الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقال الله -تعالى-: (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء: 165)، وقال -تعالى-: (وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبعَثَ رَسولًا) (الإسراء: 15)، وقال -تعالى-: (وَلَو أَنّا أَهلَكناهُم بِعَذابٍ مِن قَبلِهِ لَقالوا رَبَّنا لَولا أَرسَلتَ إِلَينا رَسولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبلِ أَن نَذِلَّ وَنَخزى) (طه: 134).
أهل الكتاب:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قومِه خاصَّةً، وبُعِثتُ إلى الناسِ عامَّةً ) (متفق عليه)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار) (رواه مسلم).
وقال الله -عزَّ وجلَّ-: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) (النساء:159).
قال الإمام الطبرى -رحمه الله-: “اختلف أهل التأويـل فـي معنى ذلك، فقال بعضهم معنى ذلك: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) يعنـي بعيسى (قَبْلَ مَوْتِهِ) يعنـي قبل موت عيسى، يوجه ذلك إلـى أن جميعهم يصدّقون به إذا نزل لقتل الدجال، فتصير الـملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الـحنـيفـية، دين إبراهيـم -صلى الله عليه وسلم-. وقال آخرون: يعني بذلك وإن من أهل الكتاب إلا لـيؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابـي.
ذكر مَن كان يوجه ذلك إلـى أنه إذا عاين، عَلِـمَ الـحقّ من البـاطل، لأن كلّ من نزل به الـموت لـم تـخرج نفسه حتـى يتبـين له الـحقّ من البـاطل فـي دينه.
وقال آخرون: معنى ذلك وإن من أهل الكتاب إلا لـيؤمننّ بـمـحمد -صلى الله عليه وسلم- قبل موت الكتابـي.
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصحة والصواب قول مَن قال: تأويـل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا لـيؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى.
وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب من غيره من الأقوال؛ لأن الله -جلّ ثناؤه- حكم لكل مؤمن بـمـحمد -صلى الله عليه وسلم- بحكم أهل الإيـمان فـي الـموارثة والصلاة علـيه، وإلـحاق صغار أولاده بحكمه فـي الـملة، فلو كان كلّ كتابـيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابـيّ إذا مات علـى ملته إلا أولاده الصغار أو البـالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بـالغ مسلـم، وإن لـم يكن له ولد صغير ولا بـالغ مسلـم، كان ميراثه مصروفـًا حيث يصرف مال الـمسلـم، يـموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم الـمسلـمين فـي الصلاة علـيه وغسله وتقبـيره؛ لأن من مات مؤمنًا بعيسى فقد مات مؤمنًا بـمـحمد وبجميع الرسل؛ وذلك أن عيسى -صلوات الله علـيه- جاء بتصديق مـحمد وجميع الـمرسلـين، فـالـمصدّق بعيسى والـمؤمن به مصدّق بـمـحمد وبجميع أنبـياء الله ورسله، كما أن الـمؤمن بـمـحمد مؤمن بعيسى وبجميع أنبـياء الله ورسله، فغير جائز أن يكون مؤمنًا بعيسى مَن كان بـمـحمد مكذّبـًا.
فإن ظنّ ظانّ أن معنى إيـمان الـيهوديّ بعيسى، الذي ذكره الله فـي قوله: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) إنـما هو إقراره بأنه لله نبـيّ مبعوث دون تصديقه بجميع ما أتـى به من عند الله، فقد ظنّ خطأ؛ وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبـًا إلـى الإقرار بنبوّة نبـيّ من كان له مكذّبـاً فـي بعض ما جاء به من وحي الله وتنزيـله، بل غير جائز أن يكون منسوبـًا إلا الإقرار بنبوةّ أحد من أنبـياء الله؛ لأن الأنبـياء جاءت الأمــم بتصديق جميع أنبـياء الله ورسله، فـالـمكذب بعض أنبـياء الله فـيـما أتـى به أمته من عند الله مكذب جميع أنبـياء الله فـيـما دعوا إلـيه من دين عبـاد الله.
وإذ كان ذلك كذلك، كان فـي إجماع الـجميع من أهل الإسلام علـى أن كل كتابـي مات قبل إقراره بـمـحمد –صلوات الله علـيه- وما جاء به من عند الله، مـحكوم له بحكم الـمسألة التـي كان علـيها أيام حياته، غير منقول شيء من أحكامه فـي نفسه وماله وولده صغارهم وكبـارهم بـموته عما كان علـيه فـي حياته، أدلّ الدلـيـل علـى أن معنى قول الله: (وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ إلاَّ لَـيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) إنـما معناه: إلا لـيؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك فـي خاصّ من أهل الكتاب، ومعنىّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التـي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نزوله.
