عناصر الخطبة
1/ آثار الذنوب على الفرد
2/ آثار الذنوب على الشعوب
3/ ذنوب تستوجب لعنة الله
المعاصي سببٌ للهلاكِ، ومؤهلٌ للدمارِ، وجالبٌ للغضبِ، وَمَحلٌ للمقتِ، وطريقٌ للخسران؛ المعاصي يُسْتمطَرُ بها الغضبُ، ويُسْتنزَلُ بها العذابُ، ويُمْحَقُ بها الرزق؛ ُتُذَلُّ بها الشعوبُ، وتُظْلِمُ بها القلوبُ، وتَطْمُسُ البصائر، وتُجْدِبُ الأَفكارُ؛ ضررُها كبيرٌ، وخطرُها عظيمٌ، وشؤمُها مفزعٌ؛ آثارُها تنال الفردَ والجماعةَ، والصغيرَ والكبيرَ، والبلدَ والأمةَ.
هذا، وإنَّ التلبُّسَ بالمعاصي والإصرارَ عليها يوقعُ المرءَ أو الأمةَ لا -محالةَ- في بعض آثارِها وما يترتبُ عليها، وإنْ نجا من إحداها وقع في الأخرى؛ ولقد حذَّر الكتابُ الكريمُ والنبيُّ العظيمُ من الذنوبِ والمعاصي، وأنها مَغْضَبَةٌ للهِ، مَتْلَفَةٌ للدينِ، مَمْحَقَةٌ للبركةِ، وأن المؤمنَ يجبُ أنْ يكونَ سريعَ التوبةِ، كثيرَ الأوبةِ، خاشعًا لربهِ، مراجعًا لقلبهِ، مستغفرًا لذنبهِ، نادمًا على تقصيرِه؛ وأنَّ الإصرارَ على الذنوبِ والمداومةَ على المعاصي يُخرِجُ المَرءَ عن مقتضياتِ الإيمان، ويعرضه لغضب الرحمن.
وإنَّ للذنوب آثارًا قبيحة، وثمارًا نكدة، ونتائجَ مرعبةً، وسوف نذكرُ بعضًا من آثارها على الأفرادِ والشعوبِ، خصوصًا ونحن في زمنٍ هانت معه المعاصي، واستُسيغت الذنوبُ، وسُكِتَ عن المنكرِ، وأُلِفَتِ الخطايا، إلَّا من رحم ربك!.
إنَّ الإيمانَ باللهِ تعالى، والتصديقَ بوعدِهِ ووعيدِهِ، يجعلُ المؤمنَ في خوفٍ دائمٍ، وحَذَرٍ مستمرٍ من الوقوع فِيما يُغْضِبُ خَالقَهُ، أو يخالفُ أوامرَهُ، وذلك هو الإيمانُ الحقُّ.
أيها المؤمنون: ما أشدَّ حاجتَنَا إلى مراجعةِ إيمانِنا، وتنقيةِ ضمائرِنا، وتزكيةِ أنفسِنا، وتذكيرِ بعضِنا بما يقربُنا من ربنا -جل وعلا-! وإذا كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتوبُ إلى اللهِ ويستغفرُه مائةَ مرةٍ، وهو المبرَّأ من الذنبِ، المنزَّهُ عن المعصيةِ، فكيف بِمَنْ تجارتُه الذنوبُ، ومَيْدانُه المعاصي، وديدنُه التقصيرُ؟!.
إننَّا نشكو قسوةً في قلوبِنا، وظلمةً في نفوسِنا، ومَحقًا لبركة رزقِنا وأعمارِنا، وضياعًا في أبنائِنا، وعدمَ إجابةٍ لدعائِنا، وذلةً علينا، وهوانًا فينا، ومصائبَ تحلُّ بنا، ونوازلَ تطالُنا، والسببُ في ذلك كلِّه -لو تأملنا- هو الذنوبُ والمعاصي التي تهتزُّ لها الرواسي، وتخرُّ لها الجبالُ، وتنشقُّ الأرضُ، (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
إنَّ ضررَ الذنوبِ والمعاصي في القلوب أشدُّ من ضررِ السمومِ في الأبدانِ، وإن الذي أخرج الأبوين من الجنةِ ولذَّاتِ النعيمِ هو المعصيةُ، وإن الذي أخرجَ إبليسَ من ملكوت السماواتِ وعرَّضَهُ للطردِ واللعنةِ هو المعصيةُ، وإن الذي أغرقَ كثيرًا من الأممِ وأهلكَها هو المعصيةُ، وإنَّ الذي أرسلَ على قوم ثمودَ الصيحةَ وقُطِّعَتْ قلوبُهم وأجوافُهم حتى ماتوا هو المعصيةُ، وإنَّ الذي خسفَ بقارونَ ودارِه وأهلِه هو المعصيةُ؛ وهكذا، على مرِّ السنينِ وتعاقب الأزمان لا زالت المعاصي تفعلُ بأصحابها الأفاعيلَ، ولكن أين المعتبرونَ والمدَّكرونَ ؟!.
