في بداية شهر ذي الحجة الهجري وفقا للتقويم القمري المعمول به عند المسلمين، يستيقظ العالم على مشهد مهيب لاحتشاد جموع المسلمين ببشاكير بيضاء في مكة المكرمة لتأدية شعيرة الحج. إنها شعيرة يرى الكثيرون أنها غير مألوفة لدى الأديان الإبراهيمية. ولذلك، يتسع المجال لسوء الفهم والطعن والقدح والتشكيك في هذه الشعيرة وإلصاقها بالوثنيات القديمة. وتكثر التساؤلات بين غير المسلمين عن وجه العبادة في هذه الشعيرة التي تبدو غير معهودة لدى أتباع الرسالات السماوية السابقة لرسالة الإسلام الخاتمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن، وكما يقولون، إذا عرف السبب بطل العجب! لذا، تعالوا نتعرف على هذه الشعيرة التي تبدو غريبة على الديانات الإبراهيمية للوقوف على المعاني الروحية المضمنة في هذه الشعيرة وعلى أصولها وما إذا كانت أصولا سماوية أم وثنية.
الرمزية في الحج
إن وجه العبادة في العبادات الإسلامية ليس بنفس الوضوح في جميع هذه العبادات، وإنما يتفاوت من عبادة إلى أخرى. فمن العبادات ما يكون وجه العبادة لله فيها شديد الوضوح والمباشرة مثل الصلاة؛ فهي صلة واتصال وتواصل ومناجاة بين العبد وربه، ينقطع فيها العبد عن الكون من حوله ويتصل بخالقه اتصالا خلويا ليس فيه إلا هو وربه، متحررا من جميع المشاغل والشواغل الدنيوية التي قد تشوش على هذا الاتصال.
الحج عبادة سماوية تكثر فيها رمزية التعبد عن غيرها من العبادات الإسلامية الأخرى، وتأتي شعيرة الحج تلبية لنداء الحنيفية الإبراهيمية واستجابة لدعوة إبراهيم
ومن العبادات ما يكون وجه العبادة فيها أقل وضوحا ومباشرة مثل الصيام. فالصوم عبادة ليست بالفعل ولكن بالترك. فيترك المؤمن شهواته تقربا إلى الله بذلك وتفرغا لعبادات أخرى لله تعالى وابتغاء رضوانه.
ومن ذلك أيضا الزكاة والصدقة، ولكن وجه العبادة لله فيهما أقل وضوحا ومباشرة من الصلاة والصوم. فهي عبارة عن تزكية المال عما قد يعتريه من الكسب غير المشروع أو المشبوه والتصدق به على المؤمنين – ولاسيما المحتاجين منهم – في وجوه البر المختلفة. فالله تعالى لا يناله شيء من الزكاة أو الصدقة، ولكن يتقرب المؤمن إلى الله تعالى بالتزكي عما قد يصيب ماله من السحت بل والتورع عن فضول ماله المشروع والإحسان به إلى خلق الله.