كالذي حدثنـي بشر بن معاذ، قال: ثنـي يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبـي هريرة، أن نبـيّ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: الأنْبِـياءُ إخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهاتُهُمْ شَتَّـى وَديِنُهُمْ وَاحِدٌ، وإنّى أوْلـى النَّاسِ بعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ لأنَّهُ لَـمْ يَكُنْ بَـيْنِـي وَبَـيْنَهُ نَبِـيّ. وَإنَّهُ نازِلٌ، فإذَا رأيْتُـمُوهُ فـاعْرِفُوهُ، فإنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الـخَـلْقِ إلـى الـحُمْرَةِ وَالبَـياضِ، سَبْطُ الشَّعْرِ كأنَّ رأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَـمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بـينَ مُـمَصِّرَتَـيْنِ، فَـيَدُقُّ الصَّلِـيبَ، وَيَقْتُلُ الـخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الـجزْيَةَ، وَيُفِـيضُ الـمَالُ، وَيُقاتِلِ النَّاسَ علـى الإسْلامِ حتـى يَهْلِكَ اللَّهُ فِـي زَمانِهِ الـمِلَلَ كُلَّها غيرَ الإسْلامِ، ويُهْلِكُ اللَّهُ فِـي زَمانِهِ مَسِيحَ الضَّلالَةِ الكَذَّابَ الدَّجَّالَ، وَتَقَعُ الأمَنَةُ فِـي الأرْضِ فِـي زَمانِهِ حتـى تَرْتَعَ الأُسُودُ معَ الإبِلِ والنُّـمُورُ مَعَ البَقَرِ وَالذّئابُ مَعَ الغَنـمِ، وَتَلْعَبُ الغِلْـمانُ وَالصبْـيانُ بـالـحَيَّاتِ لا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، ثُمَّ يَـلْبَثُ فِـي الأرْضِ ما شاء الله”، وربـما قال: أربعين سنة، ثم يُتوفـى ويصلـي علـيه الـمسلـمون ويُدفنونه.
وأما الذي قال: عنـي بقوله: (لَـيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) لـيؤمننّ بـمـحمد -صلى الله عليه وسلم- قبل موت الكتابـي، فمـما لا وجه له مفهوم؛ لأنه مع فساده من الوجه الذي دللَّنا علـى فساد قول من قال: عنى به: لـيؤمننّ بعيسى قبل موت الكتابـيّ، يزيده فسادًا أنه لـم يجر لـمـحمد -علـيه الصلاة والسلام- فـي الآيات التـي قبل ذلك ذكر، فـيجوز صرف الهاء التـي فـي قوله: (لَـيُؤْمِنَنَّ بِهِ) إلـى أنها من ذكره، وإنـما قوله: (لَـيُؤْمِنَنّ بِهِ) فـي سياق ذكر عيسى وأمه والـيهود، فغير جائز صرف الكلام عما هو فـي سياقه إلـى غيره؛ إلا بحجة يجب التسلـيـم لها من دلالة ظاهر التنزيـل أو خبر عن الرسول تقوم به حجة، فأما الدعاوي فلا تتعذّر علـى أحد.
فتأويـل الآية إذ كان الأمر علـى ما وصفت: وما من أهل الكتاب إلا من لـيؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى، وحذف (مِنْ) بعد (إلَّا) لدلالة الكلام علـيه، فـاستغنـي بدلالته عن إظهاره كسائر ما قد تقدمّ من أمثاله التـي قد أتـينا علـى البـيان عنها.
القول فـي تأويـل قوله تعالـى: (وَيَوْمَ القِـيامَةِ يَكُونُ عَلَـيْهِمْ شَهِيداً)، يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: (وَيَوْمَ القِـيامَةِ يَكُونُ) عيسى علـى أهل الكتاب (شَهِيدًا) يعنـي: شاهدًا علـيهم بتكذيب مَن كذّبه منهم، وتصديق من صدّقه منهم فـيـما أتاهم به من عند الله وبإبلاغه رسالة ربه” (تفسير الطبري).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: “ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن كذلك، وإنما شبّه لهم، فقتلوا الشبه، وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باق حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها -إن شاء الله قريبًا-، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت عيسى عليه السلام- الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قُتِل وصُلِب (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم، قبل رفعه إلى السماء، وبعد نزوله إلى الأرض.
فأما مَن فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد -عليهما الصلاة والسلام-، فهذا هو الواقع، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلًا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانًا نافعًا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال -تعالى- في أول هذه السورة: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (النساء:18)، وقال -تعالى-: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر:84-85)، وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد هذا القول، حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا، لكان كل من آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- أو بالمسيح ممن كفر بهما، يكون على دينهما، وحينئذٍ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه؛ لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته، فهذا ليس بجيد؛ إذ لا يلزم مِن إيمانه أنه يصير بذلك مسلمًا؛ ألا ترى قول ابن عباس ولو تردى من شاهق، أو ضرب بالسيف، أو افترسه سبع، فإنه لابد أن يؤمن بعيسى؟ فالإِيمان في هذه الحال ليس بنافع، ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه، والله أعلم.
ومَن تأمل جيدًا وأمعن النظر، اتضح له أنه هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا، بل المراد بها الذي ذكرناه من تقرير وجود عيسى -عليه السلام-، وبقاء حياته في السماء، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى، الذين تباينت أقوالهم فيه، وتصادمت وتعاكست، وتناقضت وخلت عن الحق، ففرط هؤلاء اليهود، وأفرط هؤلاء النصارى، تنقصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه ما ليس فيه، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى الله عما يقول هؤلاء وهؤلاء علوًّا كبيرًا، وتنزه وتقدس لا إله إلا هو” (انتهى من تفسير ابن كثير).