إنَّ آثارَ المعاصي أكثرُ من أن تحصى، وأجلُّ من أن تحصرَ، ومنها ما هو واضحٌ للإنسان، ظاهرٌ للعيَانِ؛ ومنها ما قد يخفى على المرءِ فلا يكاد يُفْطَنُ له، كما رُوِيَ عن أحدِ النَّاس أنه قال: وقعتُ في الذنوب والمعاصي فلم يعاقبْني ربي بشيءٍ، فرأى في منامِه مَن يقول له: كيف تقول ذلك ! ألم أحرمْك لذَّةَ مُنَاجاتي، وحلاوةَ طاعتي؟!.
ومن آثار الذنوب وعقوباتها حرمانُ العلم النافع؛ فإنَّ العلمَ نورٌ يقذفُه اللهُ في القلوبِ، والمعصيةُ تطفئُ ذاك النورَ. لما جَلَسَ الإمامُ الشَّافعيُّ بين يدي الإمامِ مالكٍ يطلبُ العلمَ عنده فرأى فيه علاماتِ الفطنةِ والذكاءِ، قال له: يا شافعيُّ، إني أرى اللهَ قد ألقى على قلبِك نورًا فلا تطفئْهُ بظلمةِ المعصية. فحفظَ الشافعيُّ هذه الوصيةَ، فأنارَ اللهُ به وبعلمِه أرجاءَ المعمورةِ، وسيظلُّ إلى قيامِ الساعةِ.
ومِنْ آثارِ الذنوبِ وعقوباتِـها حرمانُ الرزقِ، وقد يقولُ قائلٌ: وهل أكثرُ أصحاب الأموالِ إلَّا من المتلبسينَ بالذنوبِ، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟! فنقولُ: العقوبةُ بحرمان الرزقِ تكونُ بأحدِ أمرينِ: إما بمنعِ الرزقِ أصلا أو قلَّتهِ، وهذا قد يكونُ أخفَّ في العقوبةِ، وإما بإغداقِ الرزقِ على الإنسانِ وحرمانهِ روحَهُ وبركتَهُ وثمارَهُ النافعةَ؛ فلا يزدادُ به من اللهِ إلَّا بُعدًا، ومن الحقِّ إلا مقتًا، فيرى الناسُ أنه غنيٌّ وهو فقيرٌ مجدبٌ، فقيرُ الروحِ، فقيرُ التقوى، فقيرُ السعادةِ، فقيرُ الراحةِ.
ومن آثارِ الذنوبِ الوحشةُ التي يجدُها العاصي في قلبهِ وبينَه وبينَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، وهذه من أخطرِ الآثارِ وأقبحِ العقوباتِ أَن يكونَ بينَ القلبِ وبينَ مددهِ ونورهِ وحشةٌ وجفوةٌ، وأن يظلمَ بالمعاصي، ويسودَ بالذنوبِ. يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنَّ للحسنةِ ضياءً في الوجهِ، ونورًا في القلبِ، وسعةً في الرزقِ، وقوةً في البدنِ، ومحبةً في قلوبِ الخلقِ؛ وإنَّ للسيئةِ سوادًا في الوجهِ، وظلمةً في القلبِ، ووهنًا في البدنِ، ونقصًا في الرزقِ، وبغضةً في قلوبِ الخلقِ.
ومن آثارِ الذنوبِ حرمانُ الطاعةِ، فلو لم يكنْ للذنبِ عقوبةٌ إلا أن يصدَّ عن طاعةٍ تكونُ بدلًا منه لكفى، بذلك عقوبةً!.
ومن آثارِ الذنوبِ أنها تقصرُ العمرَ، وتمحقُ البركةَ؛ ومن آثارِها أنها تجرُّ لأمثالِـها، ويولِّدُ بعضُها بعضًا حتى يصعبُ على المرءِ الخروجُ منها؛ فإنَّ من عاقبةِ السيئةِ السيئةُ بعدَها، ولا يزالُ العبدُ يألفُ المعاصيَ ويتهاونُ بالخطايا حتى تفتحُ له أبوابَـها، وتجرَّهُ إلى متالفِها.
ومن آثارِها أنَّ القلبَ يألفُها ويستسيغُها فتصيرُ له عادةً، فلا يهمُّهُ الوقوعُ فيها، ولا رؤيةُ الناسِ له عليها، ولا كلامُهم فيه، وهذا غايةُ التبلدِ والمجاهرةِ، ولا يزالُ العبدُ يرتكبُ الذنبَ حتى يهونَ عليه، ويصغرَ في قلبه، وذلك علامةُ الهلاكِ؛ والذنبُ كلما صَغُرَ عند العبدِ عَظُمَ في عينِ اللهِ؛ وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: إنَّ المؤمنَ يرى ذنوبَه كأنها في أصلِ جبلٍ يخافُ أن يقعَ عليه، وإن الفاجرَ يرى ذنوبَه كذبابٍ وقعَ على أنفهِ فقالَ به هكذا فطارَ. أخرجه أحمد.