وأما الحج وكذلك العمرة، فوجه العبادة فيهما ربما يكون الأقل وضوحا ومباشرة بين جميع العبادات الإسلامية. بل يغلب عليهما الرمزية مثل التجرد عن المخيط والتوجه إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة والطواف بالكعبة واستلام أركانها والتعلق بأستارها وتقبيل الحجر الأسود والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة ونحر الهدايا والأضاحي ورمي الجمرات والحلق أو التقصير. فكلها مناسك وشعائر يغلب عليها الرمزية والضمنية في المعاني الروحية كما يلي:
التجرد عن المخيط
إذا نوى المسلم الحج أو العمرة، فعليه الإحرام وذلك بأن يحرم على نفسه شهوات نفسه وأهمها شهوة الفرج، ويخلع الرجل، بخلاف المرأة، عنه ملابس الدنيا بزينتها وزخرفها وبهرجها ويغتسل ويلف نفسه بما سيلف به عند ملاقاة ربه في قبره الذي هو أول منازل الآخرة. وهما قطعتان من القماش أحدهما تغطي النصف العلوي من الجسم وأما الأخرى فتغطي النصف السفلي مع الامتناع عن لبس أية ملابس أخرى سواء تحتهما أو فوقهما. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (البقرة 197:2)
والغرض من لبس ملابس الإحرام أن يستشعر الحاج أو المعتمر مشاعر الآخرة ويتجرد عن الدنيا وما فيها من شوائب وملهيات. فهو بذلك وكأنه يرتدي كفنه ليؤدي به شعائر الحج أو العمرة. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكثروا ذكر هادم اللذات…” (رواه الترمذي والنسائي)
الطواف بالكعبة
إن المسلمين لا يعبدون الكعبة، وإنما عندما يتوجهون إليها حال الصلاة أو يطوفون بها حال الحج أو العمرة، فهم يتعبدون لله تعالى بالصلاة إلى الكعبة أو الطواف بها كما هو حال الملائكة. فكما أن لله تعالى بيت في السماء يطوف به الملائكة اسمه “البيت المعمور”، له تعالى أيضا بيت في الأرض بحذاء البيت المعمور يطوف به الناس. فقد أخرج الطبري عن قتادة قال: ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “البيت المعمور مسجد في السماء بحذاء الكعبة، لو خر لخر عليها، يدخله سبعون ألف ملك كل يوم إذا خرجوا منه لم يعودوا” (حديث مرسل صححه الألباني)
تقبيل الحجر الأسود
كما ذكرنا، لا يعبد المسلمون الكعبة ولا الحجر الأسود ولا يستلمون أركان الكعبة ولا يتعلقون بأستارها عبادة للكعبة ذاتها، ولكن تعبدا لله تعالى. ولقد فعل النبي وصحابته ذلك، علما بإيمانهم الراسخ بالله وكون الكعبة ومكوناتها بما فيها الحجر الأسود جمادات لا تنفع ولا تضر. فعن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك (رواه البخاري)
والحكمة من تقبيل الحجر الأسود هو التضرع إلى الله تعالى بغفران الذنوب. فعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ: ” اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي، فَقَالَ يَا عُمَرُ :هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ “(رواه ابن ماجة في سننه)
ولقد وردت أحاديث عديدة عن النبي محمد تفيد بأن هذا الحجر من أحجار الجنة، ومن ثم كان سبيلا إلى التذلل إلى الله تعالى لغفران الخطايا والذنوب. فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم” (رواه الترمذي وأحمد)
وعن ابن عباس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – في الحجر -: “والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق “(رواه الترمذي وابن ماجة)
السعي بين الصفا والمروة
في الحج والعمرة، يسعى أي يسرع المسلمون بين جبلي الصفا والمروة إحياءً لذكرى السيدة هاجر زوجة النبي إبراهيم وأم النبي إسماعيل وثقتها الشديدة في الله عز وجل وتوكلها عليه وكيف أنها بعدما خضعت لإرادة الله ابتداءً وأخذت بالأسباب الدنيوية انتهاءً بسعيها بين الصفا والمروة سبع مرات بحثا عن الماء، قد رزقها الله ماء ومعاشا لها ولابنها. فعن السيدة هاجر وسعيها بين الصفا والمروة نقرأ في حديث ابن عباس الطويل عند البخاري: “…فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فذلك سعي الناس بينهما…” (رواه البخاري)
بيت الله الحرام
إن الله تعالى لا يبيت حتى يكون له بيت. فليست الكعبة ولا المسجد الحرام بيتا لله جل جلاله على سبيل الحقيقة. وإنما هو بيت يبيت فيه العباد المتعبدون لله تعالى. فالله تعالى هو رب البيت. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. (قريش 3:106-4)
والمبيت إنما هو لعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (الفرقان 63:25-64)
والبيت إنما جعل لهؤلاء حتى يبيتون من أجل الصلاة والاعتكاف والركوع والسجود. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (البقرة 125:2)
كما جعل البيت للحج والعمرة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (المائدة 97:5)
الوقوف بعرفة
إن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحج عرفة” (رواه الإمام أحمد وأبو داود). وليس المراد بالوقوف بعرفة الوقوف على الأقدام في منطقة عرفة، ولكن معناه التعبد وذكر الله تعالى يوم التاسع من ذي الحجة على صعيد عرفة.
