الرسول وقريش
ذكر ما لقي رسول الله من قومه: $ثم إن قُرَيْشًا اشتد أمرهم، للشقاء الذي أصابهم، في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم فكذبوه وآذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة ([54]) والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُظهر لأمر الله لا يستخفي به، مباد ([55]) لهم بما يكرهون، من عيب دينهم واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم. عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط! سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم! فبينما هم في ذلك إذا طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفتُ ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أتسمعون يا معشر قُرَيْشٍ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ! ». فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك، ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أَبَا الْقَاسِمِ، فوالله ما كنت جهولًا!. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه! فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( نعم أنا الذي أقول ذلك )). قال: فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشد ما رأيت قُرَيْشًا نالوا منه قط؟ الكهانة: حرفة الكاهن، الذي يدعي العلم بالغيب. أي: مجاهر. كناية عن الهلاك إن لم يؤمنوا. الوصاة: الوصية، أي: وصية بالأذى. يرفؤه: يسكنه ويهدئه. مجمع ردائه: أي: جمع رداءه عند صدره وقبض عليه يجره. أخرجه أحمد(7036)، البزار (2497)، ابن حبان (6567) قال الهيثمي في المجمع : رواه أحمد وقد صرح ابن إسحاق بالسماع وبقية رجاله رجال الصحيح. إسلام حَمْزَةَ: حدثني رجل من أَسْلَمَ، كان واعية: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يُكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاة لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قُرَيْشٍ عند الكعبة فجلس معهم. فلم يلبث حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه أن أقبل متوشحًا قوسه راجعًا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قُرَيْشٍ إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قُرَيْشٍ وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته قالت له: يا أَبَا عُمَارَةَ، لو رأيت ما لقي ابن أخيك مُحَمَّدٌ آنفًا من أَبِي الْحَكَم ابْنِ هِشَامٍ؟ وجده ها هنا جالسًا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه، ولم يكلمه مُحَمَّدٌ فاحتمل حَمْزَةَ الغضبُ لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجةً منكرة. ثم قال: =أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد ذلك علي إن استطعت. فقامت رجال من بَنِي مَخْزُومٍ إلى حَمْزَةَ لينصروا أبا جهل، فقال أَبُو جَهْلٍ: دعوا أَبَا عُمَارَةَ، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا. وتم حَمْزَةُ رضي الله عنه على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أسلم حَمْزَةُ عرفت قُرَيْشٌ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حَمْزَةَ سيمنعه. فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. واعية: حافظ. أي: متقلدا إياه. القنص: الصيد. هي مولاة عبد الله بن جدعان. أبو الحكم: كنية أخرى لأبي جهل. واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم. أخرجه الطبراني(2926) ، والحاكم(4878). من قول عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ إلى هجرة الْحَبَشَةِ قول عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ في أمر رسول الله: حُدثتُ أن عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ- وكان سيدًا- قال يومًا وهو جالس في نادي قُرَيْشٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قُرَيْشٍ ألا أقوم إلى مُحَمَّدٍ فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، وذلك حين أسلم حَمْزَةُ ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أَبَا الْوَلِيدِ، قم إليه فكلمه، فقام إليه عُتْبَةُ حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السطة ([67]) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قُل يا أَبَا الْوَلِيدِ أسمع )). قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريدُ بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك ([68]) علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًّا ([69]) تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع ([70]) على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له، حتى إذا فرغ عُتْبَةُ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني، قال: أفعل؟ فقال: {حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ* وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فُصِّلَتْ: 1 – 5]. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ([71]) فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أَبُو الْوَلِيدِ بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قُرَيْشٍ، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به!. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. ([72]) السطة: الشرف، من الوسط، كالعدة من الوعد. سودناك: جعلناك سيدًا. الرئي: ما يتراءى للإنسان من الجن. التابع: الصاحب من الجن. هي قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت 37]. البيهقي في دلائل النبوة (2/ 79/509) ، وابن عساكر(38/ 246) من طريق ابن إسحاق. ما دار بين رسول الله e وبين رؤساء قُرَيْشٍ: ثم إن الإسلام جعل يفشو بِمَكَّةَ في قبائل قُرَيْشٍ، في الرجال والنساء، وَقُرَيْشٌ تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم إن أشراف قُرَيْشٍ من كل قبيلة: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِث، وَأَبُو الْبَخْتِريِّ بْنُ هِشَامٍ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى مُحَمَّدٍ فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ([73]). فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا، وهو يطن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء ([74])، وكان عليهم حريصًا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم ([75])، حتى جلس إليهم، فقالوا له: يا مُحَمَّدُ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلًا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك: لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك- أو كما قالوا له- فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به مُلكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك، حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )). قالوا: يا مُحَمَّدُ، فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أن ليس من الناس أحد أضيق بلدًا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشًا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول، أحق هو أم باطل؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولًا كما تقول، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: (( مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ. وَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)). قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكًا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة، يُغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولًا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، وَمَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ )). قالوا: فأسقط السماء علينا كسفًا ([76]) كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ )). قالوا: يا مُحَمَّدُ، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب؛ فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به! إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل بِالْيَمَامَةِ يقال له: (( الرحمن )) ([77])، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا، فقد أعذرنا إليك يا مُحَمَّدُ، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا! وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي بنات الله، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلًا. فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم، وقام معه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وهو ابن عمته ([78]). فقال له: يا مُحَمَّدُ، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقلبه منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل. ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل- أو كما قال له. فوالله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وايم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك! ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينًا آسفًا، لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه. تعذروا فيه: يثبت لكم فيه عذر. بدا لهم بداء: جد لهم رأي. العنت: الجور والأذى. كسف: جمع كسفة بالكسر، وهي القطعة من الشيء. و مسيلمة بن حبيب الحنفي، المعروف بمسيلمة الكذاب، كان قد تسمى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين. (الروض الأنف). أسلم عبد الله هذا قبل فتح مكة. صنيع أبي جهل: فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أَبُو جَهْلٍ: يا معشر قُرَيْشٍ، إن مُحَمَّدًا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدًا بحجر ما أطيق حمله- أو كما قال – فإذا سج في صلاته فضخت به رأسه ([79])، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ما بدا لهم! قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامش لما تريد. فلما أصبح أَبُو جِهْلٍ أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، وكان بِمَكَّةَ وقبلته إلى الشَّامِ، فكان إذا صلى صلّى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشَّامِ. فقام رسول الله صلى الله عليهسلم يصلي وقد غدت قُرَيْشٌ فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أَبُو جَهْلٍ فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أَبُو جَهْلٍ الحجر، ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونه ([80]) مرعوبًا، قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قُرَيْشٍ فقالوا له: =ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل ([81]) من الإبل، ولا والله ما رأيت مثل هامته ([82])، ولا مثل قصريه ([83])، ولا أنيابه، لفحل قط، فهم بي أن يأكلني!.([84]) فضخ رأسه: كسرها وشقها. انتقع لونه: (بالباء للمفعول): تغير من هم أو فزع. فحل الإبل: الذكر القوي منها. الهامة: الرأس. القصرة: أصل العنق. أخرجه البيهقي في دلائل النبوة(2/65/ 497). خبر النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ: فلما قال لهم ذلك أَبُو جَهْلٍ قام النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فقال: يا معشر قُرَيْشٍ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان مُحَمَّدٌ فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه ([85]) الشيب، وجاءكم بما جاء به، قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، فقد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها: هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه. يا معشر قُرَيْشٌ، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم!. وكان النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ من شياطين قُرَيْشٍ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الْحِيرَةَ وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا فذكر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال: أنا والله يا معشر قُرَيْشٍ أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول بماذا مُحَمَّدٌ أحسن حديثًا مني؟ وكان ابْنُ عَبَّاسٍ رصي الله عنهما يقول فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن: قول الله غز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [ الْقَلَمِ: 15 ]، وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن. صدغيه: جانب الوجه من العين إلى الأذن. ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه فوثبت كل قبيلةٍ على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مَكَّةَ إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، ومنهم من يصلب ([86]) لهم، ويعصمه الله منهم. $وكان بِلَالٌ مولى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، لبعض بَنِي جُمَحَ، مولدًا ([87]) من مولديهم، وهو بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ، وكان اسم أمه حَمَامَةَ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب. وكان أُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء ([88]) مَكَّةَ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بِمُحَمَّدٍ وتعبد اللات والعزى! فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحَد!! كان وَرَِقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يمر به وهو يعذب بذلك وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول: أحدٌ أحد والله يا بِلَالُ! ثم يقبل على أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ومن يصنع ذلك به من بَنِي جُمَحَ فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانًا ([89])! حتى مر به أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه يومًا وهم يصنعون به ذلك، فقال لِأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ: ألا تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى! فقال أَبُو بَكْرٍ: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به، قال: قد قبلت. فقال: هو لك، فأعطاه أَبُو بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك وأخذه فأعتقه.([90]) ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى الْمَدِينَةِ ست رقاب، بِلَالٌ سابعهم: عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَأُمُّ عُبَيْسٍ، وَزِنِّيرَةُ، وأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قُرَيْشٌ: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى! فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى وما تنفعان! فرد الله بصرها، وأعتق النّهْدِيّةَ وبنتها، وكانتا لامرأة من بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول: والله لا أعتقكما أبدًا! فقال أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: حل ([91]) يا أم فلان! فقالت: حل؟ أنت أفسدتهما فأعتقهما! قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما، وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها. قالتا: =أونفرغ منه يا أَبَا بَكْرٍ ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما. ومر بجارية بَنِي مُؤَمِّلٍ ([92])، وكانت مسلمة، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، وهو يضربها حتى إذا مل قال: إني أعتذر إليك إني لم أتركك إلا ملالة! فتقول: كذلك فعل الله بك! فابتاعها أَبُو بَكْرٍ فأعتقها. $قال أَبُو قُحَافَةَ لِأَبِي بَكْرٍ: يا بني، إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالًا جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أَبُو بَكْرٍ: يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل!([93]) وكانت بَنُو مَخْزُومٍ يخرجون بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة، ويعذبونهم برمضاء مَكَّةَ ([94])، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول – فيما بلغني – «صبرًا ياسر، موعدكم الجنة!»([95]) فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام. وكان أَبُو جَهْلٍ الفاسق الذي يُغري بهم في رجال من قُرَيْشٍ، إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة، أنبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك، ولنفيلن ([96]) رأيك، ولنضعن شرفك! وإن كان تاجرًا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك! وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به. عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال: قلت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجعل ([97]) ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجُعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداءً منهم مما يبلغون من جهده. يصلب: يقوى. مولدًا: من ولد عند العرب ونشأ مع أولادهم وتأدب بآدابهم، أو العربي غير المحض. البطحاء: أو الأبطح، المكان المتسع يمر به السيل، فيترك فيه الرمل والحصى الصغار. أي: قبره موضع حنان، أتمسح به متبركًا. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة(89)، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق(414) ، وأبو نعيم في الحلية(1/148). أي: تحللي من يمينك. حي من بني عدي بن كعب. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة(291). الرمضاء: الرمل الساخن من شدة حرارة الشمس. أخرجه ابن سعد في الطبقات(3/249)، والطبراني في الكبير(769)، الحاكم(5646)، والبيهقي في الشعب(1631). فيل رأيه: قبحه وخطأه. الجُعل: دابة سوداء كالخنفساء من دواب الأرض، قيل: هو أبو جعران. |