وإنَّ إِلْفَ المعاصي والذنوبِ أصبحَ ظاهرةً عالميةً في هذا الزمنِ، وإنَّ نظرةً واحدةً إلى ما تتبجحُ به القنواتُ، وتجاهر به الشاشاتُ، وتتلطخُ به الصحفُ والمجلاتُ، تدلُّك على الانحدارِ المخيفِ، والإِلْفِ المقيتِ لدى الناسِ لتلك المظاهرِ المخزيةِ، والذنوبِ الماحقةِ.
ومن آثارها أنها تورثُ الذلَّ، ولا بدَّ؛ فإنَّ العزَّ كلَّ العزِّ في طاعةِ اللهِ، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا) [فاطر:10]. إنَّ ما حلَّ بالمسلمينَ في هذا الزمنِ من كوارثَ ونوازلَ واعتداءٍ، وضعةٍ وضعفٍ، وتفرقٍ وتمزقٍ، سببُه الأولُ البعدُ عن اللهِ، واتِّباعُ الهوى، والإغراقُ في المعاصي.
ومن آثارها أنها تطفئُ نورَ العقلِ، وتفسدُ توهجَهُ، وأنها تسلبُ صاحبَها أسماءَ المرحِ والشرفِ، وتكسوه أسماءَ الذمِّ والصَّغارِ عند اللهِ وعند الخلقِ، فتسلبُ منه اسمَ المؤمنِ، والبرِّ، والمحسنِ، والمتقي، والمطيعِ، والمنيبِ، والوليِّ، والوَرِعِ، والصَّالحِ، والعابدِ، والخائفِ، والأوَّابِ، والطَّيب، وغير ذلك؛ وتكسوه اسمَ الفاجرِ، والعاصي، والمخالفِ، والمسيءِ، والمفسدِ، والخبيثِ، والمسخوطِ، والزاني، والسارقِ، والقاتلِ، والكاذبِ، والخائنِ، والغادرِ، وأمثـالِـها، (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات:11].
ومن عقوباتِ المعاصي أنها توجبُ القطيعةَ بين العبدِ وبين ربِّه -تبارك وتعالى-، فإذا وقعت القطيعةُ انقطعت عن الإنسانِ أسبابُ الخيرِ، واتصلت به أسبابُ الشرِّ، فأيُّ فلاحٍ وأيُّ نجاحٍ وأيُّ رجاءٍ وأيُّ عيشٍ لمن انقطعتْ عنه أسبابُ الخيرِ، وقطعَ ما بينَه وبينَ اللهِ من حبالِ الطَّاعةِ، وأسبابِ القُربِ والمودةِ؟!.
ومن أقبح عقوباتِ المعاصي وآثارِها أنها تُدخلُ العبدَ تحت لعنةِ اللهِ ولعنةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ، وقد لعنَ رسولُ الله ِ-صلى الله عليه وسلم- على مَعَاصٍ مع أنَّ غيرهَا أكبرُ منها؛ فهي أولى بدخولِ فاعلِها تحتَ اللعنةِ.
وممن لعنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: الواشمةَ والمستوشمةَ، والواصلةَ والمستوصلةَ، والنامصةَ والمتنمصةَ؛ ولعنَ آكلَ الرِّبَا، وموكلَهُ، وكاتبَهُ، وشاهدَهُ؛ ولعنَ السارقَ؛ ولعنَ شاربَ الخمرِ، وحاملَها، وساقيَها، وعاصرَها، ومعتصرَها، وبائعَها، ومشتريَها، وآكلَ ثمنِها؛ ولعنَ مَنْ لَعَنَ والديـه؛ ولعنَ من عَمِلَ عَمَلَ قومِ لوطٍ؛ إلى غير ذلك من الذنوبِ التي تعرِّضُ للَّعنةِ والغضبِ.
وكذلك في القرآنِ الكريمِ حلَّتْ لعنةُ اللهِ على كثيرٍ من الذنوبِ وأربابها؛ فقد لعنَ مَنْ كتمَ مَا أنزل اللهُ من البيناتِ والهُدَى، ولعنَ الذين يرمونَ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمناتِ إلى غيرِ ذلك؛ فلماذا يعرِّضُ المرءُ نفسَه للّعنةِ والمقتِ والغضبِ؟! والعياذُ باللهِ!.
إنَّ الذنوبَ شرٌّ خطيرٌ، وداءٌ مفزعٌ يجبُ على المرءِ البعدُ عنها، والحذرُ من شؤمِها؛
وليس معنى ذلك أن المؤمنَ لن يقعَ في ذنبٍ أو يتلبَّسَ بمصيبةٍ؛ فطبيعةُ البشرِ النقصُ، والوقوعُ في الذنوبِ، ولكنَّ خيرَ الخطَّائين التوابون، وكما يقول -صلى الله عليه وسلم-: “لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون يغفر لهم” أخرجه مسلم.
إنهم إذا أذنبُوا وأخطؤُوا ذكروا اللهَ فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفرُ الذنوبَ إلَّا اللهُ؟ ولم يصرُّوا على ما فعلُوا وهم يعلمونَ؛ واللهُ تعالى هو الغفورُ الرحيمُ، الجوادُ الكريمُ، ينادي عبادَه قائلا: “يا عبادي! إنكم تُخطِئونَ بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفرْ لكم”