والوقوف بعرفة رمز للإنابة إلى الله تعالى والتضرع إليه والتوسل والتذلل لعظمته والابتهال لجلاله وسلطانه طمعا في رحمته تعالى وأملا في رضوانه وابتغاء غفرانه يوم التاسع من ذي الحجة رغم حرارة الشمس في ذروة النهار في صعيد عرفات؛ هذا المكان شديد القيظ.
ولعل الوقوف بعرفة هي الشعيرة الأكثر جهدا بين شعائر الحج حيث يمكث الحاج عادة طيلة يوم التاسع من ذي الحجة في عرفة، ومن ثم كان فضل الوقوف بعرفة واعتباره ركن الحج الأعظم. وربما جاءت تسمية هذا المكان بعرفة نظرا لطول المكث هناك فيتعارف الناس فيه.
المبيت بمزدلفة (المشعر الحرام)
بعد الإفاضة – أي الانصراف – من عرفات، يتوجه الحاج إلى مزدلفة (المشعر الحرام) للمبيت والاستراحة بها. فيذكر الحاج الله هناك ليلا تمهيدا للتوجه إلى منى لرمي الجمرات ورجم الشيطان. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (البقرة 198:2)
والمبيت بمزدلفة مشروع للاستراحة من عناء يوم عرفة وذكر الله والاستعداد للتوجه إلى منى لرمي الجمرات حيث إن مزدلفة بطبيعة الحال واقعة بين عرفة ومنى.
رمي الجمرات
في صباح يوم عيد الأضحى الموافق العاشر من ذي الحجة، يتوجه الحاج إلى منى لبدء رمي الجمرات ورجم الشيطان. فيرمي الحاج في يوم العيد جمرة العقبة الكبرى وهي 7 حصيات صغيرات بحجم حبة الفول تجاه رمز يمثل الشيطان. ثم يرمي الحاج بعد ذلك 21 حصاة في كل يوم من أيام التشريق الثلاث التي تعقب يوم العيد تجاه ثلاث رموز تمثل الشيطان في ثلاثة أماكن متجاورة. وهكذا، يرمي الحاج المتعجل أي الذي يقضي يومين فقط بعد العيد في منى 49 حصاة، بينما يرمي الحاج المتأخر أي الذي يقضي أيام التشريق الثلاث اللاحقة للعيد في منى 70 حصاة.
