لا يخفى على مسلم، ولا مسلمة، منزلة الوالدين فى شريعتنا الغرَّاء، التى تُسْعِدُ الآباء والأمَّهات، وتؤكد فى نفوسهم تكريم شريعتهم لهم، بنصوص قطعيَّة فى كتاب الله وسنة نبيِّه، فيسعد الآباء والأمَّهات باقتران الأمر بالإحسان إليهم بإفراد الله بالعبادة فى قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، وتزداد الأمَّهات سعادة، بتذكير ربِّ العزَّة للأبناء بمعاناتهن آلام الحمل والرَّضاع، فى معرض أمر الأبناء بالإحسان للوالدين: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ ..}، و{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، وتبلغ سعادتهن ذروتها بأمر رسولنا ببرها، وحسن صحبتها ثلاثة أضعاف ما أمر به للوالد، فى إجابة رسولنا عن سؤال صحابى، فعن أَبُى هُرَيْرَةَ، «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ»، وتُتَوَّجُ سعادة الأمَّهات بقول رسولنا لمن ألحَّ عليه ليخرج معه للجهاد، بعد أن علم رسولنا أن أمَّهُ على قيد الحياة، وأنَّه يرعاها: «وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ»، ويسعد الآباء والأمَّهات بأنَّ طاعتهم من أعلى القُرَبِ، وأنَّ عقوقهم من الكبائر التى تورد مرتكبها مورد الهلاك.
وهذه المنزلة العالية للوالدين فى شريعتنا، يفهمها بعض الآباء والأمَّهات فهمًا خاطئًا، حيث يظن بعضهم أن إنجابهم للأبناء يكفى لحصولهم على هذا الشرف العظيم، والمنزلة الرفيعة التى جعلها شرعنا للوالدين، وهذا فهم مغلوط بالكليَّة، فإنجاب الأبناء أحد أسباب التكريم وأدناها وليس أعلاها، فإنجاب الأطفال غريزة توافق هوى النفس البشريَّة، وناتج رغبة وشهوة، ترتكب المعاصى من الكثيرين لإشباعها، وتكون من سائر المخلوقات، وليست قاصرة على بنى الإنسان.
أمَّا بقية أسباب التكريم، فهى تبدأ من حسن اختيار الزوج والزوجة، وتسمية المولود باسم لا يجعله محلًا لسخرية أقرانه، وتحمُّل مشقات تنشئته وتربيته، وإحسان تأديبه وتعليمه حتى يصل إلى بر الأمان، ويكون قادرًا على بناء أسرة جديدة.
ولعل الكثيرين من الآباء والأمَّهات يدركون أنهم يقصِّرون تقصيرًا شديدًا فى القيام بمهام كثيرة من أسباب وعناصر التكريم لهم من قِبَلِ شريعتنا، فبكلِّ تأكيد ليس من المكرمين، هذا الأب الذى ترك أولاده وانطلق خلف ملذاته تاركًا الأم تعانى وتكابد، وربَّما تتسول، أو تعمل فى البيوت لإطعام أولاده، وليس من بينهم هذه الأمُّ المجرمة والأبُّ الفاسد، واللذان تركا طفلهما وحيدًا حتى مات من الجوع والعطش، وهذا المجرم الذى تجرَّد من كل مشاعر الأبوَّة والإنسانيَّة فاعتدى على ابنته، مغتصبًا، مرارًا وتكرارًا حتى حملت وأنجبت، وليست منهم الأم التى فعلت هذا مع ولدها، فحملت ثم أخذت تبحث عن فتوى لإجهاضه، وليس منهم تلك المجرمة التى ساعدت عشيقها فى قتل أولادها وزوجها، وليس منهم مَنْ نكلت بأولادها انتقامًا من زوجها فوصل بها الحد لِكَيِّهِم بالنَّار، وأحدهم رضيع لم يكمل عامه الأول، بل ليس منهم المتعنتون بعد انفصالهم، وتفننهم فى حرمان طرف من رؤية ولده تحت ستار الحضانة، وليس منهم مَنْ مَنَعَ بناته من الإرث واختص به الذكور الذين لن يترحموا عليه قطعًا، فلن يوفقهم الله لتذكره والترحم عليه لارتكابه هذه الجريمة فى حق أولاده، وليس منهم مَنْ فضَّل بعض أولاده على بعض من دون سبب، ولا منهم مَنْ تتبع بناته يتهمهنَّ فى سلوكهنَّ وشرفهنَّ، ليصرف عنهم الخطاب!
وإذا كان هؤلاء وأمثالهم كثير خارج دائرة الآباء والأمَّهات المكرمين من قبل رب العالمين، وأنَّهم إن لم يصلحوا ما أفسدوا إن أمكنهم ذلك ويتوبوا إلى ربهم، فقواعد الثواب والعقاب التى علمناها فى شرعنا تقضى بأنَّهم فى جهنم وبئس المصير مع عتاة المجرمين، فلا حرج على فضل الله، وليس بمقدور أحد أن يمنعهم من التوبة مهما عظمت ذنوبهم، وعقوقهم لأولادهم، أو جناياتهم فى حقهم، ولا نطالب أو نقر الأولاد الذين عقهم آباؤهم على عقوقهم لوالديهم، فقد علمنا من شرعنا بقاء حق الأبوين فى حسن الصحبة، ولو كان كلاهما، أو أحدهما، على غير دين الإسلام: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
غاية الأمر، أن الدعاة يجب أن يطلقوا صيحات تحذير للآباء من عقوق الأبناء، ولا يقتصروا على ترديد المطالبة للأبناء بطاعة الوالدين، وتذكيرهم بقائمة حقوقهما عليهم، دون أن نوجه كلمة للمقصِّرين فضلًا عن المجرمين من الآباء والأمَّهات، فكما يعق الأبناءُ الآباءَ، فهناك عقوق من الآباء للأبناء، وإذا كان عقوق الأبناء للآباء قد يرجع إلى طيش الشباب واندفاعه وقصور عقله أحيانًا وجهله بأحكام شرعه، فقد يكون أيضًا بسبب سوء تربية الوالدين لهم، أمَّا عقوق الآباء للأبناء فليس له ما يبرره إلا اختلال الفطرة، والبعد عن شرع الله، وفَقْد النخوة، والإحساس بالمسؤوليَّة التى تليق بالرجال والنساء على السواء.
كما أن الجهات التشريعيَّة يجب أن تشدد العقوبات للآباء والأمَّهات على جرائمهم فى حق الأبناء، كما هو الحال والشأن بالنسبة للعاقين من الأبناء، ولا أعتقد أنَّ محاميًّا يؤمن بدينه حقًّا يقبل الترافع عن قاتلين لولدهما جوعًا وعطشًا، أو معذبة لأولادها انتقامًا من زوجها الذى خانها، وأمثال هؤلاء من عتاة المجرمين من الآباء والأمَّهات وغيرهم، وإن تسببه فى إفلات المجرم بجريمته يجعله بمثابة الشريك فى الجريمة.
فيا أيها الآباء والأمَّهات، أنقذوا أنفسكم من النَّار قبل فوات الأوان، فأحسنوا الاختيار عند الزواج، وتحمَّلوا مسؤولياتكم تجاه أسركم وأولادكم؛ لتلحقوا بقائمة المكرَّمين من الآباء والأمَّهات، وإلا فأبشروا بنار جهنم وبئس المصير غير مأسوف عليكم.