يعتقد كثير من الشباب -للأسف- أنّ اﻹلحاد يُنهي كل شكوكهم وحيرتهم بمجرد إنكار وجود الخالق، فيغيب عنهم أنّ اﻹلحاد هو في الحقيقة سلسلة من اﻹنكارات، سِلسلة تبدأ بإنكار الوجود الإلهي وتنتهي بإنهاء الحياة نفسها. وهنا يحق للقارئ أن يتعجب من قولي هذا، إذ كيف هذا؟!
إنّ من بين أكثر المعضلات التي تُواجه اﻹلحاد، هي قضية حُرية اﻹرادة، وحتى لا ندخل في التعقيدات الفلسفية الخاصة بهذا المصطلح، رُغم اعترافي بأهمية ذلك، إلا أنّ ما يهمنا هنا أنّ هذه الحرية هي ما نَشعر به في حياتنا اليومية، الحرية التي أحسست بها عند اختياري لكتابة هذا المقال من عدمه، أو حرية إرادتك فيما كُنتَ -كقارئ- تُريد إكمال قراءة هذا المقال أو لا؟! عموماً الحرية التي نشعر بها عند اتخاذنا أي قرار أو قيامنا بأي فعلٍ، كبيرٍ أو صغير. هذه الحرية التي رُبما تجعل بيننا وبين الجمادات فرقاً جوهرياً.
وللقارئ هنا أن يتساءل -مُستشعراً حرية اﻹرادة في اختياره هذا- ما علاقة اﻹلحاد بهذه الحرية؟!
في حقيقة اﻷمر، إنّ المُلحد يكون هنا بين موقفين اثنين لا ثالث لهما:
- موقف إثبات اﻹرادة الحرة.
- إنكار وجود حرية اﻹرادة.
إلا أنّ كل اختيار من بين هذين الاختيارين، له مآﻻت وإلزامات، فالملحد إذا أثبت وجود حرية اﻹرادة، سيكون بذلك قد أثبت وجود “مسألة” متعالية عن المادة، أو بعبارة أخرى، سيكون قد أقرّ بوجود قضية ميتافيزيقية -وهنا ينتهي اﻹلحاد بدخوله مُعترك الميتافيزيقا-، إذ حرية اﻹرادة لا معنى لوجودها في عالم مادي تحكمه قوانين حَتمية لا يحيد عنها، ونحن لسنا باستثناء من هذا العالم، فنحن جزء منه، وحسب الرؤية المادية التي يُقدمها اﻹلحاد فما نحن إلا تفاعلات كيميائية وإشارات كهربائية، وتكون بذلك هذه الحرية التي نشعر بها مجرد وهم، ولا وجود لها في الواقع.
وفي الحقيقة هذا الاختيار هو ما يتبناه أغلب العلماء الملاحدة، بل قد ألّف في ذلك عالم الأعصاب الأمريكي، وأحد أشهر الملاحدة عداءً للدين في عصرنا الحديث، سام هاريس، كتاباً كاملاً لمجرد إنكار وجود ما نُسميه بحرية اﻹرادة، وهو كتابه Free Will “حرية اﻹرادة”، إذ يقول:
“حرية اﻹرادة وهم، بكل بساطة إرادتنا ليست من إنتاجنا نحن (…) في الحقيقة حرية اﻹرادة هي أكثر من مجرد وهم (أو أقل)، إذ لا تبدو متماسكة من الناحية النظرية” [1].
كما للقارئ أن يطلع من هنا على ما قيل عن الكتاب من خامات علمية -ملحدة-، وقُل الأمر نفسه عن أحد أشهر الملحدين عداءً للدين، ريتشارد دوكينز، إذ يقول بهذا الصدد:
“الحمض النووي DNA لا يعلم ولا يكترث، DNA هو كذلك فقط، ونحن نرقص على أنغامه” [2].
وعموماً فأغلب الملاحدة اليوم كما قُلتُ أعلاه، يتبنون الاختيار الثاني -أي إنكار وجود حرية اﻹرادة-، وهنا تتكون أزمة أخرى تُواجه اﻹلحاد:
كيف نستطيع بناء منظومة أخلاقية -بناءٍ على أي أساس غير الدين- في عالم تكون فيه حرية الإرادة مجرد وهم؟! إذ الشرط الضروري للقيم الأخلاقية هو الفاعلية الأخلاقية، والتي لا يُمكن أن تُوجد إلا إذا وُجِدت حرية الإرادة، إذ كيف سنحاكم مُجرِماً على فعل هو لم يكن له اختيار فيه؟! بل على أيّ أساس نُسمي فعله هذا جريمةً إن كان الفعل نفسه مجرد نتيجة مادية لسلسلة من الأسباب المادية قادتها حتمية لا اختيار لنا فيها؟!
فهنا الملحد سيجد نفسه بين مأزقين اثنين في الحقيقة:
- إن أثبت وجود حرية اﻹرادة: سيكون قد أثبت وجود طبيعة ميتافيزيقية، وبالتالي سيكون مُطالباً بتفسير وجودها بأسباب غير مادية، وهو ما يُجادل فيه أساساً حول وجود خالق متعال عن المادة.
- إن أنكر وجود حرية الإرادة: سيكون إذن قد حكم على كل منظومة أخلاقية كيفما كانت باللامنطقية والوهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : Sam Harris, Free Will, P:5, New York: FREE PRESS, 2002.
[2] : Dawkins, Richard, River Out of Eden: A Darwinian View of Life, P:133, Weidenfeld & Nicholson, London, 1995