والحكمة من رمي الجمرات الاقتداء بأبينا إبراهيم في رجم الشيطان بهذه الجمرات في هذه الأماكن. فعن ابن عباس رفعه قال: “لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض”. قال ابن عباس: “الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون “(رواه الحاكم في المستدرك)
ذبح الأضاحي والهدايا والنسك
يلزم الكثير من الحجيج ذبح الأضاحي والهدايا والنسك في الحج سواء بالنسبة للحاج المقرن (أي الذي يقرن بين الحج والعمرة أي يحج ويعتمر في نفس الوقت) أو المتمتع (أي الذي يعتمر أولا ثم يتحلل من إحرامه ويتمتع بالمباحات ثم يحرم بالحج) ذبح الهدي. كما يلزمهم ذلك أيضا جبرا للسهو والخطأ في الحج والعجز عن أداء بعض مناسكه. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (البقرة 196:2)
ويأتي ذبح الأضاحي والهدايا والنسك أيضا اقتداء بنبي الله إبراهيم حين فدى الله ابنه بذبح عظيم أي بذبيحة عظيمة عندما أقدم على ذبح ابنه كما رأى في منامه تلبية لأوامر الله عز وجل لأن رؤيا الأنبياء حق وصدق. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (الصافات 102:37-107)
الحلق أو التقصير
بعد انتهاء الحاج أو المعتمر من حجه أو عمرته، يقوم بحلق شعر رأسه بإزالته تماما بالموسى أو بتقصيره ضمن ما يسمى بـ”التحلل”، تيمناً بمولد جديد بعد التطهر من الذنوب والخطايا والآثام في الحج. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” (رواه البخاري في صحيحه)
إذا كان في الحج رمزية، فلماذا يرفض المسلمون الرمزية في المسيحية؟
إن الرمزية تعتري معظم شعائر الإسلام وعباداته، فلا تكاد تخلو عبادة في الإسلام من الرمزية ولكن بقدر معلوم وبدليل معتبر، وإن كان الحج أكثر العبادات رمزية في الإسلام. ففي نطق الشهادتين رمزية، حيث يغتسل المسلم الجديد وينطق الشهادتين إيذانا بنبذ أرجاس الجاهلية ونجاساتها والتطهر لحياة زكية نقية طاهرة كريمة شريفة عفيفة في ظل توحيد الله عز وجل وعبادته وطاعته. وقد يكون هذا المسلم الجديد نظيفا مغتسلا للتو وليس بحاجة إلى الاغتسال.
وفي الصلاة رمزية، ومن رموزها الوضوء أو التيمم والمسح على الخفين وما في حكمهما واستقبال القبلة والانتظام في صفوف حال صلاة الجماعة وغير ذلك. فالوضوء لا يطهر البدن بالكلية وكذلك التيمم والمسح على الخفين وما في حكمهما. وإذا استقبل المصلي القبلة فليس الغرض مجرد التوجه نحو القبلة ولكن توحيد العبادة لله عز وجل بأدائها في اتجاه واحد وموحد. والانتظام في صفوف حال صلاة الجماعة ما هو إلا لتوحيد المؤمنين والتأليف بينهم في طاعة المولى عز وجل.
وفي الزكاة رمزية، فلقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها إذا تصدقت بدرهم طيبته وعندما سئلت عن ذلك ذكرت أنها أحببت أن يكون درهمها مطيبا لأنه يقع في يد الله قبل يد السائل. والدرهم لا يقع في يد الله في الحقيقة وإنما هو رمز.
وفي الصوم رمزية، فقد ورد أن خلوف فم الصائم أي رائحة فمه تكون أطيب عند الله من ريح المسك. ورائحة فم الصائم لا تكون بالرائحة الطيبة في الحقيقة وإنما ذلك ما هو إلا رمز.
وبالرغم من كل ذلك، فالرمزية مقننة تقنينا واضحا جليا في الإسلام. ولا يعترف في الإسلام بأي رمز ما لم يقم الدليل الشرعي القطعي من حيث الثبوت والدلالة عليه. ففي الإسلام، لا نجد كتب الأولين تجمع وتأول وتفسر بالهوى والرمز على غرار ما يحدث في العهد القديم بالكتاب المقدس. ولا نجد الكتاب والسنة يفسران ويؤولان بالهوى والرمز على غرار ما يحدث في العهد الجديد في الكتاب المقدس. ولا مجال للرمز غير المثبت وغير المدلل عليه بالدليل القاطع والبرهان الساطع في أمور العقيدة والاعتقاد ولا التكاليف الشرعية. فلا يجعل المسلمون لله ابنا ولا ولدا ولا شبيها ولا كفؤا بالهوى والرمز. كما أنهم لا يؤدون الصلاة بالرمز ولا يؤتون الزكاة بالرمز ولا يصومون بالرمز. فالإسلام – عقيدة وشريعة – رهنٌ بالدليل الصحيح قطعي الثبوت والدلالة. ولا يتوسع في الرمز الثابت بالدليل حتى يتعدى إلى ما ليس له به شأن، وإنما يقتصر الرمز على مناط الدليل فقط، فلا يتعداه إلى غيره. فلا مكان لشريعة رمزية في الإسلام كما هو الحال في المسيحية المعاصرة.
