتين بالهاتف بين العصر والمغرب كل يوم.
ولطالما أعلن في الإذاعة والرائي أن ذلك هو الوقت الذي يتلقى فيه الأسئلة، ولكن الهاتف كان يرن كل ساعة من ليل أو نهار! فإذا جاء المغرب كان ينطلق إلى الحرم فيجلس في موضع له هناك لا يفارقه بين العشاءين فيأتيه من الناس من شاء، ويسأله من شاء، فكان ذلك مجلساً مفتوحاً للعلم والفتوى، فإذا عاد من الحرم بعد العشاء فلا يستقبل أحداً – كما أنه لا يستقبل أحداً قبل العصر – ويعود إلى قراءته ومراجعاته وشؤون أهل بيته.
هكذا أمضى جدي تلك السنوات، حتى إذا جاوز الثمانين بدأ جسمه – الذي حمله في مسيرة حياته الطويلة الحافلة – بالتعب، وما عاد يقوى على العمل، فآثر ترك الإذاعة والرائي.
وكان – قبل ذلك – قد لبث نحو خمس سنين ينشر ذكرياته في الصحف، حلقة كل يوم خميس، فلما صار كذلك وقف نشرها – وكانت قد قاربت مئتين وخمسين حلقة – وودع القراء فقال: “لقد عزمت على أن أطوي أوراقي، وأمسح قلمي، وآوي إلى عزلة فكرية كالعزلة المادية التي أعيشها من سنين، فلا أكاد أخرج من بيتي، ولا أكاد ألقى أحداً من رفاقي وصحبي”[25] وقد مُنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام عام 1990م.
عزلته ووفاته:
أغلق عليه باب بيته واعتزل الناس إلا قليلاً من المقربين يأتونه في معظم الليالي زائرين، فصار ذلك له مجلساً يطل من خلاله على الدنيا، وصار منتدى أدبياً وعلمياً تبحث فيه مسائل العلم والفقه واللغة والأدب والتاريخ. وبات الشيخ – في آخر أيامه – ينسى بعضاً من شؤون يومه، فربما صلى الفريضة مرتين يخشى أن يكون نسيها، وربما نسي ما كان في اليوم الذي مضى، ولكن الله أكرمه فحفظ عليه توقد ذهنه ووعاء ذاكرته حتى آخر يوم في حياته. لقد صار أخيراً يتورع عن الفتوى مخافة الزلل والنسيان، ولكن الواقع أنه كان قادراً على استرجاع المسائل والأحكام بأحسن مما يستطعيه كثير من الرجال والشبان، وكان – حتى في الشهر الذي توفي فيه – تفتتح بين يديه القصيدة لم يرها من عشر سنين أو عشرين فيتم أبياتها ويبين غامضها، ويُذكَر العَلَم فيترجِم له، وربما اختُلف في ضبط مفردة من مفردات اللغة أو في معناها فيقول هي كذلك، فنفتح القاموس المحيط – وهو إلى جواره، بقي كذلك حتى آخر يوم – فإذا هي كما قال.
ومضت به على هذه الحال سنوات حتى كَلَّ قلبه الكبير، فما عاد قادراً على المضي بعد، فلما كانت آخر السنوات أدخل المستشفى مرات، وهو يشكو كل مرة ضعفاً في قلبه، وكانت الأزمات متباعدة في أول الأمر ثم تقاربت، حتى إذا جاءت السنة الأخيرة تكاثرت حتى بات كثير التنقل بين البيت والمستشفى. ثم أتم الله قضاءه فمضى إلى حيث يمضي كل حي، وفاضت روحه – عليها رحمة الله – بعد عِشاء يوم الجمعة، الثالث من ربيع الأول 1420هـ، الموافق للثامن عشر من حزيران، عام 1999م في قسم العناية المركزة بمستشفى الملك فهد بجُدة، ودفن في مقبرة العدل بمكة المكرمة في اليوم التالي بعد ما صُلِّي عليه في الحرم المكي الشريف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الذكريات: 1/133.
[2] الحديث عنه في: الذكريات 1/143.
[3] الذكريات: 1/144.
[4] الذكريات: 2/11، وتعريف عام، ص5.
[5] الذكريات: 8/35.
[6] الذكريات: 1/201 وما بعدها.
[7] في الذكريات حديث طويل عن مكتب عنبر، انظر: 1/103 – 130، 149-174.
[8] الذكريات: 8/26.
[9] الذكريات: 2/142.
[10] من حديث النفس، ص 149.
[11] الذكريات: 2/5.
[12] في آخر الجزء الثاني وأول الثالث.
[13] الذكريات: 3/12.
[14] الذكريات: 2/221.
[15] الذكريات: 3/10.
[16] بغداد: مشاهدات وذكريات، ص 15.
[17] الذكريات: 3/293، وفي آخر هذا الجزء وأول الذي يليه تفصيل عن الدروس التي كان يلقيها على الطلاب هناك.
[18] الذكريات: 4/159.
[19] مارس جدي القضاء عملياً من عام 1941 إلى حين سفره إلى المملكة العربية السعودية في عام 1963، أي نحواً من ثلاث وعشرين سنة، ولكنه بقي – رسمياً – قاضياً حتى أواسط عام 1966م.
[20] الذكريات: 4/166.
[21] الذكريات: 4/167.
[22] الذكريات: 4/259.
[23] الذكريات: 4/271 وما بعدها.
[24] بدأ هذا البرنامج نحو عام 1967، وكان له – قبله – برنامج عنوانه “صور من أمجادنا”.
[25] الذكريات: 8/340.
_______________________________________________________________________________________________
المصدر: مجلة الأدب الإسلامي – المجلد التاسع العدد الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون 1423 هـ – 2002 م ص132.بدون اي صور وقد اعادة النشر شبكة الالوكة الدعوي