هل الحج طقس وثني؟
إن دين الله الحق سابق للوثنية وليس العكس، بمعنى أنه كان هناك دين يدين به العباد لله عز وجل ثم طرأت عليه الوثنية فيما بعد. فلقد كان آدم وحواء مؤمنين موحدين ولم يكونا وثنيين. ولكن طرأت الوثنية على دينهما فيما بعد. وتعاقبت الرسالات السماوية ابتداء برسالة نوح عليه السلام حتى رسالة محمد الخاتمة تصحيحا لما أفسدته الوثنية في دين الله. فكلما حرفت الوثنية في دين الله، جاء نبي من الأنبياء ليصحح ما فسد من أمر الدين.
والحج تحديدا عبادة شرعها الله لنبيه إبراهيم عليه السلام ولمعظم أنبياء الله من بعده. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج 26:22-27)
قال ابن كثير في تفسير الآية الأخيرة: أي ناد في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس (جبل قريب من الكعبة)، وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد وابن جبير وغيرهم.
وهكذا، كان بيت الله الحرام في مكة المكرمة أول بيت وضع للناس للعبادة والحج. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (آل عمران 96:3)
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول. قال: المسجد الحرام. قال: قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى…(رواه البخاري)
ولكن، وكالعادة، حين طال الزمان على عهد النبي إبراهيم، بدأت الوثنية تتسلل إلى دين الله، فاعترته وأفسدت فيه وحرفت منهجه وشوهت عقائده وأحكامه وتشريعاته. فتحول الحج ضمن عبادات أخرى من كونه عبادة سماوية إلى طقس وثني. فعلى سبيل المثال، نحت كفار قريش الأصنام والأوثان وعبدوها في بيت الله الحرام وكان منهم من يطوف بالبيت عريان. فمحا النبي محمد صلى الله عليه وسلم آثار الجاهلية الوثنية وأحيا الحنيفية الإبراهيمية. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة” (رواه البخاري)، والحنيفية لغة هي الميل واصطلاحا هي ملة إبراهيم التي مال بها إلى الإيمان والتوحيد عن الوثنية والشرك.
فعندما فتح النبي محمد مكة، دخل بيت الله الحرام فحطم ما كان فيه من الأصنام والأوثان والنصب. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاث مائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد (رواه البخاري)
وفي العام التاسع بعد الهجرة، تبرأ الله ورسوله محمد من آخر مظاهر الوثنية في بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة قاطبة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة 3:9)
ولقد أوحى الله إلى نبيه محمد بمنع المشركين الوثنيين من تدنيس بيت الله الحرام بأعمالهم وطقوسهم الوثنية لاسيما وأن بعضهم كان يطوف بالبيت عريانا. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة 28:9)
ولذلك، فعن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (رواه البخاري)
وهكذا، فإن الحج شعيرة سماوية وليس طقسا وثنيا. ويحج المسلمون تلبية لأذان إبراهيم في الناس على عهده وكاستجابة لدعوته عليه السلام بأن يجعل أفئدة الناس تهوي إلى بيت الله الحرام. فعن ذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم 35:14-37)
الحج في الرسالات السماوية السابقة
إن مفهوم قصد بيت الله بالعبادة والحج إليه ليس بغريب عن الرسالات السماوية السابقة ولاسيما اليهودية والمسيحية من واقع الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. فأما العهد القديم، فيحدثنا أنه قد بني لله بيوت عديدة طوال حقب تاريخية مختلفة وأن هذه البيوت كانت تقصد لعبادة الله. وربما كان أولها بيت الله في “بيت إيل” (التكوين 6:12-9)، (التكوين 1:13-4)، (التكوين 16:28-22)، (التكوين 1:35-20)، (القضاة 26:20-27)، (القضاة 2:21). ومن أهم البيوت التي بنيت لله أيضا بيت الله في شيلوه (القضاة 31:18)، (صموئيل الأول 1:1-3)، (صموئيل الأول 9:1-10)، (صموئيل الأول 24:1-28)، (صموئيل الأول 3:4-5). ولعل أقدس بيوت الله عند اليهود والمسيحيين وفقا للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد هو بيت الله الذي بناه سليمان في أورشليم وجلب إليه تابوت عهد الرب بمحتوياته وخيمة الاجتماع مع جميع آنية القدس من مدينة داود (الملوك الأول 1:8-66).
ولقد ظل بيت الله الذي بناه سليمان في أورشليم ولم ينتقل إلى مكان آخر حتى زمن السيد المسيح، فعمل على تطهيره (متى 12:21-17)، وأخبر بنقضه حجرا حجرا (متى 1:24-2)، كما أخبر بانتقال بيت الله من أورشليم (يوحنا 19:4-22).
ويخبرنا الكتاب المقدس أن العبادات التي كانت تؤدى عند بيوت الله كانت عبارة عن التطهر وتبديل الثياب [الإحرام في الحج الإسلامي] (التكوين 2:35)، ورفع الصوت بالتضرع إلى الله [التلبية والدعاء وذكر الله في الحج الإسلامي] (القضاة 2:21)، وذبح الذبائح (القضاة 26:20-27)، والسجود لله (صموئيل الأول 1:1-3)، والصلاة والنذر (صموئيل الأول 9:1-11)، والسعي والطواف (المزامير 6:26-8)، (المزامير 12:48-14)، (يشوع 6:1-16)، والتحلل والحلق (العدد 1:6-21).
كما يخبرنا الكتاب المقدس أن بيت الله كان يحتوي على أبنية مقدسة (متى 1:24-2)، ومحتويات مقدسة (الملوك الأول 1:8-66).
وإذا كان بيت الله كذلك وإذا كانت العبادات التي كانت تؤدى عنده كذلك، فليس الفرق كبيرا بين بيت الله الحرام في مكة والعبادات التي تؤدى عنده وبين بيوت الله التي بنيت بعده وفقا للكتاب المقدس والعبادات التي كانت تؤدى عندها فقط مع اختلاف المسميات. فما يسمى حاليا عند المسلمين بالحج والعمرة كان يؤدى عند أصحاب الرسالات السماوية السابقة ولكن بمسميات مختلفة.
بل إن في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ما قد يشير سواء بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الحج والعمرة بمكة المكرمة. ويمكن الرجوع إلى هذه الإشارات في منشور منفصل تحت عنوان “مكة المكرمة في الكتاب المقدس“
الخلاصة
والحاصل أن الحج عبادة سماوية تكثر فيها رمزية التعبد عن غيرها من العبادات الإسلامية الأخرى، والفرق بين الرمزية في الحج وفي غيره من العبادات في الإسلام وبين الرمزية في غير الإسلام أن الرمزية في الإسلام محددة وموضحة ومبينة ومؤطرة ومقننة ومدلل عليها بالدليل القطعي، ولا يتوسع في هذه الرمزية ولا تتعدى إلى ما لم تقصد به. وتأتي شعيرة الحج تلبية لنداء الحنيفية الإبراهيمية واستجابة لدعوة أبينا إبراهيم. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة 5:98)
والحج منسك ليس بالجديد على الرسالات السماوية، وإنما أدي في السابق ولكن بكيفيات ومسميات مختلفة نسبيا مع وحدة الجوهر والغرض. يقول الله تعالى في القرآن الكريم:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (الحج 34:22)
المراجع:
- القرآن الكريم
- تفسير ابن كثير
- تفسير الطبري
- صحيح البخاري
- سنن الترمذي
- سنن النسائي
- سنن ابن ماجة
- سنن أبي داود
- مسند الإمام أحمد
- المستدرك للحاكم
- الكتاب المقدس